عنوان التوفيق في آداب الطريق - ابن عطاء الله السكندري
Página 201
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ العارف القدوة المحقق تاج العارفين ولسان المتكلمين إمام وقته ووحيد عصره تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري رضي الله تعالى عنه ونفعنا به آمين الحمد لله المنفرد بالخلق والتدبير الواحد في الحكم والتقدير الملك الذي ليس له في ملكه وزير المالك الذي لا يخرج عن ملكه صغير ولا كبير المتقدس في كمال وصفه عن الشبيه والنظير المنزه في كمال ذاته عن التمثيل والتصوير العليم الذي لا يخفى عليه ما في الضمير
ﵟألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبيرﵞ
Página 203
العالم الذي أحاط علمه بمبادئ الأمور ونهاياتها السميع الذي لا فضل في سمعه بين ظاهر الأصوات وخفاياتها الرزاق وهو المنعم على الخليقة بإيصال أقواتها القيوم المتكفل بها في جميع حالاتها الوهاب وهو الذي من على النفوس بوجود حياتها القدير وهو المعيد لها بعد وجود وفاتها الحسيب وهو المجازي لها يوم قدومها عليه بحسناتها وسيئاتها فسبحانه من إله من على العباد بالجود قبل الوجود وقام بهم بأرزاقهم على كلتي حالاتهم من إقرار وجحود ومد كل موجود بوجود عطائه وحفظ وجود العالم بإمداد بقائه وظهر بحكمته في أرضه وقدرته في سمائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد مفوض لقضائه مسلم له في حكمه وإمضائه
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المفضل على جميع أنبيائه المخصوص بجزيل فضله وعطائه الفاتح الخاتم وليس ذلك لسوائه الشافع لكل العباد حين يجمعهم الحق لفصل قضائه وعلى آله أصحابه المستمسكين بولائه وسلم تسليما كثيرا
Página 204
اعلم يا أخي جعلك الله من أهل حبه وأتحفك بوجود قربه وأذاقك من شراب أهل وده وأمنك بدوام وصلته من إعراضه وصده ووصلك بعباده الذين خصهم بمراسلاته وجبر كسر قلوبهم لما علموا أنه لا تدركه الأبصار لنور تجلياته وفتح لهم رياض القرب وهب منها على قلوبهم واردات نفحاته أشهدهم سابق تدبيره فيهم فسلموا إليه القياد وكشف عن خفي لطفه في منعه فتركوا المنازعة والعناد فهم مستسلمون إليه ومتوكلون عليه
أما بعد فقد قال ( يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )
فإذا علمت أيها الأخ الشقيق فلا تخالل إلا من ينهضك حاله ويدلك على الله مقاله وذلك هو الفقير المتجرد عن السوى المقبل على المولى فليست اللذة إلا مخاللته ولا السعادة إلا خدمته ومصاحبته فلذلك قال الشيخ العارف المتمكن أبو مدين رضي الله تعالى عنه
( ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا
هم السلاطين والسادات والأمرا )
أي ما لذة عيش السالك في طريق مولاه إلا صحبة الفقراء والفقراء جمع فقير والفقير هو المتجرد عن العلائق المعرض عن العوائق لم يبق له قبلة ولا مقصد إلا الله تعالى وقد أعرض عن كل شيء سواه وتحقق بحقيقة لا إله إلا الله محمد رسول الله
Página 205
فمثل هذا مصاحبته تذيقك لذة الطريق وتريق في جميع فؤادك من شراب القوم أهنى رحيق ويعرفك الطريق ويقطع لك العتاب ويزيل عن قلبك التعويق وينهضك بهمته ويرفعك إلى أعلى الدرجات ومن كان كذلك فهو السلطان على الحقيقة والسيد على أهل الطريقة والأمير على أهل البصيرة فلا تخالف أيها السالك طريقه فاجتهد أيها السالك المجد في تحصيل هذا الرفيق واصحبه وتأدب في مجالسه ويزيل عنك ببركة صحبته كل تعويق كما قال رضي الله تعالى عنه
