أبي حنيفة رضي الله عنه بقرينة ما رويناه آنفا عنه من ذم الرأي والتبري منه ومن تقديمه النص على القياس إنه لو عاش حتى دونت أحاديث الشريعة وبعد رحيل الحافظ في جمعها من البلاد والثغور وظفر بها لأخذ بها وترك كل قياس كان قاسه وكان القياس قل في مذهبه كما قل في مذهب غيره بالنسبة إليه لكن لما كانت أدلة الشريعة مفرقة في عصر مع التابعين وتابع التابعين في المدائن والقرى والثغور كثر القياس في مذهبه بالنسبة إلى غيره من الأئمة ضرورة لعدم وجود النص في تلك المسائل التي قاس فيها بخلاف غيره من الأئمة فإن الحفاظ كانوا قد رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها في عصرهم من المدائن والقرى ودونوها فجاوبت أحاديث الشريعة بعضها بعضا فهذا كان سبب كثرة القياس في مذهبه وقلته في مذاهب غيره ويحتمل أن الذي أضاف إلى الإمام أبي حنيفة أنه يقدم القياس على النص ظفر بذلك في كلام مقلديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس ويتركون الحديث الذي صح بعد موت الإمام فالإمام معذور وأتباعه غير معذورين وقولهم إن إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث لا ينهض حجة لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصح عنده وقد تقدم قول الأئمة كلهم إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد معه قياس ولا حجة إلا طاعة الله ورسوله بالتسليم له انتهى وهذا الأمر الذي ذكرناه يقع فيه كثير من الناس فإذا وجدوا عن أصحاب إمام مسألة جعلوها مذهبا لذلك الإمام وهو تهور فإن مذهب الإمام حقيقة هو ما قاله ولم يرجع عنه إلى أن مات لا ما فهمه أصحابه من كلامه فقد لا يرضى الإمام ذلك الأمر الذي فهموه من كلامه ولا يقول به لو عرضوه عليه فعلم أن من عزى إلى الإمام كل ما فهم من كلامه فهو جاهل بحقيقة المذهب على أن غالب أقيسة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه من القياس الجلي الذي يعرف به موافقة الفرع للأصل بحيث ينتفى افتراقهما أو نقضه كقياس غير الفارة من الميتة إذا وقعت في السمن على الفارة في غير السمن من سائر المائعات والجامدات عليه وكقياس الغائط على البول في الماء الراكد ونحو ذلك فعلم مما قررناه أن كل من اعترض على شئ من أقوال الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه كالفخر الرازي فإنما هو لخفاء مدارك الإمام عليه وقد تتبعت أنا بحمد الله تعالى المسائل التي قدم فيها أصحابه القياس على النص فوجدتها قليلة جدا وبقية المذهب كله فيه تقديم النص على القياس ونقل الشيخ محيي الدين عن بعض المالكية إنه كان يقول القياس عندي مقدم على خبر الآحاد لأنا ما أخذنا بذلك الحديث إلا بحسن الظن برواته وقد أمرنا الشارع بضبط جوارحنا وإن لا نزكي على الله أحدا وإن وقع إننا زكينا أحدا فلا نقطع بتزكيته وإنما نقول نظنه كذا أو نحسبه كذا بخلاف القياس على الأصول الصحيحة انتهى قال الإمام أبو جعفر الشيزاماري رحمه الله تعالى وقد تتبعت المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الإمام أبي حنيفة والإمام مالك رضي الله عنهما فوجدتها يسيرة جدا نحو عشرين مسألة انتهى ولعل ذلك بحسب أصول المسائل التي نص عليها الإمامان وكذلك القول في خلاف بعض المذاهب لبعضها بعضا في الأقيسة هي يسيرة جدا والباقي كله مستند إلى الكتاب والسنة أو الآثار الصحيحة وقد أخذ بها الأئمة كلهم
Página 65