Correction and Preference on the Brief of Al-Quduri
التصحيح والترجيح على مختصر القدوري
Investigador
رسالة ماجستير من المعهد العالي للدراسات الإسلامية بإشراف الشيخ خليل المَيْس ١٤٢٢ هـ
Editorial
دار الكتب العلمية
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٣ م
Ubicación del editor
بيروت - لبنان
Géneros
أصل هذا الكتاب رسالة علميّة بعنوان: "التصحيح والترجيح لابن قطلوبغا، دراسة وتحقيق"، نال بها الباحث درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية، وأجيزت بتقدير: جيّد جدًّا مع التنويه، وقد نُوقشت بتاريخ ١٤/ ربيع الأول/ ١٤٢٢ هـ، الموافق: ٦/ ٦/ ٢٠٠١ م.
وكانت لجنة المناقشة والحكم على الرسالة مكونة من:
• سماحة المفتي الشيخ خليل المَيْس/ مشرفًا.
• الأستاذ الدكتور رضوان السَّيِّد/ مشرفًا.
• الشيخ الدكتور أحمد اللَّدَن/ عضوًا.
• الشيخ الدكتور أنس طَبّارَة/ عضوًا.
1 / 3
بِسمِ اللَّهِ الرَحّمَن الرّحِيمِ
شكر وتقدير
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن وفى، وبعد:
فإني أشكر شكرًا جزيلًا كل من أسدى إليّ عونًا أو معروفًا خلال رحلة تحقيق هذا الكتاب، من توجيه أو نصح، أو زيارة لمكتبة أو إعارة لكتاب.
وأخص بالشكر والتقدير أستاذي الكريم سماحة المفتي الشيخ خليل المَيْس حفظه الله، الذي أشرف على هذا العمل العلمي.
والعرفان الجميل والشكر الجزيل إلى من كان لي عونًا على الطريق الذي ألتمس فيه علمًا: والديّ الكريمين، اللهم بارك فيهما، وارحمهما كما ربياني صغيرًا.
وأشكر إدارة مكتبة المعهد العالي للدراسات الإسلامية، التابع لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، بما كان لها من يدٍ في تأمين بعض النسخ المخطوطة لهذا الكتاب.
كما أشكر إدارة المكتبة العامة في أزهر البقاع لتشجيعها على التفرغ للبحث، عبر تسهيل الإقامة في مبنى المكتبة.
ولا أنسى أن أخصّ بالشكر والدعاء أساتذتي ومشايخي الفضلاء، الذين تتلمذت على أيديهم في أزهر البقاع، وفي كلية الشريعة التابعة لدار الفتوى في بيروت، وفي بعض مساجد دمشق، وأخيرًا في المعهد العالي للدراسات الإسلامية، حيث كان هذا الجهد.
أسأل الله العظيم القبول والتوفيق، والعفو عن الذنوب والتقصير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ضياء
1 / 5
بِسمِ اللَّهِ الرَحّمَن الرّحِيمِ
مقدمة سماحة المفتي الشيخ خليل المَيْس
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن الواجب على من أراد أن يعمل لنفسه أو يفتي غيره أن يتبع القول الذي رجّحه علماء مذهبه، ولا يجوز له اختيار أحد القولين أو الوجهين من غير نظر، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم، وأيضًا فإن كلًّا من القاضي والمجتهد لا يحل لهما الحكم أو الإفتاء بغير الراجح؛ لأنَّه اتباع للهوى وهو حرام شرعًا ..
وقد نُقل عن ابن كمال باشا قوله: "لابدّ للمفتي أن يعلم حال من يفتي بقوله. . من حيث مرتبته في الرواية، ودرجته في الدراية، وطبقته من بين طبقات الفقهاء، ليكون على بصيرة وافية في التمييز بين القائلين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين. . .".
هذا، وللتمييز بين الروايات عن صاحب المذهب، والمفاضلة بين أقوال فقهائه، لا بدّ من تحصيل درجة فقهية تعرف عند أهل الاختصاص بطبقة أصحاب الترجيح من المقلّدين كأبي الحسين القُدُوري (- ٤٢٨ هـ) وصاحب الهداية (- ٥٩٣ هـ) وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر، بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أوضح دراية، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرْفق للناس. . .
وقد التزم هؤلاء في مصنفاتهم وضع القول الصحيح من المذهب، الذي هو ظاهر الرواية، فيكون ما في غيرها مقابل الصحيح، ما لم يصرَّح بتصحيحه، فيقدم عليها لأنها تصحيح صريح فيقدم على التصحيح الالتزامي.
1 / 7
هذا وإن اختلاف الروايتين ليس من باب اختلاف القولين؛ لأن القولين نصّ المجتهد عليهما، بخلاف الروايتين، فالاختلاف في القولين من جهة المنقول عنه لا الناقل، بينما الاختلاف في الروايتين من جهة الناقل لا المنقول عنه.
ولا بد من الإشارة إلى أن كثيرًا من الأحكام التي نصّ عليها المجتهد صاحب المذهب، بناء على ما كان في عرفه وزمانه، قد تغيرت بسبب تغير الزمان، أو فساد أهله، أو عموم الضرورة. . من ذلك إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار لتعليم القرآن. . وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة. . وتضمين الأجير المشترك، وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار الوقف واليتيم. . وغيرها من المسائل المبنية على العرف، لا على الحجّة والبرهان. .
وإن عبارتي (التصحيح) و(الترجيح) مصطلحان فقهيان، يقصد بالأولى منهما ما صح نسبته من الأقوال إلى الإمام أبي حنيفة ﵁، برواية كبار تلاميذه كأبي يوسف ومحمد بن الحسن.
وأما (الترجيح) فيكون ما بين أقوال أصحابه الذين كانت لهم القدم الراسخة في الفقه، حيث تميّز المذهب الحنفي عن سائر المذاهب الفقهية الثلاثة بأنه مذهب جماعي، وإن القضاء أو الإفتاء بمقتضى مذهب الإمام يتعيّن أن يكون بالقول الراجح في المذهب، لذلك كله اقتضى إفراد هذين المصطلحين بمصنف يكون عمدة في هذا الباب.
