التنازع والتوازن في حياة المسلم
التنازع والتوازن في حياة المسلم
Editorial
مؤسسة الطباعة والصحافة والنشر
Ubicación del editor
جدة - المملكة العربية السعودية
Géneros
معالم على طريق الصحوة (٦)
التنازع والتوازن
في حياة المسلم
مقدمة الطبعة الخامسة الحمد لله وصلى الله على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد ظهرت - ولله الحمد - الطبعة الثانية من هذا الكتاب، وفيها زيادات وتصحيحات. ولعل أهل الزيادات مبحث (التفرغ) الذي كنت أرغب إفراده في رسالة، ولكني رأيت بعد ذلك أن إلحاقه بهذا الكتاب أولى لقوة ارتباطه بمباحثه، وترتيب بعضها عليه. ومن الزيادات كذلك (مطلب في الترويح والاستجمام) وتبعتها - كذلك - الطبعة الثالثة. وجاءت الطبعة الرابعة، وفيها زيادة أضيفت إلى المبحث الثالث منه. وهذه هي الطبعة الخامسة - ولله الحمد - من هذا الكتاب، وفيها الإضافات التالية: ١ - ترجمة موجزة للأعلام المذكورين، حيث أن أغلب القراء يحتاجون إلى عرفة شيء عن أولئك الأعلام الذين يقرأون أقوالهم ويعجبون بفعالهم. ٢ - بعض الإضافات المكمِّلة للنص من زيادة عبارة، أو فكرة، أو تقسيم. ٣ - بعض الفهارس العلمية. هذا وقد كنت كتبت قبل ست سنوات، وأنا الآن متيقن أكثر من ذي قبل بصعوبة تحقيق ما أوردته، وأن الشخص الذي يريد المعالي المسرودة في هذه الرسالة عليه أن يبذل جهدًا كبيرًا ويتخطى عقبات جسامًا - بدون مبالغة - وإلا راوح مكانه، ولم يأت بشيء ذي بال، فليفزع إلى ذي الجلال سائلًا المعونة والإقبال، والتوفيق والتسديد والمباركة في الأقوال والأعمال. هذا وإن الحمد لله أولًا وأخرًا حيث كتب لهذا الكتاب بعض القبول والانتشار، وأسأله ﷾ أن يضفي عليه مزيدًا من القبول، وينيلني من فضله ماهو مأمول، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وإلى آله وصحبه أجمعين. المؤلف د. محمد موسى الشريف Mohammad-mousa@hotmail.com
مقدمة الطبعة الخامسة الحمد لله وصلى الله على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد ظهرت - ولله الحمد - الطبعة الثانية من هذا الكتاب، وفيها زيادات وتصحيحات. ولعل أهل الزيادات مبحث (التفرغ) الذي كنت أرغب إفراده في رسالة، ولكني رأيت بعد ذلك أن إلحاقه بهذا الكتاب أولى لقوة ارتباطه بمباحثه، وترتيب بعضها عليه. ومن الزيادات كذلك (مطلب في الترويح والاستجمام) وتبعتها - كذلك - الطبعة الثالثة. وجاءت الطبعة الرابعة، وفيها زيادة أضيفت إلى المبحث الثالث منه. وهذه هي الطبعة الخامسة - ولله الحمد - من هذا الكتاب، وفيها الإضافات التالية: ١ - ترجمة موجزة للأعلام المذكورين، حيث أن أغلب القراء يحتاجون إلى عرفة شيء عن أولئك الأعلام الذين يقرأون أقوالهم ويعجبون بفعالهم. ٢ - بعض الإضافات المكمِّلة للنص من زيادة عبارة، أو فكرة، أو تقسيم. ٣ - بعض الفهارس العلمية. هذا وقد كنت كتبت قبل ست سنوات، وأنا الآن متيقن أكثر من ذي قبل بصعوبة تحقيق ما أوردته، وأن الشخص الذي يريد المعالي المسرودة في هذه الرسالة عليه أن يبذل جهدًا كبيرًا ويتخطى عقبات جسامًا - بدون مبالغة - وإلا راوح مكانه، ولم يأت بشيء ذي بال، فليفزع إلى ذي الجلال سائلًا المعونة والإقبال، والتوفيق والتسديد والمباركة في الأقوال والأعمال. هذا وإن الحمد لله أولًا وأخرًا حيث كتب لهذا الكتاب بعض القبول والانتشار، وأسأله ﷾ أن يضفي عليه مزيدًا من القبول، وينيلني من فضله ماهو مأمول، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وإلى آله وصحبه أجمعين. المؤلف د. محمد موسى الشريف Mohammad-mousa@hotmail.com
Página desconocida
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلّمه البيان، ودلّه على طريق الخير والرشاد بالإيمان، وأنشأ فيه نوازع كثيرة للخير والطغيان، فأما من هذّب هذه النوازع فهو الفائز الجذلان، وأمّا من أتبع نفسه هواها فهو الخاسر الحيران.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة شهادة تنقذني يوم العرض، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي لم يخلد إلى الأرض، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وبعد:
إن المسلم - اليوم - مطالب بإرجاع أمته إلى سابق مجدها وقديم عزِّها، وسبيله إلى ذلك هو إصلاح نفسه، ثم دعوة غيره.
