لا يمكنك أن تتصوري كم كانت مفيدة لي نصائحك وتوبيخك! فأنا أستحق بعضها ولي حاجة قصوى بالبعض الآخر. أجل، كنت رصينا يوم حريصا، وكنت أحب الفتاة أو بالحري كنت أعتقدها حبا، تلك العاطفة المضطرمة التي تأججت برهة في مخيلتي الحديثة. في ذلك العهد كنت لا أزال في مدرسة جونية وكنت لا أعرف فتاة إلا تلك الابنة اللطيفة التي كانت رفيقة حداثتي، فضلا عن أنني كنت أجهل متطلبات الحياة فلم أنظر إليها بسوى مقلة شاعر لا يدرك عواقب الأمور. إلا أن الأشهر القليلة التي صرفتها في بيروت بين فتيان أكثر حكمة ودراية مني فتحت لي غلف عيني وأرتني حقيقة الحياة كما هي، لا كما يتصورها الخياليون. أجل يا سيدتي، إن اتحادي مع الفتاة ابنة أديب يكون سببا لشقائي وشقائها وحجر عثرة في طريقي وطريقها؛ لأن ذوقي لا يتفق مع ذوقها وأفكاري لا تتفق مع أفكارها، فابنة أديب جميلة وجذابة عند العملة في جونية وليس في قاعات بيروت ومنتدياتها؛ فالأفضل أن نضع حدا بيننا وأن يتجه كل منا إلى الوجهة التي قدرت له، أشكرك يا سيدتي على تكرمك بأن تكوني صلة بيني وبين الفتاة لا تعدم وسيلة من أن تقول لها الحقيقة وتعزيها. قولي للصديقة ابنة أديب لتنسيني! ...
فتنهدت الفتاة وقالت في نفسها: آه! أجل، سأنسى! سأنسى بسرعة !
كان الغضب يثور ثورته في مكمن عواطفها، ذلك لأنها انتظرته مدة طويلة وكانت تبني عليه آمالها الكبيرة وتتوسم في زواجها حياة ملؤها السعادة والهناء، فأحبطت تلك الآمال في ساعة واحدة وتهدمت مباني أحلامها خشبة خشبة!
أجل، نحلت الفتاة الجميلة فتحولت عنها نواظر العشاق في حين كانت رفيقاتها القرويات قد زففن معظمهن إلى فتيان صالحين وبقيت هي رهينة البيت، هي التي طالما خسفهن جمالها!
ذات يوم كانت تتيه في ساحة المنزل فسمعت أحد الناس يقول: فتاة بلا مهر فتاة بلا راغبين! ...
فتأوهت وقالت في نفسها: إذن فلا حب في هذه الحياة؟ أليس من يحبني؟ ...
وفجأة مرت على وجهها أخيلة فكرة فقالت: بلى، فريد! إنه لم يفاتحني بذلك ولكني تبينت حبه مرارا!
ثم أسرعت إليه فرأته منحنيا على جدول ماء يركز دولابا أزاحه التيار عن مكانه، فنادته بصوت خافت، فالتفت إليها فقالت له: لقد سقطت ثمار الخوخ تحت الشجرة ولم أملأ سلتي هذا المساء، فتعال ساعدني لئلا يعتقد والدي أنني أتهاون في عملي!
قالت ذلك وتواريا في الروض المجاور، كان الروض ملآن بأقفار النحل يفوح منه أرج العسل والسكر، وكانت أغراس القرع الأحمر تزحف على الحضيض الجاف، والحرازين العديدة تركض بين الحجارة والصخور، وتتسلق الجدران ذات الألوان الذهبية. فعندما بلغا إلى شجرة الخوخ وضعت الفتاة سلتها على الأرض وجلست على جدار صغير بدون أن تكترث للثمار وقالت: فريد! فريد! إني شقية تعسة! ...
ثم أطلعته على كل شيء بجرأة غريبة، واستطردت قائلة: لقد أصبحت أحتقره وأبغضه، ولا أريد أن أسمع عنه شيئا! ... ولكن حالتنا الرقيقة أبعدت عني كل محب حتى أصبحت يائسة من الزواج!
Página desconocida