وقد توجهت عناية العلامة قاسم بن قطلوبغا الحنفي، المتوفى سنة ٨٧٩ هـ، إلى وضع مصنفه "الترجيح والتصحيح" على مختصر القدوري، - الذي يعتبر في مقدمة المتوفى المعتبرة في نقل المذهب - حيث عمد إلى ما ورد فيه من مسائل الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، وبيّن القول الصحيح، المعتمد في المذهب.
وظلّ هذا الكنز مطويًّا في خزائن المخطوطات حوالي خمسة قرون، حتى قيّض الله تعالى له الباحث الفاضل الشيخ ضياء يونس فاختاره ليكون موضوع أطروحته العلمية لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للدراسات الإسلامية
1 / 8
/المقاصد/ .. وعكف عليه بشغفٍ وصدق عزيمة، وأعطاه من الجهد ما يستحق، بحثًا وتنقيبًا واستقصاء وتحقيقًا، حتى أخرجه في حلة قشيبة زادت في قيمة هذا الكنز المضنون به على أهله، واستحق تقديرًا لجهده العلمي المميز، التنويه من اللجنة المناقشة حيث أوصت بطباعته، ليكون في متناول الباحثين، ويعمّ نفعه بين طلبة العلم الشرعي، علمًا بأن هذا البحث هو باكورة عمله العلمي، كما أن الباحث هو في مقدمة من حصّل رتبة الماجستير من خريجي أزهر البقاع، وإننا لنرجو الله تعالى أن يحسن مثوبته، ويجعل هذا العمل مقبولًا ومباركًا، كما بورك في الكتاب الأصل (متن القدوري) والذي وُفِّق من قبل ابن قطلوبغا لخدمته، بحيث صار عمدة لكل من جاء بعده من الفقهاء وفي مقدمتهم ابن عابدين ﵀. . والذي اتخذ من "التصحيح والترجيح" مرجعًا لا يكاد يتجاوزه في رسالته (رسم المفتي)، ومادة علمية غزيرة لحاشيته (ردّ المحتار).
ونأمل أن يكون هذا الجهد من الباحث الفاضل منطلقًا له في مسيرة البحث العلمي، تحقيقًا وتصنيفًا وإبداعًا مميّزًا بإذنه تعالى وتوفيقه. . والله ولي التوفيق.
غزة ذي القعدة سنة ١٤٢٢ هـ
المقابل ١٥ كانون الثاني سنة ٢٠٠٢ م
وكتبه
مفتي زحلة والبقاع الغربي
مدير أزهر لبنان وأزهر البقاع
الشيخ خليل الميس
1 / 9
بِسمِ اللَّهِ الرَحّمَن الرّحِيمِ
مقدّمة التحقيق
الحمد لله، وفّق للفِقه في الدّين من أراد به خيرًا من عباده المؤمنين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ورضي اللّه عن الخلفاء الأربعة الراشدين، ورَحِمَ الأئمة الأربعة المجتهدين، وكل من سار على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد؛ فلقد اتفقت الأمة في عصورها المتعاقبة، على الرجوع إلى أحد المذاهب الفقهية الأربعة المتّبَعة، إذ إنّ هذه المذاهب ورغم اختلافها في كثير من المسائل العمليّة، لم تخرج على ما كان عليه الصحابة الكرام، ولم تحِد عن مناهجهم في استنباط الأحكام، وقد اعتبر العلماء الخلافَ الفقهي خَصِيصةً لهذه الأمة، وتوسعة في شريعتها السَّمْحة.
وإنه لمن حكمة الله ورحمته أن أودع في أصول هذه الشريعة قواعد كلية ومبادئ عامة، كفيلة بتنظيم حياة الناس في الأزمنة والأمكنة كافة، "ولو التزمنا ألّا نحكم [بحكم] إلّا حتى نجد فيه نصًّا، لتعطّلت الشريعة، فإن النّصوص فيها قليلة. . وإنما هي الظواهر والعمُومات والأقيسة" (^١). ولمّا تعدّدت الاجتهادات (^٢) في القواعد والمسائل الأصولية المستنبطة، كان لا بدّ من تعدد الأقوال في تعيين الأحكام. . فتنوّعت المذاهب الفقهية، فاجتهد علماء المسلمين من بعد، في دراسة تلك المذاهب وتنقيحها وبيان أصولها وفروعها. .
ولقد حظي مذهب الإمام أبي حنيفة ﵀ بعناية خاصة منذ مراحل
_________
(^١) "الجامع لأحكام القرآن"، للإمام القرطبي، ٦/ ٢٨٩، وما بين الحاصرتين زيادة من المحقِّق.
(^٢) إن النصوص الشرعية ليست على مرتبة واحدة من حيث الثبوتُ والدلالة، إذ منها ما هو قطعىٌّ الثبوت؛ قطعي أو ظنيّ الدلالة، ومنها ما هو ظني الثبوت؛ قطعي أو ظني الدلالة، والاختلاف في تفسير الظنَيّات لا بُدَّ واقع فطرةً وخِلقةً، لاختلاف طبيعة العقول ..
1 / 11
تدوينه الأولى، حيث أيّد الله تعالى الإمام بأصحابِ أئمة مجتهدين، بحثوا معه المسائل ودوّنوا معه الكتب، إذ "كان أصحاب أبي حنيفة الذين دوّنوا معه الكتب أربعين رجلًا كبراء الكبراء" (^١).