1 / 5
وإصلاح النفس هدف يرجوه كل مسلم ولكن دونه عقبات عظيمة لا سيما في هذا العصر، وأعظم هذه العقبات هي ما كان من داخل الشخص نفسه؛ إذ أن هناك عقبات حسيّة ومعنويّة، ولكن أعظم العقبات قاطبة هو ما يصادم الشخص داخل نفسه، فالنفس أمّارة بالسوء، وفيها كَبْر وحسد وحقد وغلّ وبغضاء ورياء وشقاق ونفاق إلى غير ذلك من المهلكات، فمن وفقه الله للنجاة من هذه الآفات وأمثالها فهو في خير عظيم، وقد تكفّلة كتب كثيرة بشرح سبل السلام من هذه المهلكات شرحًا وافيًا كافيًا.
ثم إن المسلم إذا خلّص دواخله من كل هذا فجأتْه مجموعة من المطالبات النفسية الداخلية - وهي ما يمكن أن يسمى «النوازع» - أقلقته وعصفت به، ويمكن في كثير من الأحوال أن يقوده عدم تحقيقها إلى اليأس والإحباط إن لم تدركه رحمة مولاه وفضله.
وأعني
1 / 6
بهذه النوازع - وسيأتي للكلمة وضوابطها شرح مفصَّل، إن شاء الله تعالى - هو ما تنزع إليه النفس وترغبه وتشتهيه:
فالمسلم الملتزم بدينه يحب أن يكون داعية إلى الله تعالى.
وكذلك يرغب أن يكون قويّ الإيمان، راسخ اليقين.
وهو يحب أن يكون من العابدين الزاهدين. وكذلك يستهويه المال الصالح.
وتدفعه نفسه إلى أن يكون من رجال الشهرة المعروفين المتصدرين.
وكذلك يحنّ المسلم إلى أن يكون ممن رزقه الله تعالى العلم الشرعي فأصبح من علماء الأمّة العاملين.
وهو من الراغبين في الثقافة الفكرية والواقعية، حتى يكون مرشدًا ومفيتًا من مُفْتي الشباب والصحوة.
وهو ممّن تَتُوقُ نفسه إلى الجهاد والذَّودْ عن أعراض
1 / 7
المسلمين، ويكاد يتمزق شوقًا عندما تلامس أذنَه نداءاتُ الجهاد وأخبار البطولات.
وهو ممن لا يُحب أن يُرى مقصِّرًا في حقوق الأهل والأرحام والأحباب.
وهو - ولابد - ممن يرغب أن يرى أولاده وبناته من عباد الله الصالحين الداعين المجاهدين، فيربيهم تربية إسلامية حسنة.
فهذه عشرة نوازع في نفس الإنسان المسلم يرغب كل عاقل لبيب أن يجمعها، ولكن هيهات أن تجتمع له إلا بتوفيق عظيم.
قال الإمام ابن الجوزي (١) رحمه الله تعالى:
«ويندر من الخلق من يلهمه الكمال وطلب الآفضل، والجمع بين العلوم والأعمال ومعاملات القلوب، وتتفاوت أرباب هذا الحال» (٢).
_________
(١) الشيخ الإمام العلامة الحافظ المفسر أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، ينتهي نسبه إلى القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ﵁، ولد سنة ٥١٠ ببغداد، وسمع من مشايخ كثيرين، كان رأسًا في التذكير والوعظ بلا مدافعة، صنف مصنفات كثيرة، له حكم وأقوال كثيرة، توفي ببغداد سنة ٥٩٧، انظر «سير أعلام النبلاء»: ٢١/ ٣٦٥ - ٣٨٤.
(٢) «صيد الخاطر»: ٢٦٢.
1 / 8
ولشرح هذه النوازع والتوفيق بين بعضها البعض والتوازن والترجيح بينها جاء هذا البحث، الذي أحسبه جديدًا يضيف شيئًا إلى المكتبة الإسلامية، ويشرح أمورًا يجدها كل مسلم ملتزم بهذا الدين داعية - على وجه الخصوص - في نفسه حال سيره في دروب هذه الحياة.
