لم تسمع الأم ذلك الثناء الذي وجهه الكاهن إلى فريد بدون أن تغتاظ بعض الغيظ، لا سيما وقد انتبهت إلى تأييد العمال كلام كاهن جونية.
كان الجميع يحبون فريدا ويمقتون أبناء امرأة أبيه؛ لأنهم تشربوا عادات أمهم ونشئوا على النهب والفساد.
منذ ذلك اليوم الذي اختار فيه الكاهن فريدا ليضمه إلى عداد ملائكة الخورس تغيرت طباع الأم سالم واتشحت بوشاح من الحقد كثيف، وأصبحت لا تنثني فترة عن إرهاقه تارة بالأتعاب وطورا بالضرب، حتى إنها منعت عنه اللعب والحرية ونهته إلا عما يثقل عليه ويشقيه؛ وفوق ذلك فقد حجبت عنه الأكل إلا قليلا منه وحرمته بعضا من ثيابه وأمتعة فراشه الحقير، وأعدت له غرفة لا نافذة لها ملأى بالجراذين والفأر وضعت فيها رقعا بالية على قليل من القش وأمرته بأن يصرف فيها ليالي رقاده.
ذات يوم سرق أولاد الأم سالم بيضا من قن السيدة عزيز فجاءت هذه تشكو أمرها إلى أمهم فوقعت الجريرة على فريد المسكين!
وذات يوم غضب أديب؛ لأنه ذهب إلى الحديقة فوجد شجرة الكرز عارية من ثمارها، ولم ير مما زرعه من الخضرة إلا جزءا طفيفا فتهدد أبناء سالم برفع شكواه إلى التحري، فكان أن تهم فريد بكل هذا فنال قسمته من التوبيخ والضرب! وذات يوم وجدت السيدة بطرس ضفدعا لزجا بين صفحتين من رواية «الكونت ده مونتو كريستو» فأصابها هزة عصبية أدت إلى طلب الطبيب الذي خشي عليها من حمى دماغية، وبعد البحث والتدقيق وقع الذنب على فريد فجوزي شر جزاء.
كان فريد البائس يهزل من يوم إلى يوم، وقد توارت عن وجهه ابتسامة الصبا، وأصبح أقرب إلى سكان القبور منه إلى أبناء الحياة!
ففي أحد الأيام سأله الأب يوحنا وقد أبصر أمارات الألم مرتسمة على محياه: بماذا أنت تفكر يا فريد؟ فأجاب الولد: إنني أفكر بالأموات يا سيدي الكاهن، فهؤلاء يستريحون في قبورهم ولا من يسيء إليهم ... آه! إنني أتمنى الموت لأستريح مثلهم!
كانت نبرات صوته ملأى بالألم الساذج والحقيقة الموجعة حتى إن الكاهن لم يملك نفسه من الشفقة، فقال لفريد: ولم هذا اليأس يا بني؟ فلم يقدر الحزن أن يفجر العبرات من مقلتي فريد؛ لأنه تمرن منذ زمن طويل على التجلد وإمساك الدموع، فقال: لا أدري! إلا أنني سئمت الحياة! سئمت الحياة السوداء! •••
كانت ساعات المدرسة وأوقات الخدمة في الكنيسة هي الفرص الوحيدة التي يتذوق فيها لذة الحياة، وكان يعذب عنده أن يحمل المبخرة ويدق جرس التبشير، أما سلوكه في المدرسة فقد كان مثالا يحتذى به، وأما اجتهاده فقد كان موضوع الإعجاب والتكريم.
ذات مساء عاد تلامذة المدرسة إلى منازلهم وكان بينهم ولد في نحو الثانية عشرة من عمره هو ابن يوسف صاحب نزل مجاور للمحطة. كان هذا التلميذ كثير الكسل محبا للشر لا يلذ له إلا الخصام وإزعاج رفاقه الأحداث تارة بنصب أشراك للإيقاع بهم، وطورا بالهزء المتأتي عن الحسد؛ ففيما هم في الطريق أخذ الولد الشرير شعابا محددة الأطراف وشرع يخز بها أقدام الفتاة الصغيرة، فغضب فريد لهذا التصرف السيئ وما تردد أن رماه بضربة قوية فسقط على الأرض، وصادف جبينه حجرا ناتئا فانشق وتدفق الدم غزيرا من الجرح، ففرحت الفتاة وقالت لفريد: لقد أحسنت فعلا، فلنهرب لئلا يتشبث بنا هذا الشقي ويرهقنا ألما، إلا أن إلياس الشرير غسل جبهته بماء إحدى السواقي وأخذ يرشق الهاربين بالحجارة، ولما أصبحا في مأمن منه وقفت الفتاة وقالت لفريد: فلنسترح قليلا يا رفيقي ولا تخش ضررا من إلياس فهو أضعف من أن يتمكن منا، أولا تراه يبكي كفتاة صغيرة ولا يجرؤ أن يتقدم إليك، بالرغم من قوته التي تفوق قوتك عشر مرات؟ فسمع إلياس هذا الكلام فثارت في رأسه سورة الغضب وهجم على الولدين كالنمر الشرس، ولم تمض بعض ثوان حتى تمكن من فريد فطرحه على الحضيض، وأخذ يضربه ضربا موجعا حتى نبع الدم من شفتيه، عند هذا صرخ الأولاد بصوت مرتفع: النجدة! النجدة!
Página desconocida