أرادت دولة إنجلترا بعد تبوئها أرض مصر، أن تدخلها تحت حمايتها، وأن تبدل العساكر الوطنية بإنجليزية، وأن تقيم في السودان سلطنة مستقلة، وحاولت في ذلك إرضاء المصريين بأنه من الضرورات لتنظيم أحوالهم وإقرار الراحة بينهم، وتسكين روع العثمانيين بحفظ الحق وتخفيف الوزر، وكان لكل أن يستبشر بهذه الخدمة الجليلة إن تمت، ولولا ما لدولة إنجلترا من تقسيم الممالك التيمورية في الهند، وإقامتها لكل قسم حامية من قبلها، وكان هذا أكبر الأسباب وأصغرها لاستيلائها على الأقطار الهندية، وإنا لنأسف على التفاوت بين الزمانين، والتباين بين المكانين، فلا الإحسان الإنجليزي يمكن تتميمه، ولا العثمانيون والمصريون يستبشرون بنوله، وخطر الأمرين غير يسير.
ظهرت دعوى المهدوية في السودان، واشتد أزر القائم بها بمسارعة الإنجليز إلى التداخل في مصر بحجة حفظ باب الهند، وعظم خطب الداعي بعدما أراق دماء غزيرة، ودبت روح دعوته إلى سواحل البحر الأحمر وحدود مصر الطبيعية ، وأمالت القلوب إليه نفرتها من السلطة الإنجليزية.
يقرب من الظن أن نفثاته مازجت أفئدة العرب في فيافي طرابلس، أو قاربت، وأن هذه النيران التي يشعلها بالبكاء على الدين والنواح على امتهانه، لا تلبث أن تنقض شرارة منها على جزيرة العرب، وفيها يصعد عويل الدين ونحيبه إلى عنان السماء، وعند ذلك يمسي باب الهند بين ألسنة النيران من جهتين بل من ثلاث جهات، أيبعد عند العقل وبريطانيا لاهية بإنقاذ الباب أن تتقد النيران في البيت؟! إن الخطر اليوم أشد مما اهتمت بدفعه سابقا، ماذا أخذت من الوسائل لدفع هذه الغائلة؟
أرسلت جوردون باشا إلى السودان لتفريق كلمة المحاربين ورقية محمد أحمد الحمداني، السودانيون لم تلتئم جراحهم من ظلم جوردون أيام كان حاكما مستبدا عليهم، وفي علمهم أنه أعدى أعداء الديانة الإسلامية؛ فقد طلب وهو فيهم قسسا من السويس لنشر المذهب البروتستانتي بين مسلميهم، فهل تمكنه الفصاحة الإنجليزية أن يمحص صدور العرب من الضغينة الدينية والدنيوية، بعدما رسخت أعواما، ويمحوها في بضعة أيام، وهل يسهل عليه إرضاء محمد أحمد، بعدما قام بدعوة عظيمة كهذه بمنحه لقب أمير كوردفان، أو هل يقنع صاحب هذه الدعوى بمثل هذا اللقب بعدما تسنى له من الفتوحات واستولى على تلك البلاد بدون إذن جوردون، قد يظن هذه الظنون من لا وقوف له على حقيقة دعوى المهدوية وموقعها من قلوب المسلمين، ويكفي لكشف بعض ما في الغيب ما اتفقت عليه الجرائد الإنجليزية والفرنسية وأثبتته المخابرات الرسمية من إخفاق جوردون في سعيه كما تراه في غير هذا المقام.