ثم صنَّف الإمام محمد بن الحسن الشيباني كتبًا تلقّاها علماء الأمصار من بعده بالرضا والقَبول، وكانت عمدة المذهب الحنفي، ومرجعًا لمن ألّف في الفقه من بعده، وهي الكتب التي سمّيت بظاهر الرواية، وقد قيل في شأنها: "إن القاضي المقلِّد لا يجوز له أن يحكم إلا بما هو ظاهر الرواية، لا بالرواية الشاذة، إلّا أن ينصّوا على أن الفتوى عليها" (^٢). وكتب ظاهر الرواية ستة: "المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والسِّيَر الصغير، والجامع الكبير، والسير الكبير"؛ وقد يسمونها مسائل الأصول، وهي مروية عن الإمام محمد بالأسانيد الصحيحة الثابتة، وهي إمّا متواترة أو مشهورة عنه (^٣).
ثم جمع الحاكم الشهيد (- ٣٣٤ هـ) كتب محمّد الستة في كتاب "الكافي" ولقي كتابُه هذا الكثير من التقدير تبعًا لأصوله، قال العلامة إبراهيم البيري (- ١٥٩٩ هـ) في "شرح الأشباه" (^٤): "أعلم أن كتب مسائل الأصول: كتاب الكافي للحاكم الشهيد، وهو كتاب معتمد في نقل المذهب". وقد شرحه جماعة من العلماء منهم شمس الأئمة السرخسي (- ٤٨٣ هـ) وهو الشرح الذي اشتهر بـ: "مبسوط السرخسي"، وقد نال كذلك الثّقة والاعتماد في المذهب، حيث "لا يُعمل بما يخالفه، ولا يُركَن إلّا إليه، ولا يفتى ولا يعوّل إلا عليه" (^٥).
ولقد حرص الأئمة الفقهاء قديمًا كالإمام أبي جعفر الطّحَاوي (- ٣٢١ هـ)، والإمام أبي الحسن الكَرْخي (- ٣٤٠ هـ)، والإمام أبي الحسين القُدُوْرِي (- ٤٢٨ هـ)، على وضع مختصرات تجمع مسائل الفقه المعتمدة، وتضبط أقوال الفقهاء المعتبرة في المذهب، مع الدقّة في العبارة والتمحيص في الصياغة، فجاءت كتبهم موجزة
_________
(^١) "حُسْن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي" للكوثري ص ١٢، وفيه أن الخبر المذكور رواه الإمام الطّحاوي بسنده إلى المغيرة بن حمزة.
(^٢) رسالة "رسم المفتي" - ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين - ١/ ١٦.
(^٣) انظر: "رد المحتار على الدر المختار"، للعلامة ابن عابدين ١/ ٤٧، و"رسم المفتي" له ١/ ١٦.
(^٤) ونقله في: "رد المحتار" ١/ ٤٧، ٤٨، و"رسم المفتي" ١/ ٢٠.
(^٥) "حاشية ابن عابدين" ١/ ٤٧، ٤٨.
1 / 12
العبارة جامعة الإشارة، حتى يسهل على طالب العلم أن يستظهرها بأيسر طريق، وفي أقل زمن.
ولما كان مصنفو هذه المختصرات من كبار الفقهاء وحذّاق الأئمة، وقد التزموا فيها إيراد الراجح والمقبول في المذهب، صارت متونهم "موضوعة لنقل المذهب مما هو ظاهر الرواية" (^١)، فمسائلها ملحقة بمسائل الأصول في صحتها وعدالة رواتها، "وقد تواترت عن مصنفيها كما لا يخفى. ." (^٢).
واهتمّ عامّة علماء المسلمين قديمًا وحديثًا بتلقين النشء وتحفيظهم تلك المتون المختصرة الجامعة، لتكون نواةً صالحة، أو رُكنًا ثابتًا لما يمكن أن يبنى عليها من فقه وعلم. يقول الإمام فخر الإسلام قاضي خان (- ٥٩٢ هـ): "ينبغي للمتفقه أن يحفظ كتابًا واحدًا من كتب الفقه دائمًا، ليَتيسّر له بعد ذلك حفظ ما يسمع من الفقه" (^٣).
ثم اتسع اهتمام العلماء بالمختصرات، وصنفوا لها شروحًا كثيرة، بل إن أسلوب كتابة "الشروح" و"الحواشي" في التصنيف الفقهي، كان هو الأسلوب المعتمد الغالب عبر قرون عديدة.
ومع انتشار حركة الشروح هذه، ومع جهود العلماء الكبيرة في تنظيم الأبواب الفقهية وجمع شتات المسائل وتعليلها وتخريج الحوادث والنوازل على الأصول، يتبيّن للناظر مدى اختلاف الروايات وأقوال الأئمة في أغلب المسائل، وتشعّبِ آراء المجتهدين في المذهب، والمخرّجين عليه حول ما استجدّ من الوقائع.
لهذا، دعت الحاجة إلى ظهور أسلوب جديد في التأليف والكتابة، ونمط غير مسبوق في التعليق على المختصرات، من شأنه تقريب تلك المسائل - المختلف فيها - للطلاب، ببيان القول الصحيح المعتمد في المذهب سواء إذا تعدّدت أقوال الإمام في مسألة، أو عند اختلاف الأئمة - أبي حنيفة وأصحابه -، أو عند اختلاف الرواية عنهم في مسألة من المسائل، وإظهار الرأي الراجح من بين الآراء الاجتهادية المختلفة، فيكون ذلك المصنَّف ضابطًا لفتاوى المفتين، وموحِّدًا لأقضية القضاة
_________
(^١) "رسم المفتي" ١/ ٣٧.
(^٢) "حاشية ابن عابدين" ١/ ٤٩.
(^٣) "تعليم المتعلم طريق التعلم"، للزّرْنُوجي، ص ٨٣.
1 / 13
الحاكمين، فلا يُعمل بالمرجوح في مقابلة الراجح اتباعًا لرأي قد يقوده الهوى.
وكان على من استشرف في نفسه الملكة الفقهية، والقدرة على الاجتهاد أو استحضار أقوال المجتهدين وأصحاب الترجيح، أن يفرد كتابًا بالتصنيف يبرز فيه هذا النوع من المسائل تيسيرًا للطلاب المبتدئين، وتقريبًا للعلماء المتفقّهين "وإنْ كان ذلك موجودًا في الشروح والمطوْلات، إلا أنهم أسعفوا بذلك من لم يصل إلى تلك" (^١).
