جعفر مجرد خادم. وجدته بالبيت عندما ضمني الشيخ إليه. ورثه عن أبيه. قصير القامة، ضخم الجثة. يشرف على بقية الخدم والعبيد. يجهد دائما ليبسط سيطرته علي.
وقفت حائرا في الحوش . تصاعدت رائحة التقلية من المطبخ. كان به كانون متنقل يتألف من بضع لبنات توضع فوقها شبكة من الحديد. وكان باب الحاصل مفتوحا تبدو منه زلع الزيت والسمن والعسل والقمح، وبجواره انهمكت خادمة في دق البن لتحميصه، وبجوارها عكف الدجاج والبط على التقاط الغداء. وفي ركن انحنت خادمة على طست الغسيل. كانت قد جذبت ثوبها إلى أعلى فتعرى فخذاها، تأملتهما لحظة آملا في رؤية المزيد.
لمحت الجارية السوداء بجوار بئر الماء تشطف كوزا نحاسيا في طست ثم تملأ زير الماء. اشتراها أستاذي من سوق العبيد منذ شهر، دفع فيها ثمانين قرشا إسبانيا. كان شعرها مرفوعا إلى أعلى كعادة الإماء، وفوقه طرحة من التيل. التقت نظراتنا فلم يبد على وجهها تعبير ما.
صعدت إلى مجلس العقد. تركت خفي عند المدخل وتقدمت من خزانة الكتب. استخرجت كتابا في الطب كنت أنسخه لأحد العطارين لأستعين بأجره على مصاريفي. لم أجد عندي رغبة في العمل فأعدته مكانه وقلبت بين الكتب؛ نسخة من القرآن الكريم قدر ثمنها بمائة وعشرين بارة، كتب الأوراد الصوفية، خطط المقريزي وميزان الشعراني و«حسن المحاضرة» للسيوطي بخطه، دلائل الخيرات نسختان: واحدة رخيصة اشتراها الشيخ بعشر بارات، وأخرى فاخرة بخط جميل اشتراها بعدة مئات. كتب جالينوس وسقراط وأفلاطون مجموعة من الكتب الصغيرة في الطب اشتراها من عطار بخمسين بارة. مخطوط «القول الصريح في علم التشريح» للإمام الدمنهوري. مؤلفات أبيه الشيخ حسن. نسخة فريدة من القاموس العربي للجوهري. ينفرد بين كتب المكتبة بأنه ليس منسوخا وإنما طبع على المطبعة الحجرية في تركيا.
فتشت عن كتاب للحكايات والطرائف أو النوادر والأمثال. لم أجد «أنيس الجليس» أو «هز القحوف» للشربيني، أو نوادر جحا، ولا كليلة ودمنة، ولا حوليات الإسحاقي المليئة بالطرائف والحكايات الإباحية، لا بد أنه أخذهم معه.
استخرجت مجموعة من الكراسات كان يسجل فيها تواريخ الأعلام بطلب من الشيخ مرتضى الزبيدي قبل وفاته.
تصفحت الكراسات على مهل مستمتعا بخطه الرقعة الجميل ثم أعدتها مكانها. بحثت حتى وجدت ورقة فارغة. قربت مني القلم البوص ودواة الحبر النحاسية المستطيلة. وتربعت فوق الأريكة في المكان الذي يحتله أستاذي عادة. أسندت الورقة إلى فخذي. سجلت ما وقع لي منذ عركة بولاق وهزيمة إبراهيم بك. توقفت حائرا قبل تسجيل واقعتي مع الجارية السوداء. يركز الشيخ في طياراته على الأحداث العامة ويتجنب الحديث عن الأمور الشخصية. قررت ألا أقلده ورويت واقعتي مع الجارية. دونت التاريخ الهجري، ثم استبدلته بالتاريخ الميلادي بالطريقة التي تعلمتها من التاجر الفرنسي. ضربت العدد المعبر عن السنة الهجرية في 131، وقسمت الناتج على 135، ثم أضفت إلى خرج القسمة الرقم 621، فحصلت على السنة الميلادية الموافقة.
رششت قليلا من الرمل فوق الورقة وطويتها ثم دسستها في سروالي. وهبطت إلى غرفتي. ارتديت قميصا من التيل الأزرق فوق السروال. لففت عمامتي حول رأسي. اقتربت من الباب وتطلعت في حذر إلى الخارج.
لمحت جعفر يدخل حجرته فخرجت إلى الحوش. شربت من الزير وأنا أبص على غرفته. وعندما لم يخرج منها اتجهت بسرعة إلى الباب. التقيت بخادم قادم من السوق يحمل صفحة من الجريد رصت فوقها أرغفة الخبز المدورة.
خرجت إلى الحارة. ترددت بين الاتجاه يمينا حيث وكالة الجلابة التي يعرض بها العبيد عرايا، ثم مخرج الحارة المطل على ميدان جامع الأزهر. اخترت الاتجاه المعاكس المؤدي إلى الأشرفية فمررت من أمام وكالة السلطان إينال ووكالة الصناديق حيث تصنع من خشب الأرز ويصنع معها الورق المقوى.
Página desconocida