( فاصحبهم وتأدب في مجالسهم
وخل حظك مهما قدموك ورا )
أي اصحب الفقراء وتأدب معهم في مجالستهم فإن الصحبة شبح والأدب روحها فإذا اجتمع لك بين الشبح والروح حزت فائدة صحبته وإلا كانت صحبتك ميتة فأي فائدة ترجوها من الميت
ومن أهم أدب الصحبة أن تخلف حظوظك وراك ولا تكن همتك مصروفة إلا لامتثال أوامرهم فعند ذلك يشكر مسعاك
فإذا تخلفت بذلك فبادر واستغنم الحضور وأخلص في ذلك ترفع درجتك وتعلو همتك والقصور كما قال رضي الله عنه
( واستغنم الوقت واحضر دائما معهم
واعلم بأن الرضى يختص من حضرا )
Página 206
أي واستغنم وقت صحبة الفقراء واحضر دائما معهم بقلبك وقالبك تسري إليك زوائدهم وتغمرك فوائدهم وينصح ظاهرك بالتأدب بآدابهم ويشرق باطنك بالتحلي بأنوارهم فإن من جالس جانس فإن جلست مع المحزون حزنت وإن جلست مع المسرور سررت وإن جلست مع الغافلين سرت إليك الغفلة وإن جلست مع الذاكرين انتبهت من غفلتك وسرت إليك اليقظة فإنهم القوم لا يشقى جليسهم فكيف يشقى خادمهم ومحبهم وأنيسهم وما أحسن ما قيل
( لي سادة من عزهم
أقدامهم فوق الجباه )
( إن لم أكن منهم
فلي في حبهم عز وجاه )
واعلم أن هذا الرضى وهذا المقام يخص من حضر معهم بالتأدب وخرج عن نفسه وتحلى بالذلة والانكسار فاخرج عنك إذا حضرت بين أيديهم وانطرح وانكسر إذا حللت بناديهم فعند ذلك تذوق لذة الحضور واستعن على ذلك بملازمة الصمت تشرق لك أنوار الفرح ويغمرك السرور كما قال رضي الله عنه
( ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل
لا علم عندي وكن بالجهل مستترا )
الصمت عند أهل الطريقة من لازمه ارتفع بنيانه وتم غراسه وهو نوعان 1 - صمت باللسان 2 - وصمت بالجنان
Página 207
وكلاهما لا بد منه في الطريق فمن صمت قلبه ونطق لسانه نطق بالحكمة ومن صمت لسانه وصمت قلبه تجلى له سره وكلمه ربه وهذا غاية الصمت وكلام الشيخ قابل لذلك فالزم الصمت أيها السالك إلا إن سئلت فإن سئلت فارجع إلى أصلك ووصلك وقل لا علم عندي واستتر بالجهل تشرق لك أنوار العلم اللدني فإنك مهما اعترفت بجهلك ورجعت إلى أصلك لاحت لك معرفة نفسك فإذا عرفتها عرفت ربك كما روي في الحديث ( من عرف نفسه عرف ربه ) وكل ذلك من فوائد الصمت ولزوم آدابه فاصمت وتأدب ولازم الباب تكن من أحبابه وما احسن ما قيل
( لا أبرح الباب حتى تصلحوا عوجي
وتقبلوني على عيبي ونقصاني )
( فإن رضيتم فيا عزي ويا شرفي
وإن أبيتم فمن أرجو لعصياني )
فانهض أيها الأخ إلى باب مولاك بهمة علية وتحقق بعبوديتك تشرق عليك أنواره السنية كما أشار إلى ذلك الشيخ رضي الله عنه بقوله
( ولا ترى العيب إلا فيك معتقدا
عيبا بدا بينا لكنه استترا )
Página 208
أي تحقق بأوصافك من فقرك وضعفك وعجزك وذلتك فإذا تحققت بأوصافك وشهدت لنفسك عيوبا لكنها مستترة فعند ذلك تحظى بظهور أوصاف مولاك فيك كما قيل سبحان من ستر سر الخصوصية في ظهور البشرية وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية
وافهم من هنا سر معنى قوله
ﵟسبحان الذي أسرى بعبدهﵞ
ولم يقل برسوله ولا بنبيه أشار إلى ذلك المعنى الرفيع الذي لا ينال إلا من العبودية ولذلك قيل
( لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي )
فانكسر أيها الأخ وانطرح بالطريق ولا ترى لك حالا ولا مقالا يزل عنك كل تعويق واستغفر من كل ما يخطر بقلبك في عبوديتك وقم على قدم الاعتراف وانصف من نفسك تبلغ أعلى درجات المنازل وتفنى بشريتك كما قال رضي الله تعالى عنه
( وحط رأسك واستغفر بلا سبب
وقف على قدم الإنصاف معتذرا )
Página 209
أي تواضع وانكسر وحط أشرف ما عندك وهو رأسك في اخفض ما يكون وهي الأرض لتحوز مقام القرب كما ورد في الحديث ( أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى وهو ساجد ) لأن قرب العبد بتواضعه وانكساره وخروجه عن أوصاف بشريته واشهد نفسك دائما مذنبا ولو لم يظهر عليك سبب الذنب فإن العبد لا يخلو من تقصير وقف على قدم الإنصاف من ذنوبك خجلا من سيئاتك وعيوبك فإن من عامل المخلوق هذه المعاملة أحبه ولم يشهد له ذنبا وكانت مساوية عنده محاسن فكيف إذا عامل بهذه المعاملة صاحبه الحقيقي الذي إذا تحققه ليس له صاحب سواه كما ورد في الحديث ( اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد )
فتأهب أيها الأخ لهذه المعاملة مع إخوانك الفقراء لتصير لك معراجا تتوصل به إلى معاملة رب السماء وتكون مقبولا عند الخلق والخالق وتصفو لك المعاملة وتشرق عليك أنوار الحقايق قال رضي الله عنه
( وإن بدا منك عيب فاعتذر وأقم
وجه اعتذارك عما فيك منك جرى )
( وقل عبيدكمو أولى بصفحكمو
فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا ولا ضررا )
( هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم
فلا تخف دركا منهم ولا ضررا )
أي ليكن شأنك دائما التواضع والانكسار وطلب المعذرة والاستغفار سواء وقع منك ذنب أو لم يقع وإن بدا منك عيب أو ذنب فاعترف واستغفر فإن ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )
وليس الشأن أن لا تذنب إنما الشأن أن لا تصر على الذنب كما ورد أنين المذنبين عند الله خير من زجل المسبحين عجبا وافتخارا
Página 210
ولذلك قلت في الحكم ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول وقضى عليك بالذنب وكان سببا للوصول
رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا
ومع اعترافك واستغفارك أقم وجه اعتذارك عما جرى منك فيكون ذلك ممحى للذنب وادخل في القبول وذل وتواضع وانكسر وقل عبيدكم أولى بصفحكم لأن العبد ليس له إلا باب مولاه وما أحسن ما قيل
( ألقيت في بابكم عناني
ولم أبال بما عناني )
( فزال قبضي وزاد بسطي
وانقلب الخوف بالأماني )
فسامحوا عبيدكم يا فقراء وخذوا بالرفق وعاملوني به فإني عبد فقير لا يصلحني إلا المعاملة بالرفق والفضل ولا اعتماد لي إلا على الفضل لا بحولي ولا قوتي مذهبي العجز والسلام
Página 211
ثم قال رضي الله عنه إنهم أولى بهذا الشيء وهو شيمتهم ولم يزالوا متفضلين وهذه معاملتهم مع أصحابهم وهي سجيتهم وكيف لا تكون سجيتهم وهم متخلقون بأخلاق مولاهم كما ورد ( تخلقوا بأخلاق الله ) فلا تخف منهم ضررا أيها السالك المصاحب لهم وتمسك بأذيالهم فإنهم القوم لا يشقى جليسهم فإذا عرفت ذلك أيها السالك فتخلق بأخلاقهم الكريمة وجد بالتفنى على الإخوان وغض الطرف عن عثرتهم تكن آخذا من أوصافهم أحسن هيئة قال رضي الله عنه
( وبالتفنى على الإخوان جد أبدا
حسا ومعنى وغض الطرف إن عثرا )