وبالفعل؛ كان أوّل من سبق إلى هذا النوع من الدراسة المتخصّصة في المذهب الحنفي (^٢) هو العلامة الفقيه المحدّث الشيخ قاسم بن قُطْلُوبُغا رحمه الله تعالى، حيث ألّف كتابه هذا: "التصحيح والترجيح"، وجمع فيه مختلف الأبواب الفقهية تبعًا لمسائل "مختصر القدوري"، مصحّحًا القولَ المعتمد، وذلك وَفْق منهج ذكره في تقدمته للكتاب، مع زيادات وتعليقات وتحقيقات. .
ولقد رأيت من واجبي - وأنا أخدم كتابًا في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، ﵁ - أن أصدِّره بدراسة أذكر فيها بعض مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان، وكيف دُوّن مذهبه. . وطبقاتِ الفقهاء في المذهب الحنفي، وأنواع المسائل فيه، ثم الكلام على مختصر القدوري إذ هو الأصل الذي اعتمد عليه مصنف "التصحيح والترجيح" للتعليق على مسائله الخلافية، وهو ما شكّل المدخل للكتاب.
ثم أتبعت هذا المدخل بدراسة حول الكتاب وقسمتها إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول؛ ترجمت فيه للشيخ قاسم بن قطلوبغا ترجمة موسعة، وذكرت مكانته بين العلماء، كما فصّلت القول في بيان كتبه ورسائله.
ثم الفصل الثاني، وهو دراسة علميّة لكتاب "التصحيح والترجيح"، وفيه ثلاثة مباحث؛ المبحث الأول: أهمية كتاب التصحيح، والمبحث الثاني: حول مسألة الترجيح في المذهب الحنفي، والمبحث الثالث: منهج المؤلف في كتابه.
_________
(^١) من مقدّمة المؤلف، ص ١٣٢.
(^٢) يشير المصنف رحمه الله تعالى في أواخر مقدمته ص ١٣٢، إلى أنه وضع هذه التصحيحات، تأسّيًا بما فعله الأئمة من الشافعية لمختصراتهم، وقد ذكرت أمثلة على ذلك عند التعليق على الموضع المذكور من المقدمة.
1 / 14
أما الفصل الثالث فهو دراسة وصفيّة لكتاب "التصحيح والترجيح"، وقد بحثت فيه الأمور التالية: تسمية الكتاب، تاريخ تأليفه، وصف النسخ المخطوطة المعتمدة في التحقيق، وأخيرًا، عملي في التحقيق. .
أسأل الله ﵎ القَبول والتوفيق والسّداد، والحمد لله أوّلًا وآخرًا.
وكتبه:
ضياء يونس يونس
لالا - البقاع - لبنان
dyyb@maktoob.com
١٤٢٢ هـ / ٢٠٠١ م
1 / 15
المدخل
- الإمام أبو حنيفة، وسنده في العلم:
يقول التابعي الجليل مسروق بن الأجدع ﵀: "شاممت أصحاب رسول الله ﷺ فوجدت علمهم انتهى إلى سِتّة: عمر وعليّ وعبد الله ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت، ثم شاممت السّتّة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله. ." (^١).
وعبد الله، هو ابن مسعود ﵁ الذي قال فيه عمر بن الخطاب ﵁ عندما أرسله إلى الكوفة: "إني قد بعثت إليكم بعمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلِّمًا ووزيرًا. . فاقتدوا بهما واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي" (^٢).
ولقد عني ابن مسعود بتفقيه أهل الكوفة وتعليمهم القرآن منذ أن بُنيت تلك المدينة سنة: (١٧ هـ)، إلى أواخر خلافة عثمان ﵁، عناية لا مزيد عليها، إلى أن امتلأت الكوفة بالقرّاء والفقهاء والمحدّثين، بحيث أبلغ بعض ثقات أهل العلم (^٣) عدد من تتلمذ على يديه نحو أربعة آلاف عالم وتلميذ. . حتى إن علي بن أبي طالب ﵁ لما انتقل إلى الكوفة سُرّ من كثرة فقهائها وقال: "رحم الله ابن أمِّ عبد، قد ملأ هذه القرية علمًا (^٤) ".
وكان من أبرز فقهاء الكوفة من التابعين: علقمة بن قيس النَّخَعي المتوفى سنة ٦٢ هـ، قال عنه ابن مسعود ﵁: "لا أعلم شيئًا إلّا وعلقمة يعلمه" (^٥)، وإن مِن أبرز مَن تفقه على علقمة: إبراهيم بن يزيد النخعي، العالم التابعي الإمام،
_________
(^١) قال الحافظ الهيثمي في: "مجمع الزوائد" ٩/ ١٦٠: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، غير القاسم بن معين وهو ثقة".
(^٢) "طبقات ابن سعد" ٦/ ٧، ٨.
(^٣) هو الإمام السرخسي في "المبسوط" ١٦/ ٦٨.
(^٤) انظر: "فقه أهل العراق وحديثهم"، للإمام الكوثري، ص ٥٢.
(^٥) المرجع السابق، ص ٥٦.
1 / 17
المتوفى سنة ٩٦ هـ، الذي قيل فيه (^١): "إنه ما ترك أحدًا أعلم أو أفقه منه". وكان الفقيه المجتهد حماد بن مسلم بن يزيد (- ١٢٠ هـ) من أخص تلامذة إبراهيم النخعي، بل هو أنبلهم وأفقههم وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة والرأي (^٢). ولقد لازم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، هذا الإمام الجليل - حمادًا - ثماني عشرة سنة (^٣) فاستفاد من علمه وأدبه الكثير.
قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (^٤): "فأفقه أهل الكوفة: علي وابن مسعود، وأفقه أصحابهما: علقمة، وأفقه أصحابه: إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم: حمّاد، وأفقه أصحاب حماد: أبو حنيفة"!.