ساقت خمسة آلاف، وعلى بعض الروايات: أربعة آلاف جندي تحت قيادة الجنرال جراهام إلى سواحل البحر الأحمر لاسترجاع شرف بيكر باشا، وثار ضباطه من الإنجليز (أما هكس باشا وضباط جيشه فلبعدهم عن البحر لا شرف لهم ولا ثأر)، وغلب هذا الجيش، المدرب الكامل العدة الشاكي السلاح من أجود طرز، ثلاثة آلاف من عراة العرب السودانيين (بمعنى أنه قتل منهم ثمانمائة بدوي) والقبائل على عصبيتها لم تحن بعد، هل بهذا تدفع الغوائل ؟! أيظن ذو عقل أن فاتحا فتك بعشرة آلاف جندي مرة وألفين وخمسمائة مرة أخرى جميعها تحت إمرة مشاهير من جيش إنجلترا يخور عزمه لانهزام شرذمة من المنتسبين إليه، وهل يؤثر هذا وهنا في اعتقاد المذعنين لدعوته؟! سبحان الله! كان لغلبة هذا الجيش رجة في إنجلترا، وخيل لحكومتها أنه نجاح في العمل، وربما نشأ هذا الخيال من التهنئات التي وردت إليها من الدول وسفرائها مما لم ينله نابليون الأول وغليوم الألماني.
أقول، وحق ما أقول، إن الضريم شديد، فإن ترك امتد وأخاف الدانية والقاصية، وليس في إمكان جوردون ولا أحذق سياسي في إنجلترا أن يخمد لبه والمناوشات البريطانية تحضره فتزيده اشتعالا، وإنما يتيسر إطفاؤه لأولي العزم من العثمانيين والمصريين؛ لكونهم على شاكلة صاحب الدعاوى وبيدهم عنانها.
كان من حذق الإنجليز لو اكتفوا في حفظ باب الهند بعضد العثمانيين وخضوع المصريين مع القوة البريطانية، والتفتوا إلى ترميم سياج الهند من الجهة الشمالية، ماذا يفيدهم سد الباب إذا وهى الأساس فتداعت الجدران وخر السقف، إن قبائل التركمان في «مرو» مع شرس طباعهم لحقوا بدولة الروس اختيارا بعدما كانوا مستقلين في أمورهم لا يدينون لسلطة أجنبية عنهم، فأي مانع يمنع تركمان سرخس، وهم سنيون، من الاقتداء بهم؛ تخلصا من حكومة فارس المخالفة لهم في المذهب، فإن تم هذا فتح للروس طريق فراه إلى قاين إلى سجستان، وأي قوة تصدها عن طمعها، وإن حلت في سجستان أو فراه فأية عقبة بينها وبين الهند؟
إن قبائل أزبك من سكان «ميمنة» و«أندخو» و«شيورغان» و«سربول» وسائر بلاد بلخ إلى «وبلميان» في ضجر من الحكومة الأفغانية، أفلا يتبع هؤلاء أثر أبناء أعمامهم التركمان، فإن غفلوا فتحت لهم روسيا بابا من الملاطفة، وذهبت بهم في طرق من سياسة اللين لتشويقهم إلى الدخول في حمايتها والتملص من نير الأفغانيين، وليس في قوة حكومة الأفغان كبحهم إن أرادوا لضعفها فيهم.
إن قبائل هزازة من الشيعة الساكنين في الجبال الممتدة من هراة إلى كابول ينتحلون الأسباب للخروج على حكومة الأفغان نفرة من سلطة السنيين، وقد كانوا في الحرب الأخيرة بين الإنجليز والأفغان متفقين مع الإنجليز، فهم بعدما يرون جيرانهم انحازوا إلى الروس، أفلا ينزعون إلى مجاراتهم خصوصا إذ لمعت لهم بوارق الوعود الروسية، هذا كله يكون، فتشرف روسيا بعد على الميدان المتسع الممتد من هراة إلى قندهار إلى غزنة بل إلى كابول من جهات كثيرة، فهل بعد هذا يبقى للهند سياج؟ وهل يمكن أن يقام في وجه روسيا مانع من المسير إليه؟ وهل ينفع عند ذلك الوقوف على نافذتي «قناة السويس»؟
أليس يسهل على الروس عند إشرافهم على تلك المواقع الإيقاع بين قبائل الأفغان وبين المرشحين للإمارة، ويتخذون منهم أحزابا كما فعلوا بخوانين القرم؟
Página desconocida