وجدت الناس تجري في اتجاه الجمالية. تصايحوا بأن الفرنساوية عدوا إلى بر مصر، ودخل قائدهم من باب النصر. جريت في أعقاب الجموع.
كان الزحام شديدا أكثر من المعتاد في بين القصرين. بغال وحمير ومتسولون وبضع نساء متشحات بالسواد يحاول الرجال الاحتكاك بهن، ضجيج التصايح، وجند الوالي من الإنكشارية يقفون غير مبالين.
لحقت الموكب قبل أن يصل بين القصرين. وبعد دقائق رأيت ضريح السلطان برقوق بقبته المميزة، وبعدها ببضعة أمتار مدرسة وضريح السلطان الناصر محمد بن قلاوون بمئذنته السامقة، ثم البيمارستان المنصوري حيث درس خليل الطب بعض الوقت ولم يفلح. رفعت عيني إلى النقش المنحوت على الحجر بطول المبنى حاملا ألقاب قلاوون: سلطان العراقيين والمصريين، ملك البر والبحرين، صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين.
عدت أدراجي خلف الموكب الذي سار ببطء تتقدمه راية مؤلفة من مربع كبير أبيض في الوسط يحيط به اللونان الأزرق والأحمر في الزوايا الأربع. حزرت أنها راية الفرنساوية. وكان المشايخ والعظماء يتقدمونني فوق بغالهم ممسكين بمسابحهم. وأمامهم كالعادة جماعة من العدائين المسلحين بالشوم يخلون لهم الطريق بضرب المارة كيفما اتفق. لم يكن ثمة وجه للمقارنة مع أبهة مواكب فرسان المماليك بالسلاح والعمائم المزركشة، والعباءات الحريرية الفضفاضة.
انحرف الموكب نحو الأزبكية. عبرنا القنطرة المقابلة لحارة الإفرنج. ثم أبطأ قرب بركة الرطلي. تسللت في الزحام حتى مقدمة الموكب فرأيته قد توقف أمام بيت محمد بك الألفي.
كان البيت مهجورا بعد هروب صاحبه. ولم تكن تنقصه البيوت فله داران أخريان بالأزبكية غير واحدة في باب النصر. اصطنع أيضا قصرا من خشب يتألف من أجزاء تركب بشناكل متينة يحمل على عدة جمال. إذا أراد النزول في مكان يجري تركيبه فيصير مجلسا مسقوفا يسع ثمانية أشخاص له شبابك من الجهات الأربع.
شببت على أطراف قدمي. تبينت رءوس الفرنساوية التي تغطيها قلانس غريبة الشكل ورأيت القادة يترجلون. تقدمهم واحد منهم قصير القامة ضئيلها. تبزغ من قلنسوته ثلاث ريشات كبيرة. وبمنطقته سيف طويل يصل إلى الأرض. تبعوه إلى داخل البيت. وبدأ الجنود في إنزال الصناديق من فوق عربة يجرها حمار. وكانت المرة الأولى التي تعهد الشوارع مثلها. وأدركت أن قائدهم سيسكن القصر.
هززت رأسي إعجابا بالحكمة الإلهية. فقد شيد الألفي قصره في السنة الماضية. وكان البناء حديث المدينة. فقد عمل رجاله بجواره عدة قمائن لحرق الأحجار. وركبوا طواحين لطحن الجبس. وقطعوا الأحجار ونقلوها في المراكب من طرا ثم نشروها بالمناشير ألواحا كبارا لتبليط الأرض. وأحضروا الأخشاب المتنوعة من بولاق وإسكندرية ورشيد ودمياط.
وعندما تم البناء سكن به وأقام احتفالا كبيرا دعا إليه أصدقاءه من المماليك والشيوخ ومن بينهم الجبرتي. واصطحبني الشيخ فولجنا بستانا عظيما تضيئه القناديل به جمالون مستطيل من الدكك والأعمدة ، وإلى جواره فسقية عظيمة من الرخام أهداها إليه الإفرنج، بها أسماك من الرخام يخرج من أفواهها الماء. وطفنا بالداخل فرأينا للنوافذ ألواحا من الزجاج والسلالم من الرخام المرمر والأرضية من الفسيفساء.
شربنا يومها عصير الفواكه في كئوس من فضة. وأكلنا كتاكيت مشوية. وفتتنا الخبز في بهريز ثقيل الدسم مع عكاوي وذيول ثيران وأمخاخ طيور ونخاع ضأن. لكنه لم يهنأ بكل هذا سوى أيام. فلم يمض على إقامته بالدار الجديدة ستة عشر يوما حتى هزم أستاذه مراد بك في إنبابة، وغادر الدار هربا هو وحريمه وعياله.
Página desconocida