وفي تاريخ بغداد (^٥) للخطيب البغدادي، بسنده إلى أبي حنيفة قال: "دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين، فقال لي: يا أبا حنيفة، عمّن أخذت العلم؟ قال: قلت عن حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، قال: فقال أبو جعفر: بخ بخ، استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة. .".
وأبو حنيفة هو: النُّعْمان بن ثابت بن المرزُبان، الإمام الأعظم والعلامة الأشهر، أحد كبار المجتهدين في عصر التابعين، ولد في الكوفة سنة: ثمانين، وتوفي في بغداد سنة: مئة وخمسين، مناقبه كثيرة وفضائله جليلة، وأقوال العلماء في مدحه وبيان مكانته وحسن سيرته. بما يصعب حصره جدًّا، بل إنّ الكتب والدراسات التي عنيت بشأنه لا زالت تتوالى حتى اليوم.
يقول عبد الله بن داود الخُرَيْبي ﵀: "يجب على أهل الإسلام أن يدعوا الله لأبي حنيفة في صلاتهم! وذَكَر حفظه عليهم السنن والفقه" (^٦).
_________
(^١) عن شعيب بن الحَبْحاب قال: "كنت فيمن دفن إبراهيم النخعي، فقال الشعبي - عامر بن شراحيل -: أدفنتم صاحبكم؟ قلت: نعم، قال: أما إنه ما ترك أحدًا أعلم منه أو أفقه منه، قلت: ولا الحسن ولا ابن سيرين؟ قال: نعم، ولا من أهل البصرة، ولا من أهل الكوفة ولا من أهل الحجاز. ." كذا في "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٤٣١، وانظر "طبقات ابن سعد" ٦/ ٢٨٤.
(^٢) "سير أعلام النبلاء" ٦/ ٦٠، ٦١.
(^٣) "تاريخ بغداد" ١٣/ ٣٣٣.
(^٤) ٦/ ٦٥.
(^٥) ١٣/ ٣٣٤.
(^٦) "تاريخ بغداد" ١٣/ ٣٤٤.
1 / 18
- تلاميذ الإمام أبي حنيفة:
قال الإمام أبو المؤيد الخُوَارزمي، في مقدمة كتابه "جامع المسانيد" (^١) بسنده إلى قاضي القضاة أبي بكر عتيق بن داود اليماني رحمه الله تعالى أنه قال - وهو يذكر مناقب أبي حنيفة -: "هو إمام الأئمة وسراج الأمة ضخم الدَّسِيعَة (^٢)، السابق إلى تدوين الشريعة، ثم أيده الله بالتوفيق والعصمة فجمع له من الأصحاب والأئمة عصمة منه تعالى لهذه الأمة ما لم يجتمع في عصر من الأعصار في الأطراف والأقطار.
منهم ذو الفقه والدراية المعتَرف له بعلم الحديث والرواية، إمام المسلمين وقاضي قضاة المؤمنين: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، رحمه الله تعالى.
ومنهم ذو الفهم والبيان، الماهر في علمَي الفقه واللسان، العالم الرباني: محمّد بن الحسن الشيباني، رحمه الله تعالى.
ومنهم ذو الذكاء الباهر والعلم الزاهر: زُفَر بن الهذيل التميمي العَنْبري.
ومنهم الفاضل النزيه والكامل الفقيه: الحسن بن زياد اللؤلؤي، ﵀.
ومنهم الفقيه البصير، المقرّ له بالتفسير، الورع الفصاح: وكيع بن الجرّاح.
ومنهم الفقيه الكامل، الماجد الورع الزاهد: عبد الله بن المبارك المروزي.
ومنهم أزهد الأئمة، وراهب هذه الأمة: داود بن نصير الطائي ﵀.
ومنهم إمام أئمة حديث النبي: حفص بن غياث النخعي، رحمه الله تعالى.
ومنهم الإمام المعظم: والعالم المقدم: محمد بن زكريا بن أبي زائدة.
ومنهم: الإمام ابن الإمام حمّادُ بن أبي حنيفة، ويوسف بن خالد السمتي، وعافية بن يزيد الأودي، وحبان، ومندل، ابنا علي، وعلي بن مسهر، والقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وأسد بن عمرو البجلي قاضي واسط، ونوح بن أبي مريم الجامع، وغيرهم ممن يطول ذكرهم، ﵃ ".
_________
(^١) ١/ ٣١، ٣٢، وانظر "مناقب الإمام الأعظم"، للموفق المكي ٢/ ١٣٢، ١٣٣.
(^٢) إعطاء الدَّسِيعة: للعطية الجزيلة. (القاموس المحيط ص ٩٢٣، ٩٢٤).
1 / 19
- تدوين مذهب أبي حنيفة:
حدّث الإمام الطَّحاوي بسنده إلى أسد بن الفرات أنه قال: "كان أصحاب أبي حنيفة الذين دوّنوا الكتب أربعين رجلًا، فكان في العشرة المتقدمين: أبو يوسف، وزفر بن الهذيل، وداود الطائي، وأسد بن عمرو، ويوسف بن خالد السمتي، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وهو الذي كان يكتبها لهم ثلاثين سنة" (^١).
وعن المغيرة بن حمزة: "كان أصحاب أبي حنيفة الذين دونوا معه الكتب: أربعين رجلًا كبراء الكبراء" (^٢).
وقال الموفق المكي (^٣): "وضع أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجتهادًا منه في الدين، ومبالغةً في النصيحة لله ورسوله والمؤمنين، فكان يلقي مسألة مسألة، يقلّبهم ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده، ويناظرهم شهرًا أو أكثر من ذلك حتى يستقرّ أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو يوسف في الأصول" (^٤).