أي وتكرم على إخوانك وجد عليهم أبدا إما في الحس فببذل الأموال وإما في المعنى فبصرف همة الأحوال ولا تبخل عليهم بشيء يمكنك إيصاله إليهم فإن السماحة لب الطريق ومن تخلق بها فقد زال عن قلبه كل تعويق
قال الشيخ عبد القادر رضي الله عنه إخواني ما وصلت إلى الله تعالى بقيام ليل ولا صيام نهار ولا دراسة علم ولكن وصلت إلى الله بالكرم والتواضع وسلامة الصدر
فدل كلام الشيخ رضي الله عنه أن الكرم هو الأساس وأن التواضع يتم للسالك به الغراس فإذا تم له هذان الأمران سلم صدره من العلائق وزال عن طريقه كل عائق ولذلك ورد في الحديث ( إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام )
Página 212
فتأمل هذا الحديث يا أخي حيث بدأ بالإنة الكلام وهو إشارة إلى التواضع ثم ثنى بإطعام الطعام وهو إشارة إلى الكرم ثم أتى بعد ذلك بالصلاة والصيام كما أشار إليه الشيخ عبد القادر رضي الله عنه
فانهض أخي إلى هذه المآثر وبادر واجمع معها حسن مكارم الأخلاق وغض الطرف عن مساوي الإخوان إن وقفت منهم على عثرة ولا تشهد إلا محاسنهم كما قال رضي الله عنه في حكمه الفتوحية رؤية محاسن العبيد والغيبة عن مساويهم ذلك شيء من كمال التوحيد كما قيل
( إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا
رأيت جميع الكائنات ملاحا )
فإذا تخلقت أيها الأخ بهذه الخصال الشريفة فقد تأهلت للإقبال على الشيخ فانهض إلى عتبة بابه وراقبه بهمة منيفة كما أشار إلى ذلك الشيخ رضي الله عنه بقوله
( وراقب الشيخ في أحواله فعسى
يرى عليك من استحسانه أثرا )
Página 213
أي إذا تخلقت بما تقدم من الآداب ووصلت بافتقارك وانكسارك إلى الشيخ وتمسكت بأثر تلك الأعتاب فراقب أحواله واجتهد في حصول مراضيه وانكسر واخضع له في كل حين فإنه الترياق والشفاء وإن قلوب المشايخ ترياق الطريق ومن سعد بذلك تم له المطلوب وتخلص من كل تعويق واجتهد أيها الأخ في مشاهدة هذا المعنى فعسى يرى عليك من استحسانه لحالك أثرا
قال بعضهم من أشد الحرمان أن تجتمع مع أولياء الله تعالى ولا ترزق القبول منهم وما ذلك إلا لسوء الأدب منك وإلا فلا بخل من جانبهم ولا نقص من جهتهم كما قلت في الحكم مالشأن وجود الطلب إنما الشأن أن تورث حسن الأدب
زار بعض السلاطين ضريح أبى يزيد رضي الله عنه وقال هل هنا أحد ممن اجتمع بابي يزيد فأشير إلى شيخ كبير في السن كان حاضرا هناك فقال له هل سمعت شيئا من كلامه فقال نعم قال من رآني لا تحرقه النار فاستغرب السلطان ذلك الكلام فقال كيف يقول أبو يزيد ذلك وأبو جهل رأى النبي وهو تحرقه النار فقال ذلك الشيخ للسلطان أبو جهل لم ير النبي إنما رأى يتيم أبي طالب ولو رآه لم تحرقه النار
Página 214
ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه
أي إنه لم يره بالتعظيم والإكرام واعتقاد أنه رسول الله ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار ولكنه رآه باحتقار واعتقاد أنه يتيم أبي طالب فلم تنفعه تلك الرؤية وأنت يا أخي لو اجتمعت بقطب الوقت ولم تتأدب لم تنفعك تلك الرؤية بل كانت مضرتها عليك أكثر من منفعتها إذا فهمت ذلك أيها السالك فتأدب بين يدي الشيخ واجتهد أن تسلك أحسن المسالك وخذ ما عرفت بجد واجتهاد وانهض في خدمته وأخلص في ذلك لتسد مع من ساد كما قال
( وقدم الجد وانهض عند خدمته