1 / 9
المبحث الأول
النوازع وأهمية التوفيق بينها
1 / 11
معنى التوازن والنوازع:
التوازن لغةً:
قال أبو فارس (١):
«الواو والزاء والنون: بناء يدل على تعديل واستقامة، ووَزِينُ الرأي: معتدله. وهو راجح الوزن إذا نسبوه إلى رجاحة الرأي وشدة العقل» (٢).
أما اصطلاحًا فيمكن تعريفه بأنه:
«إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، ومعرفة حدودها وغاياتها ومنافعها.
وهو الحكمة المنوّه بها في قوله تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي كثيرًا وما
_________
(١) الشيخ الإمام أحمد بن فارس بن زكريا القزويني. ولد سنة ٣٢٩. وكان مقيمًا بهمذان والريّ. له تصانيف كثيرة في اللغة والأصول والفقه والقرآن، وله شعر حسن. توفي بالري سنة ٣٩٥ رحمه الله تعالى. انظر «الوافي بالوفيات»: ٧/ ٢٧٨، و«الأعلام»: ١/ ١٩٣.
(٢) «معجم مقاييس اللغة»: ٦/ ١٠٧.
1 / 13
يذكر إلا أولوا ألالباب*) (١).
وأما التنازع فقد جاء في «المصباح المنير» في مادة «ن ز ع»:
«نازعت النفسُ إلى الشيء نُزُوعًا ونزاعًا: اشتاقت، وبعير وناقة نازع: حَنّت إلى أوطانها ومرعاها».
وجاء في «لسان العرب» في المادة نفسها:
«نازعتني نفسي إلى هواها نزاعًا: غالبتني، ويقال للإنسان إذا هَوىَ شيئًا ونازعته نفسه إليه: هو ينزع إليه نزاعًا.
والتنازع: التجاذب، ومنه حديث: «مالي أنازَعُ القرآن» (٢) أي أجاذب في قراءته، وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه، فنازعه قراءته، فشغله، فنهاه عن الجهر بالقراءة في الصلاة خلفه».
_________
(١) «بصائر تربوية»: ٢٥. والآية من سورة البقرة ورقمها: [٢٦٩].
(٢) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة، وقال الترمذي، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن»، وقد أخرجه كذلك مالك في الموطأ والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد.
1 / 14
فالتنازع تدور معانيه على التجاذب والحنين والمغالبة.
والنوازع المذكورة في هذا البحث هي الأمور التي يشتاقها الإنسان ويحنّ إليها، وتحصل المجاذبة فيها بينه وبين نفسه لتحقيقها وتحصيلها.
ولا يخفى على اللبيب العاقل أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همته إليه، فمن كان عالي الهمة شريف النفس نزع إلى المعالي، ومن كان ممن جذبته الدنيا إليها وكبّلته بحبها نزع إلى ما يزيده حبًا فيها وتعلقًا بها، والبون بين الفريقين شاسع.
ولا شك أن حديثي موجه للفريق الأول؛ لأنه هو الذي تتنازعه فضائل كثيرة، ويمكث زمانًا يحاول أن يوفق بينها، أو يختار منها ما وفقه الله إليه.
وقد رأيت أن أتكلم عن نوازع خمسة أظن أنها تستوعب وتتضمن باقي النوازع التي ذكرتها في المقدمة، وهذه الخمسة هي:
١ - طلب العلم الشرعي.
٢ - كثرة العبادة وإحسانها.
1 / 15
٣ - الدعوة إلى الله تعالى.
٤ - الجهاد في سبيل الله.
٥ - طلب المال الصالح.
وهي إن حاكت في صدر المسلم كلها أو بعضها منعته الرقاد، وأورثته السهاد، فلا يعود يطيب له العيش حتى يُحكم أمره فيها، ويختار منها ما يوفقه الله تعالى إليه، وقد يمنّ الله عليه بجمعها أو بجمع غالبها، فيكون إمامًا قدوة كما سأبين، إن شاء الله تعالى.
والجامع بين هذه النوازع المختلفة بطريقة محكمة هو الذي يملي على التاريخ ما يكتبه، وهو الذي يجعله الله تعالى ملجأ للناس وملاذًا لهم حال الخَطْب المُدْلهمّ والحادث الجَلل، وهو الذي إن عاش كان رمزًا، وإن مات صار حديثًا للأجيال.
أما من جدّ واجتهد في جانب أو جانبين من الفضائل واقتصر على ذلك هو في حال حسنة، لكنها مفضولة.