وقال أسد بن عمرو: "كانوا يختلفون عند أبي حنيفة في جواب المسألة، فيأتي هذا بجواب وهذا بجواب، ثم يرفعونها إليه ويسألونه عنها، فيأتي الجواب من كثب - أي من قرب -، وكانوا يقيمون في المسألة ثلاثة أيام ثم يكتبونها في الديوان" (^٥).
وقال يحيى بن معين، عن الفضل بن دكين، سمعت زفر يقول: "كنا نختلف إلى أبي حنيفة ومعنا أبو يوسف ومحمد بن الحسن، فكنا نكتب عنه، قال زفر: فقال يومًا أبو حنيفة لأبي يوسف: ويحك يا يعقوب لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد
_________
(^١) انظر: "حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي"، للإمام الكوثري، ص ١٢.
(^٢) ذكره الكوثري في "حسن التقاضي" ص ١٢.
(^٣) في: "مناقب الإمام الأعظم" ٢/ ١٣٣.
(^٤) ذكر الخوارزمي في "جامع المسانيد" ١/ ٣٣، بسنده إلى وكيع بن الجراح، أن رجلا قال: "أخطأ أبو حنيفة! فقال وكيع: كيف يقدر أبو حنيفة أن يخطئ ومعه مثل أبي يوسف وزفر ومحمد، في قياسهم واجتهادهم، ومثل يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وحفص بن غياث وحبان ومندل ابنا علي، في حفظهم للحديث ومعرفتهم به، والقاسم بن معن - يعني ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ﵁ - في معرفته باللغة والعربية، وداود بن نصير الطائي وفضيل بن عياض، في زهدهما وورعهما. .؟ من كان أصحابه هؤلاء وجلساؤه، لم يكن ليخطئ؛ لأنَّه إن أخطأ ردّوه إلى الحق".
(^٥) "حسن التقاضي" ص ١٢.
1 / 20
أرى الرأي اليوم وأتركه غدًا، وأرى الرأي غدًا وأتركه في غده" (^١) اهـ. قال الكوثري بعد هذا النقل: "انظر كيف كان ينهى أصحابه عن تدوين المسائل إذا تعجّل أحدهم بكتابتها قبل تمحيصها كما يجب، فإذا أحطتَ خبرًا بما سبق، علمتَ وجاهة ما يقوله الموفق المكي أنه وضع أبو حنيفة مذهبه شورى بينهم. ."، إلخ كما سبق.
وهكذا، يمكن لنا أن نستوحي من هذه النقول أن الاجتهاد في المذهب الحنفي لم يكن اجتهادًا فرديًّا لإمام المذهب، إنما كان اجتهادًا جماعيًّا، كثرت فيه الأقوال، ودونت فيه الآراء عن الأصحاب إلى جانب آراء إمامهم، وهو ما يؤكد فكرة "الشورى" في تدوين المذهب. يقول الشيخ وهبي سليمان غاوجي (^٢): "وإنها - لَعَمر الله - دراسة منهجية حرّة شريفة، يظهر فيها احترام الآراء، ويشتغل فيها عقل الحاضرين من التلامذة، ليُدْلي كلٌّ بدلوه، ويذكر ما يرى لرأيه من حجّة، ثم يعقّب هو على آرائهم بما يدفعها بالنقل أو الرأي، ويصوب صواب أهل الصواب ويؤيده بما عنده من أدلة. . فإذا تقررت مسألة من مسائل الفقه على تلك الطريقة كان من العسير نقدها فضلًا عن نقضها، والله الهادي الموفق إلى الخير".
ولقد كان أحسن أصحاب أبي حنيفة تدوينًا لأقواله واجتهاداته من بعده: محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى، حيث صنف ما عرف بكتب ظاهر الرواية، وقد ذكر فيها رأيه، ورأي أبي يوسف، بعد قول أبي حنيفة (^٣)، ثم توجّه المشايخ إلى تلك التصانيف تلخيصًا وتقريبًا، وتخريجًا وتأسيسًا. .
- طبقات الفقهاء في المذهب الحنفي:
لا بد للمفتي المقلِّد أن يعلم حال من يفتي بقوله، حتى يكون على بصيرة وافية تمكنه من التمييز بين القائلَين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين، "ولحاجته إلى معرفة من اعتبر قوله في انعقاد الإجماع في محل الاتفاق والاجتماع، ويعتد به في الخلاف في محل الافتراق والاختلاف، وافتقاره إليه في الترجيح والإعمال عند تعارض الأقوال بقول أعلَمِهم وأورعهم في
_________
(^١) المرجع السابق.
(^٢) في كتابه: "أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء" ص ٦٤، (بتصرف).
(^٣) وفي فتاوى العلامة قاسم بن قطلوبغا: أن ما لم يحكِ محمد فيه خلافًا فهو قولهم جميعًا، كما ذكر المحقق الكمال بن الهمام. (انظر "رسم المفتي" لابن عابدين ١/ ١٩).
1 / 21
الأحوال" (^١)، إلا أنه لم يُنقل عن المتقدمين تقسيم الفقهاء إلى مراتب وطبقات، وإن كان البعض قد وُصف بالاجتهاد في المذهب، أو بأن له تخريجات أو ترجيحات. .
والتقسيم الذي شاع وتداولته كتب الحنفية هو الذي وضعه أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا (^٢) في القرن العاشر الهجري، وتبعه الحَنّائي علي بن أمر الله (^٣) في كتابه "طبقات الحنفية" وقال فيه (^٤): "كذا حقّقه بعض الفضلاء من المتأخرين"، ثم اعتمده غير واحد من بعد، من أبرزهم العلامة ابن عابدين (^٥) ﵀ في رسالته في رسم المفتي (^٦). .
إلا أن هذا التقسيم لم يسلم من النقد فقد اعتُرض عليه من وجوه، وسنذكر أولًا كلام ابن كمال باشا بحروفه، ثم نورد بعض ما تُعقِّب به عليه.
قال ﵀: (^٧) "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. أعلم أن الفقهاء على سبع طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع، كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع من الأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على حسب تلك القواعد من غير تقليد أحد في الفروع والأصول.
الثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، كأبي يوسف ومحمد وسائر أصحاب أبي حنيفة ﵏ القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم أبو حنيفة رحمة الله عليه وعيَّنها، فإنهم وإن خالفوه في بعض الأحكام الفرعية لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول، وبه يمتازون
_________
(^١) من: "طبقات الحنفية" لعلي بن أمر الله الحنائي، مخطوط في المكتبة الوطنية بدمشق رقم ٨٩٥٠، الورقة رقم ٩.
(^٢) توفي سنة ٩٤٠ هـ كما في الأعلام ١/ ١٣٣، وفيه أنه صنف طبقات الفقهاء (مخطوط)، وطبقات المجتهدين (مخطوط).
(^٣) المتوفى سنة ٩٧٩ هـ، كما في الأعلام ٤/ ٢٦٤، ٢٦٥، وفيه: الحَنّالي.
(^٤) الورقة رقم ١١.
(^٥) هو محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره، ولد سنة ١١٩٨، وتوفي سنة ١٢٥٢ هـ رحمه الله تعالى. (الأعلام ٦/ ٤٢).
(^٦) ١/ ١١، ١٢ (ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين).
(^٧) نقل نصَّ رسالة ابن كمال باشا هذه، الإمام الكوثري في هامش: "حسن التقاضي" ص ٢٥ - ٢٧.
1 / 22
عن المعارضين في المذهب ويفارقونهم كالشافعي ونظرائه المخالفين لأبي حنيفة رحمة الله عليه في الأحكام غير المقلدين له في الأصول.
الثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب كالخصاف وأبي جعفر الطحاوي وأبي الحسن الكرخي وشمس الأئمة الحلوائي وشمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي وفخر الدين قاضي خان وغيرهم، فإنهم لا يقدرون على المخالفة للشيخ لا في الفروع ولا في الأصول، لكنهم يستنبطون الأحكام في المسائل التي لا نص فيها عنه، على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها.
الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين كالرازي وأصحابه، فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلًا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم المآخذ يقدرون على تفصيل مجمل ذي وجهين وحكم مبهم محتمل لأمرين، منقول عن صاحب المذهب أو واحد من أصحابه المجتهدين، برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظائره من الفروع، وما وقع في بعض المواضع من الهداية من قوله: كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي، من هذا القبيل.
الخامسة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلِّدين، كأبي الحسين القُدُوري وصاحب الهداية وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح دراية، وهذا أصح رواية، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرفق للناس.
السادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف وظاهر المذهب وظاهر الرواية، والروايات النادرة كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين كصاحب "الكنز" وصاحب "المختار" وصاحب "الوقاية" وصاحب "المجمع"، وشأنهم أن لا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة.
السابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذُكر، ولا يفرقون بين العجاف والسمين والشمال من اليمين، بل يجمعون ما يجدون، وهم كحاطب ليل فالويل لهم ولمن قلدهم كل الويل. والحمد لله أوّلًا وآخرًا" اهـ.
قال الإمام الكوثري ﵀ (^١): ولم يصب ابن الكمال الوزير في ترتيب
_________
(^١) في حسن التقاضي ص ٢٤، ٢٥.
1 / 23
الطبقات ولا في توزيع الفقهاء عليها، وإن لقي استحسانًا من المقلِّدة بعده، وقد تعقبه الناقد العصامي الشهاب المَرْجاني (^١) في كتابه: "ناظورة الحق"، بهدم الأمرين - الترتيب والتوزيع معًا - فعاد الأمر إلى نصابه بتحقيقه، فجزاه الله عن العلم خيرًا".
ومما قاله الشيخ شهاب الدين المرجاني في رده ﵀: ". . ومهما تسامحنا معهم - ابن كمال ومن تبعه - في عدّ الفقهاء والمتفقهة على هذه المراتب السبع - وهو غير مسلم لهم - فلا يتخلصون من فحش الغلط والوقوع في الخطأ المفرط في تعيين رجال الطبقات وترتيبهم على هذه الدرجات" (^٢). ثم أخذ يبيّن درجة العلماء الثلاثة أبي يوسف ومحمد وزفر في الاجتهاد وأنهم قد يخالفون أبا حنيفة في قواعد الأصول، وأن حالهم في الفقه إن لم يكن أرفع من مالك والشافعي وأمثالهما فليسوا بدونهما، وقال: غير أنهم لحسن تعظيمهم للأستاذ وفرط إجلالهم لمحله ورعايتهم لحقه، تشمروا على تنويه شأنه، وتوغلوا في انتصاره والاحتجاج لأقواله وروايتها للناس. . لاعتقادهم أنه أعلم وأورع وأحق للاقتداء به والأخذ بقوله، وأوثق للمفتي وأرفق للمستفتي. . ومن ذلك الوجه امتازوا عن المخالفين كالأئمة الثلاثة والأوزاعي وسفيان وأمثالهم، لا لأنهم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد المطلق في الشرع، ولو أنهم أولعوا بنشر آرائهم بين الخلق وبثها في الناس والاحتجاج لها بالنص والقياس لكان كل ذلك مذهبا منفردا عن مذهب الإمام أبي حنيفة، مخالفًا له" (^٣).
ثم انتقل المرجاني لمناقشة ابن كمال في تعيين رجال الطبقات على هذه الدرجات فقال: ثم إن قوله في الخصاف والطحاوي والكرخي إنهم لا يقدرون على مخالفة أبي حنيفة لا في الأصول ولا في الفروع ليس بشيء، فإن ما خالفوه فيه من المسائل لا يعد ولا يحصى، ولهم اختيارات في الأصول والفروع، وأقوال مستنبطة بالقياس والمسموع، واحتجاجات بالمنقول والمعقول، على ما لا يخفى على من تتبّع كتب الفقه والخلافيات والأصول. .