عساه يرضى وحاذر أن تكن ضجرا )
( ففي رضاه رضي الباري وطاعته
يرضى عليك فكن من تركه حذرا ) أي وانهض في خدمة الشيخ بالجد فعساك تحوز رضاه فتسود مع من ساد واحذر أن تضجر ففي الضجر الفساد ولازم أعتاب بابه في الصباح والمساء لتحوز منه الوداد وما أحسن ما قيل
( اصبر على مضض الإدلاج في السحر
وللنذور على الطاعات بالبكر )
( وقل من جد في أمر يؤمله
ما استصحب الصبر إلا فاز بالظفر )
Página 215
فإن ظفرت أيها السالك برضاه رضي الله تعالى عنك ونلت فوق ما تمنيت فاستقم أيها الأخ في رضى شيخك وطاعته تظفر بطاعة مولاك ورضاه وتفوز بجزيل كرامته فعض أيها الأخ بالنواجذ على خدمة الشيخ إن ظفرت بالوصول إليه واعلم أن السعادة قد شملتك من جميع جهاتك إذ عرفك الله تعالى به وأطلعك تعالى عليه فإن الظفر به لا سيما في هذه الأيام أعز من الكبريت الأحمر واعلم أن طريق القوم دارسة وحال من يدعيها كما ترى لكن إذا ساعدتك العناية ظفرت وشممت من نفحة طيبة ما يفوق المسك الأذفر ولذلك قال رضي الله تعالى عنه وعنا به آمين
( واعلم بأن طريق القوم دارسة
وحال من يدعيها اليوم كيف ترى )
( متى أراهم وأنى لي برؤيتهم
أو تسمع الأذن مني عنهم خبرا )
( من لي وأنى لمثلي أن يزاحمهم
على موارد لم آلف بها كدرا )
( أحبهم وأداريهم وأوثرهم
بمهجتي وخصوصا منهم نفرا )
Página 216
شرع الشيخ رضي الله عنه يشوق السالكين إلى طريق أهله ويخبرهم أن طريقهم دارسة وحال من يدعيها اليوم كما ترى في الفترة حتى كادت الهمم تكون من الطلب آيسة وهكذا شأن طريق القوم لعزتها كأنها في كل عصر مفقودة ولا يظفر بها إلا الفرد بعد الفرد وهذه سنة معهودة وذلك أن الجوهر النفيس لا يزال عزيز الوجود يكاد لعزته يحكم بأنه ليس بموجود والطريق أهلها مخفية في العالم خفاء ليلة القدر في شهر رمضان وخفاء ساعة الجمعة في يومها حتى يجتهد الطالب في طلبه بقدر الإمكان فإن من جد وجد ومن قرع الباب ولج ولج
قلت بعد أن ذكر لا بد من الشيخ في الطريق على سبيل السؤال والجواب كيف تأمرنا بذلك وقد قيل إن وجود الشيخ كالكبريت الأحمر وكالعنقاء من ذا الذي بوجودها يظفر كيف تأمرني بتحصيل من هذا شأنه فقال لو صدقت في الطلب وكنت في طلبه كالطفل والظمآن لا يقر لهم قرار ولا تسكن لوعتهم حتى يظفروا بمقصودهم
Página 217
فأشار الشيخ رضي الله عنه إلى أن الشيخ موجود وكيف لا يكون موجودا وعمارة العالم إنما هي بأمثاله فإن العالم شخص والأولياء روحه فما دام العالم موجودا لا بد من وجودهم لكن لشدة خفائهم وعدم ظهورهم حكم بفقدانهم فاجتهد أيها الأخ واصدق في الطلب تجد المطلوب واستعن على ذلك الطلب بمدد علام الغيوب فإن الظفر لا يحصل إلا بمجرد فضله وإذا أوصلك إلى الشيخ فقد أوصلك إليه كما قلت في الحكم سبحان من لم يجعل الدليلعلى أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه ثم إن الشيخ رضي الله عنه لما ذكر عزة الطريق وفقدان أهلها شرع يتأسف على الاجتماع بهم ويتمناه ويستبعد من نفسه حصول ذلك والتشرف بلقائه تواضعا منه وانكسارا وهضما لنفسه واحتقارا ولذا قال بعد ذلك من لي وأنى لمثلي أن يزاحمهم إلخ وهذا شأن العارف لنفسه بنفسه الممتلي من معرفة ربه المتحلي بواردات قدسه لأنه لا يرى لنفسه حالا ولا مقالا بل يرى نفسه أقل من كل شيء وهذا هو النظر التام كما قيل