يقول الأمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى موضحًا كيفية هذا التنازع بين
1 / 16
الفضائل المتنوعة:
«نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبًا، وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه؛ لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فرد، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه .. فلا أرى الرضى بنقصان العلوم إلا حادثًا عن نقص الهمّة.
ثم إني أروم - نهايةً - العمل بالعلم، فأتُوق إلى ورع بشر (١)، وزهادة معروف (٢)، وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيدٌ.
ثم إني أروم الغنَى عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وقَبول المننن (٣) مما تأباه الهمة العالية.
ثم إني أُوق إلى طلب الأولاد، كما أتُوق إلى تحقيق
_________
(١) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن. الإمام المحدث الزاهد الرباني القدوة، شيخ الإسلام، أبو نصر المروزيّ ثم البغدايّ، المشهور بـ (الحافي). ولد سنة ١٥٢ وكان رأسًا في الورع والإخلاص، وله حكم جميلة وكلام رائق. توفي رحمه الله تعالى سنة ٢٢٧. انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء»: ١٠/ ٤٦٩ - ٤٧٧.
(٢) الكرخي، علم الزهاد، بركة العصر، أبو محفوظ البغدادي، توي سنة ٢٠٠، انظر أخباره في «سير أعلام النبلاء»: ٩/ ٣٣٩ - ٣٤٥.
(٣) أي العطايا المالية.
1 / 17
التصانيف لبقاء الخَلَفَيْن (١) نائبيْن عني بعد التلف، وفي طلب ذلك مافيه من شغل القلب المحب للتفرّد.
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثمّ لو حصل فرّق جمع الهمة ...
وكل ذلك جَمْعٌ بين أضداد ... فواقلقي من طلب قيام الليل وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف ... وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة بالخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع طلب لابد منه للعائلة، غير إني قد استسلمت لتعذيبي، ولعلّ تهذيبي في تعذيبي، وإن بلغ همي مراده وإلا فنيّة المؤمن خير من عمله» (٢).
وكلام الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى يتردد في صدور كثير من الصالحين، والغالب أن أكثرهم لا يجد سبيلًا للجمع بين تلك الأمور المذكورات على وجه حسن.
_________
(١) أي الكتب والأولاد
(٢) «صيد الخاطر»: ٢١٦ - ٢١٧.
1 / 18
وللتدليل على أهمية هذا الأمر - أمر التوازن بين النوازع المختلفة - فإني أذكر حال واحد من إخواني الصالحين، فقد كان داعية نشيطًا، ولكنه كان يعاني من عدم استطاعته التوفيقَ والتوازن بين نوازعه، فقد كان يقوم الليل ويكثر من التعبد أيامًا كثيرة، حتى إذا فطن أنه قد قصّر في حق الدعوة ترك التعبد وانغمس في العمل الدعويّ بنشاط عظيم، ثم إذا فطن أنه قد قصّر في حقوق أهله وأقاربه ترك كل ما مضى وجعل يهتم بأهله وأبنائه، فنصحته وبعضُ إخواني بالاتزان فلم ينتصح، فنتج عن ذلك أنه ترك الالتزام كلية بعد شعوره بالضعف وعدم القدرة على التوفيق، ثم منّ الله عليه بالتوبة والرجوع والحمد لله، نعم هذا مرض نادر، ولكنه يحدث في صفوف الدعاة بدرجات مختلفة الحدة، لعل هذه الحالة أشدها، عافاني الله وإياكم.
وحال عرضي لهذه النوازع سوف أذكر أمورًا تضبطها، وأقوالًا للسلف حولها، وأذكر أيضًا كيفية تحقيق
1 / 19
التوازن فيها خاصة، وكيفية التوفيق بينها وبين بعض النوازع الأخرى، وقد أرجىء ذكر تفصيل بعض ذلك إلى المبحث الأخير إن شاء الله تعالى.
1 / 20
المبحث الثاني
النوازع: ذكرها وبيانها
1 / 21
النازع الأول: طلب العلم الشرعي:
هذا النازع قويّ متجذِّر في نفوس كثير من الملتزمين بالإسلام، وذلك لما ورد من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة وكلام أئمة السلف تنوِّه بطلب العلم وتذكر عظم أجره وفضله.
والعلماء العاملون سبب لهداية الناس، وهم الذين يجدّدون الدين وينقّونه ممّا عَلق به من البدع والمخالفات، ويصححون مفاهيم العامّة وآراءهم، وهم الذين يُستشفى بحديثهم ويتنزل نصر الله بسببهم.