ثم إنه عدّ أبا بكر الرازي الجصّاص من المقلدين الذين لا يقدرون على
_________
(^١) هو شهاب الدين بن بهاء الدين المَرْجاني القرْاني، دراسته في بخارى وسمرقند، وتخرج على يديه كثير من العلماء، توفي سنة ١٣٠٦ هـ رحمه الله تعالى، (الأعلام ٣/ ١٧٨).
(^٢) "حسن التقاضي"، ص ٨٥.
(^٣) "حسن التقاضي" ص ٨٨.
1 / 24
الاجتهاد أصلًا، وهو ظلم عظيم في حقه وتنزيل له عن رفيع محله وغض منه وجهل بيّن بجلالة شأنه في العلم. . ومن تتبع تصانيفه والأقوال المنقولة عنه عَلِم أن الذين عدهم من المجتهدين من شمس الأئمة ومن بعده كلهم عيال لأبي بكر الرازي. .
ثم إنه جعل القُدُوري وصاحب الهداية من أصحاب الترجيح، وقاضي خان من المجتهدين، مع تقدم القدوري على شمس الأئمة زمانًا وكونه أعلى منه كعبًا وأطول باعا. . وأما صاحب الهداية فكيف ينزل شأنه عن قاضي خان بمراتب؟ بل هو أحق منه بالاجتهاد وأثبت في أسبابه وألزم لأبوابه.
هذا ولم يحصل من بيانه فرق بين أهل الطبقة الخامسة والسادسة، وليت شعري بأي قياس قاسهم ووجد هذا التفاوت بينهم؟.
والحال أن العلم بهذه الكلية كالمتعذر بالنسبة إلى أجلّة الفقهاء وأئمة العلماء، فإنهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها" (^١).
ونقل الإمام اللكنوي في مقدمة شرحه على الجامع الصغير تقسيم ابن كمال باشا وأعقبه بقوله: "وكذا ذكره ابن عمر الأزهري المصري المتوفى سنة تسع وسبعين وألف، في آخر كتابه: "الجواهر النفيسة شرح الدرة المنيفة في مذهب أبي حنيفة"، وكذا ذكره من جاء بعده مقلدًا له، إلا أن فيه أنظارًا شتّى من جهة إدخال من في الطبقة الأعلى والأدنى"، ثم نقل بعض كلام المرجاني في الرّدّ عليه (^٢).
وناقش الشيخ محمد أبو زهرة ﵀ تقسيم ابن كمال لفقهاء الحنفية واعترض عليه في عدد من النقاط، وقرر ما يلي:
"إن أبا يوسف ومحمدًا والأصحاب من طبقة المجتهد المطلق، وعليه فليس لهذه الطبقة التي مثّلت بهم من وجود في المذهب الحنفي.
إن الفرق بين الطبقتين الثالثة والرابعة فرق دقيق لا يكاد يستبين، ومن عدهما طبقة واحدة لا يعدو الحقيقة.
إن التفرقة بين الطبقة الخامسة (طبقة المرجّحين) وسابقتها، ليست واضحة، وإنه لكي تكون الأقسام متميزة غير متداخلة يجب حذف طبقة من هذه الطبقات
_________
(^١) انتهى كلام المرجاني باختصار، انظر: "حسن التقاضي" ص ٨٩ - ٩٢.
(^٢) "النافع الكبير شرح الجامع الصغير"، للكنوي، ص ١١، ١٢.
1 / 25
الثلاث: الثالثة والرابعة والخامسة، واعتبارهما طبقتين اثنتين: إحداهما طبقة المخرجين الذين يستخرجون أحكامًا لمسائل لم تؤثر أحكام لها عن أصحاب المذهب الأولين بالبناء على قواعد المذهب. والثانية: طبقة المرجحين الذين يرجحون بين الروايات المختلفة والأقوال المختلفة.
إن عمل الطبقة السادسة ليس الترجيح، ولكن معرفة ما رُجِّح، وترتيب درجات الترجيح، وقد يؤدي ذلك إلى الحكم بين المرجحين فيختار من أقوالهم أقواها ترجيحًا، وأكثرها اعتمادًا في الترجيح على أصول المذهب، أو ما يكون أكثر عددًا وأعزّ ناصرًا. . ."
ويتساءل أبو زهرة أخيرًا: "أما الطبقة السابعة، فكيف يُعدون من الفقهاء؟ إنهم نَقَلة، إن أردنا أن نرفق بهم في الاسم" (^١).
إن التقسيم الذي اشتهر عن ابن كمال باشا رحمه الله تعالى في جعل فقهاء المذهب الحنفي على سبع طبقات، وإن لقي رواجًا وقبولًا عند بعض العلماء، إذ قد يكون هو أوّل من حاول وضع قاعدة في هذا الشأن، إلا أنه انتقد عليه بإجابات مقنعة، سواء في أصل القسمة وجعلها سبع طبقات، أو في توزيع الفقهاء على هذه الطبقات، كما يتبين من كلام المرجاني واللكنوي والكوثري وأبي زهرة عليهم رحمة الله تعالى.
- طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي:
وكما قسموا العلماء على طبقات، كذلك قسموا المسائل على درجات. . إذ لا بد للمفتي المقلد أن يعلم الكتب المعتمدة في نقل المذهب، ليختار عند التعارض ما هو من الدرجة الأعلى ولا يرجح الأدنى (^٢)، ولا ثقة بما يفتى به بمجرد مراجعة كتاب من الكتب المتأخرة، خصوصًا غير المحررة (^٣)، قال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى: "وقد يتفق نقل قول في نحو عشرين كتابًا من كتب المتأخرين ويكون القول خطأً أخطأ به أول واضع له، فيأتي مَن بعده وينقله عنه، وهكذا ينقل بعضهم
_________
(^١) انظر كتاب: "أبو حنيفة"، لمحمد أبي زهرة ص ٤٤٠ - ٤٤٥.
(^٢) "النافع الكبير" ص ١٧.
(^٣) "رسم المفتي" ١/ ١٣.
1 / 26