( إذا زاد علم المرء زاد تواضعا
وإن زاد جهل المرء زاد ترفعا )
( وفي الغصن عن حمل الثمار مناله
فإن يعر من حمل الثمار تمنعا )
Página 218
فانظر إلى الشيخ أبي مدين ورفعته في الطريق مع أنه وصل من تربيته اثنا عشر ألف مريد وانظر إلى هذا التنزل منه والتدلي بأغصان شجرة معرفته إلى أرض الخضوع والانكسار حتى إنه لم ير نفسه أهلا للاجتماع بأهل هذه الطريقة ويزيده هذا الانخفاض من الارتفاع لأن الشجرة لا يزيدها انخفاضها في عروقها إلا ارتفاعا في رأسها فتواضع أيها الأخ في الطريق وخذ هذا الأصل العظيم من هذا العارف المتمكن يزل عنك كل تعويق
ثم قال رضي الله عنه تعالى بعد ذلك أحبهم . . إلخ أي وإن لم أكن أنا منهم فإني أحبهم ومن أحب قوما فهو منهم كما ورد في الحديث ( المرء مع من أحب ) وكما قيل
( أحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة )
( وأكره من بضاعته المعاصي
وإن كنا سواء في البضاعة )
وهذا أيضا منه رضي الله تعالى عنه من تمام التنزل السابق وتكميلا وتتميما ولهذا تواضع الذي لم يلحق جواد شرفه في ميدانه لاحق نفعنا الله تعالى ببركاته ووفقنا من معاملاته لأن هذه خصال القوم وصفاتهم ولذلك ارتفعت رتبهم وجزلت عطيتهم كما وصفهم رضي الله تعالى عنه بقوله
( قوم كرام السجايا حيث ما جلسوا
يبقى المكان على آثارهم عطرا )
( يهدي التصوف من أخلاقهم طرقا
حسن التألف منهم راقني نظرا )
( هم أهل ودي وأحبابي الذين
هم ممن يجر ذيول العز مفتخرا )
( لا زال شملي بهم في الله مجتمعا
وذنبنا فيه مغفورا ومغتفرا )
( ثم الصلاة على المختار سيدنا
محمد خير من أوفى ومن نذرا )
Página 219
أي قوم سجاياهم كريمة وهمتهم عظيمة حيثما جلسوا تبقى آثار نفحات عطرهم في المكان ظاهرة وأين ما توجهوا تسطع شمس معارفهم فتشرق القلوب وتصلح بهم الدنيا والآخرة يهدي التصوف للسالك المشتاق من أخلاقهم طرقا مجيدة تدل على الطريق ويسير في سلوكه سيرة حميدة فلذلك جمعوا أحسن تأليف حتى راق كل ناظر وجدوا في أكمل معنى لطيف حتى اكتحلت بكحل اثمدهم أنوار البصائر
ولذلك قال الشيخ رضي الله تعالى عنه بعد ذلك هم أهل ودي وأحبابي . . إلخ فإن الشخص لا يحب إلا من جانسه ولا يود إلا من كان بينه وبينه مؤانسة وفي هذا الكلام إشارة إلى أنه رضي الله تعالى عنه من جملتهم وطينته من طينتهم وما تقدم منه في التواضع والانكسار دليل على التحقيق في هذا المجد والفخار كما تقدمت الإشارة إلى ذلك فنسأل الله تعالى أن يسلك بنا أحسن المسالك
ثم دعا وسأل انه لا يزال شمله مجتمعا بهم في الله تعالى وذنبه مغفورا ونحن نسأله أيضا إتمام الصلاة والسلام على سيدنا محمد المختار خير من أوفى ومن نذر ومن أكرم الجار وعلى آله وصحبه السادة الأبرار والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم القرار
وهذا الرقم لمن تعطش ليله في معاني هذه الأبيات وإلا فنحن معترفون بالعجز والتقصير عن معانيها ( وإنما الأعمال بالنيات ) والله أعلم
Página 220
القصيدة والتخميس
هذه القصيدة لشيخ الشيوخ أبى مدين أعاد الله علينا من بركات علومه والتخميس لسيدي الشيخ محيي الدين بن عربي قدس الله سرهما
( يا طالبا من لذاذات الدنا وطرا
إذا أردت جميع الخير فيك يرى )
( المستشار أمين فاسمع الخبرا
وما لذة العيش إلا صحبة الفقرا )
Página 221