المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله الحمد لله الذي لا يخيب لديه أمل الآملين، ولا يضيع عنده عمل العاملين، فهو جبار السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين. أما بعد: فإن الله تعالى خلق الدنيا دار زوال، ومحل قلق وانتقال، وجعل أهلها فيها غرضًا للفناء، ومقاساة الشدة والبلاء، فشاب حياتهم فيها بالموت، وبقاءهم بحسرة الفوت، وجعل أوصافهم فيها متضادة، فقرن قوتهم بالضعف، وقدرتهم بالعجز، وشبابهم بالمشيب، وعزهم بالذل، وغناهم بالفقر، وصحتهم بالسقم، واستأثر انفراد الصفات لنفسه: قوة بلا ضعف، وقدرة بلا عجز، وحياة بلا موت، وعز بلا ذل، وغنى بلا فقر. وكذلك بسائر صفاته. ثم أقسم بها أجمع فقال تعالى: " والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر ". واختلف الناس فيها من ثلاثين وجهًا، وأشار أبو بكر محمد بن عمر الوراق، ﵀، إلى ما ذكرناه: حدثنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو، قال: حدثنا أبو عبد الله ختن أبي بكر الوراق قال: سأل أبو بكر عن قوله ﷿ " والشفع والوتر " فقال: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين والوتر انفراد صفات الخالق ثم ذكر نحوًا مما قلنا. وعلى هذا المثال قرن خبرتهم بالعبرة، وفرحهم بالترح، ولذلك قالت

1 / 6

الحكماء وكفاك بصحتك سقمًا، وبسلامتك داء. حدثنا أبو عبد الله بن عبد الله بن أحمد الخطيب الميداني بزوزن، قال: حدثنا أبو قريش محمد بن خلف الحافظ، قال: حدثنا محمد بن زنبور المكي قال حماد بن زيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: كفى بالسلام داء. سمعت الفقيه أبا حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي بها، قال: سمعت أبا الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله، قال: سمعت أبا داود سليمان بن معبد الشنجي يقول أنشدنا بعض الأدباء: كانت قناتي لا تلين لغامز ... وألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربي بالسلامة جاهدًا ... لمعيشتي فإذا السلامة داء وأخبرنا محمد بن عيسى بن علي بمرو الروذ قال: أخبرنا يوسف بن موسى قال: حدثنا بشر بن عبد الغفار الواسطي عن يحيى بن هاشم السمسار قال: قال مسهر لعطية العوفي: كيف أصبحت؟ قال: في سلامة مشوبة بداء، وعافية داعية إلى فناء. قال: وحدثنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون قال: حدثنا أبو حامد المستملي: حدثنا محمد بن الحجاج: حدثنا جميل بن يزيد، عن وهب بن راشد، عن فرقد السنجي، قال: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم أنت في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك. وقيل للحسن: إن فلانًا في النزع. فقال: ما زال في النزع منذ خرج من بطن أمه ولكنه الآن أشد: وهذا حميد بن ثور وهو من فحول الشعراء يقول في بعض قصائده: أرى جسدي قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما

1 / 7

وأنشدنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله السرخسي، قال: أنشدنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن المدغولي، قال: أنشدنا أبو الحسن محمد بن حاتم المظفري: يحب الفتى طول البقاء وإنه ... على ثقة أن البقاء فناء زيادته في الجسم نقص حياته ... وليس على نقص الحياة نماء إذا ما طوى يومًا طوى اليوم بعده ... ويطويه إن جن المساء مساء جديدان لا يبقى الجميع عليهما ... ولا لهما بعد الجميع بقاء وكما شاب صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقلهم بالجنون فلا يخلو العاقل فيها من ضرب من الجنون. ولذلك أشار النبي ﷺ إلى من أبلى شبابه في المعصية فسماه مجنونًا، حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا أبو إسحاق حبان البلخي قال: حدثنا محمد بن مدويه الكرابيسي الترمذي، قال: حدثنا خالد بن خداش عن صالح المرسي عن جعفر بن زيد العبدي عن أنس بن مالك ﵁، قال: بينما رسول الله ﷺ في أصحابه إذ مر به رجل فقال بعض القوم: هذا مجنون، فقال رسول الله ﷺ: هذا مصاب إنما المجنون على معصية الله تعالى. والمجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ولذلك سمت الأمم الرسل مجانين لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه، قال الله جل ذكره " كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعى ربه إني مغلوب فانتصر " وقال تعالى: " وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركته " يعني فرعون وقال ساحر أو مجنون.