وإذا علم الأخ المسلم فضل العلم والعلماء دعته نفسه ليكون منهم فيفوز بما فازوا به من الأجر والفضل، ولكنه
1 / 23
لا بد له أن يلتفت إلى جملة من التحذيرات والتنبيهات في هذا، وهي:
١ - لا يحسن به ولا يجمل أن يترك دراسته للفنون والصناعات - إن كان من المتخصصين فيها والدارسين لها - ليطلب العلم الشرعي الكفائيّ، فإن هذه الفنون والصِّناعات - من طب وهندسة وفيزياء وكيمياء وغيرها - سببٌ من أسباب سعادة الأمة وفوزها على أعدائها المتربصين بها، وترك المسلمين لها يزيدهم وهنًا على وهن، وقد يصيب التاركَ لهذه الفنون - ممن تعينت عليه - إثمٌ؛ لأنها - اليوم - من فروض الكفاية ومن أصول الرِّيادة.
٢ - لم تكن للصناعات والفنون في عهد السلف هذه المنزلة التي لها يقوم، فلا يصح أن نقارن ما عليه السلف بما نحن عليه، فقوة الأمم - اليوم - تقاس بما هي عليه من التقدم التِّقَني والعلميّ.
٣ - كان السلف حريصين على هذه الفنون والصناعات - رغم بدائيتها في عصرهم- فكثير من علمائهم اشتُقت
1 / 24
ألقابهم من الصناعات التي يزاولونها، فهناك القفّال، والشاشيّ، والحدّاد، والزجّاج، والفرّاء، والخيّاط، والسرّاج، والحذّاء، وغيرهم من علماء السلف وأعلامهم.
٤ - قد عاب بعض السلف تضييع بعض الفنون والصناعات، فهذا الإمام الشافعي (١) يقول فيما نقله عنه الربيع (٢):
«لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطبِّ إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه» (٣).
وقال حَرْملة (٤):
«كان الشافعي يتلهّف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى» (٥).
يقول هذا في زمانه فكيف في زماننا؟!
٥ - قد سَهُل عند بعض السلف الجمع بين الصناعات والفنون وبين طلب العلم الشرعيّ، ولكنّا اليوم يصعب علينا بل قد يعسُر فعل هذا، فطلبك
_________
(١) محمد بن إدريس الشافعي الإمام المشهور، وأحد أصحاب المذاهب الأربعة المتبوعة. كان ذا ذكاء نادر، وصاحب لغة مستقيمة لم يؤثر عنه لحن قط. توفي رحمه الله تعالى سنة ٢٠٤.
(٢) الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المراديّ، أبو محمد المصريّ المؤذن، صاحب الإمام الشافعي، ثقة، مات سنة ٢٧٠ وله ست وتسعون سنة، رحمه الله تعالى. انظر «التقريب»:٢٠٦.
(٣) «نزهة الفضلاء»: ٢/ ٧٣٨.
(٤) أبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد الله التُجيبيّ المصريّ الحافظ، صاحب الإمام الشافعيّ. ولد سنة ١٦٦ وتوفي ٢٤٣. وله بعض المصنفات. انظر «الوافي بالوفيات»: ١١/ ٣٣٤.
(٥) «نزهة الفضلاء»: ٢/ ٧٣٨.
1 / 25
للعلم الشرعيّ من مظانّه يعني أنك لابد أن تلتحق بكلية من الكليات الشرعية أو تطلب العلم على شيخ، والأوّل صعب المنال إن كان الشخص مشغولًا بفنه وبصناعته، والثاني من أصعب الأمور؛ إذ هات لي شيخًا يصبر على تدريس الطالب أوّليات العلوم ومبادئها، ثم يتدرج معه حتى يكمل ويفقه، فالمشايخ- اليوم- يعتذرون لطالب العلم بالانشغال وعدم القدرة، وبين كثير منهم وبين الشباب فجوة سحيقة؛ إذ لا يوصل إليهم- غالبًا - إلا بشق الأنفس، وإذا وصلت إليهم وجدت من الصِّعاب والعقبات عند الشيخ ما يفقدك الرغبة في طلب العلم عليه.
هذا ما حدا بكثير من الشباب إلى طلب العلم من الكتب والتفقه بغير شيخ، فظنوا أنهم قد علموا، والحقيقة أنه بينهم وبين العلم الصحيح المعتبر مفاوز؛ إذ هم من الفضلاء المطّلعين، ولا يصح وصفهم بأكثر من هذا.
فإذا فهمت الأمور الخمسة الماضية فاعلم أنك إن لم
1 / 26