1 / 8

سمعت علي بن عبد الله السمرقندي يقول: سمعت أبا القاسم الحكيم يقول: من عرف نفسه كان عند الناس ذليلًا ومن عرف ربه كان عند الناس مجنونًا. ولقد قال مشركو مكة في النبي ﷺ حين تحداهم إلى الايمان بالله: إنه مجنون وساحر وشاعر وكاهن. أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن نصر اللباد، قال: أنبأنا يوسف بن بلال عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ﵄، أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال حين حضر الموسم يا معشر قريش إن محمدًا رجل حلو الكلام، وقد أغار أمره في البلاد وأنجد، وإني لا آمن أن يصدقه الناس، فابعثوا رهطًا من ذوي الرأي والحجى إلى أنقاب مكة على مسيرة ليلة أو ليلتين، ليلقوا الناس، فمن يسأل عن محمد فليقل بعضهم أنه ساحر، وبعضهم أنه مجنون، وبعضهم أنه كاهن، وبعضهم أنه شاعر، إن لم تروه خير من أن تروه فبعثوا ستة عشر رجلًا في أربعة من الطرق في كل طريق أربعة نفر، وأقام الوليد بن المغيرة في مكة يقول لمن يسأل أنه كاهن ومجنون، ففعلوا ذلك فتصدع الناس عن قولهم، فشق ذلك على النبي ﷺ وكان يرجو أن يلقى الناس أيام الموسم، فيعرض عليهم أمره، فمنعه هؤلاء وفرحت قريش وقالوا للنبي ﷺ: هذا دأبنا ودأبك ما عشنا، فنزل جبريل ﵇ ورسول الله ﷺ في الحجر، فمر به الوليد بن المغيرة، فقال جبريل ﵇ للنبي ﷺ: كيف تجد هذا؟ فقال: بئس عبد الله هو. فأهوى جبريل بيده إلى كعبه، فقال: كفيت أمره، فمر الوليد بحائط فيه نبل لبني المصطلق وهم حي من خزاعة وعليه بردان يتبختر فيهما، فعلق سهم بإزاره فمنعته الخيلاء أن ينزعه منه، فنفض السهم، فأصاب أكحله فقتله، ومر به العاص بن وائل السهمي، فقال جبريل: كيف تجده؟ فقال: عبد سوء، فأهوى جبريل بيده إلى باطن قدمه، فقال: قد كفيت أمره. فركب حمارًا يريد الطائف فصرعه الحمار على شوك فدخلت شوكة باطن قدمه فتقيحت فقتلته. ومر به الحارث بن قيس بن عمرو بن ربيعة بن سهم، فقال جبريل: كيف تجد

1 / 9

هذا؟ قال: عبد سوء. فأهوى جبريل ﵇ بيده إلى رأسه، وقال: كفيت أمره. فتفسخ رأسه ومات. ومر به الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، فقال جبريل ﵇: كيف تجده؟ فقال ﵊: بئس العبد هو. فضرب جبريل ﵇ بجندك في وجهه، وقال: كفيت أمره. فعمي ثم مات. وأنزل الله ﷾ على رسوله ﷺ آية " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين " يعني الذين سميناهم. فلما آذى أهل مكة رسول الله ﷺ أخبر الله عنهم فقال: " ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون " وقال: " ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون " وقال: " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون، وما هو إلا ذكر للعالمين " وعزاه فقال: " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " وقال: " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ". ثم ناضل ونضح عن رسول الله ﷺ، فأجاب عنه جميع ما قيل فيه، ولم يكلفه الإجابة عن نفسه كما كلف غيره من الأنبياء ﵈. ألا ترى أن نوحًا ﵇ لما قيل له: " إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين " قال: " يَا قَوْم لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ " وكذلك هود ﵇ لما قيل له: " إنا لنراك في

1 / 10