تعرفهم بسيماهم
وفي الحديث: «اتقوا فراسة المؤمن»، و«اطلبوا الخير عند حسان الوجوه»، وقال الإمام علي: «ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.» ومن الحكم المأثورة: «عين المرء عنوان قلبه.»
ولعلماء الأخلاق أقوال عديدة تؤيد ما تقدم لا حاجة بنا إلى إيرادها، وإنما نعمد إلى الأدلة الحسية والشواهد العيانية، ألم يكن محمد علي باشا الكبير لحسن فراسته يستطلع أخلاق المذنب ويحكم عليه لمجرد ما يظهر له من ملامحه؟ وقد كان يفعل مثل ذلك أيضا علي بك الكبير أمير المماليك في القرن الثامن عشر، وكثيرا ما نسمع بأمثال هذه الفراسة عن الأمير بشير الشهابي الشهير وعن إبراهيم باشا المصري وغيرهما من رجال الذكاء والاقتدار ممن عاصرناهم أو سمعنا عنهم، ناهيك بما في التاريخ من أمثلة هذه الحوادث مما يضيق المقام عن استيفائه، ومرجعه إلى أن بواطن الإنسان تتجلى في ظواهره وخصوصا في وجهه.
إذا جاءك شاب يلتمس منك مصلحة فلا بد من أن يؤثر منظره فيك تأثيرا تبني عليه حكمك في أخلاقه، فقد يتبادر إلى ذهنك أنه نشيط مقدام أو كسول خامل أو خفيف الروح أو ثقيلها أو ذكي الفؤاد أو أحمق أو غير ذلك، ولو سئلت عما حملك على ذلك الحكم ما استطعت تفصيل السبب، وقد تقول إنك استطلعت ذلك من شكل عينيه أو حجم رأسه أو ما شاكل، ولكن ذلك التأثير لم يحدث عبثا، ولا بد من روابط بين الظواهر والبواطن، وهذا هو أساس البحث في علم الفراسة، فإن أصحاب هذا الفن نظروا في تلك العلاقات ورتبوها في أبواب، وأيدوها بالحقائق الطبيعية أو العقلية إلى ما بلغ إليه جهدهم، فوجدوا لشكل الذقن مثلا علاقة بالمحبة والبغض والثبات والتقلب، ورأوا لألوان العين وأشكالها علاقة بالذكاء والبله. ووجدوا نحو تلك العلاقة في أشكال الجبين وأقداره، فرتبوا ذلك بشكل علم له قواعد وروابط.
ولكن بعضهم تطرفوا في تلك الدلالات حتى نسبوا إلى كل نكتة في البدن خلقا أو قوة. فقالوا مثلا: «من كان على جانبي عنقه شامة كان تقيا وفيا»، و«من كان بإحدى أصابع يده شامة كان رديء الحظ ممقوتا سيئ الأخلاق»، وقس على ذلك دلالات خطوط الكف ونحوها.
ومن الأدلة على صحة علم الفراسة اختلاف الناس في أخلاقهم وقواهم باختلاف طبائعهم وأمزجتهم، فإن أهل كل مزاج يشتركون بظواهر متشابهة وبواطن متشابهة كما سنبينه في حينه. وكذلك اختلاف طبائع الناس باختلاف أصنافهم، فللقوقاسي سحنة يشترك فيها كل القوقاسيين، وهم يشتركون أيضا في أخلاقهم وعقولهم وسائر أحوالهم، والزنوج يتشابهون في أشكال وجوههم ورءوسهم وأبدانهم، ويتشابهون أيضا بأخلاقهم وعقولهم، ويقال مثل ذلك في الصنف الأحمر والأصفر.
ومن هذا القبيل أيضا فراسة الأمم واشتراك كل أمة بأخلاق ظاهرة تدل على أخلاقها الباطنة، فإن للمصري مثلا سحنة خصوصية وأخلاقا خصوصية، وكذلك الهندي والصيني، ولرأس الألماني شكل خاص وله مزايا خاصة يمتاز بها عن الفرنساوي كما تمتاز سحنته عن سحنته، وقد كان للرومان سحنة غير سحنة اليونان، وكان لهم أخلاق غير أخلاقهم ومواهب غير مواهبهم .
وزد على ذلك أنك لو أمعنت النظر لرأيت لأهل المهن العقلية صفات خاصة بكل مهنة تشترك بين أفرادها ظاهرا وباطنا وتمتاز عما لأهل المهن الأخرى؛ فللمصورين سحن متشابهة، وهم متشابهون في الأخلاق، ويصدق ذلك أيضا على القواد ورجال الدين والموسيقيين والشعراء وغيرهم، وسنأتي على تفصيل ذلك فيما بعد، وبالجملة فالفراسة علم طبيعي مبني على قواعد ثابتة إلى حد محدود كما سنبينه في مواضعه.
هل تصدق الفراسة دائما
وحجة القائلين بفساد علم الفراسة أن أحكامه لا تصدق دائما، فمن أحكامه مثلا أن سعة الجبهة وبروزها وعلوها تدل على الذكاء والتعقل، ولكنك ترى كثيرين من أصحاب هذه الجباه ضعفاء العقول، وقس عليه حكمهم في عكس ذلك، والسبب في حدوث هذا الخطأ أننا نحكم على أخلاق الرجل بالنظر إلى دليل واحد ولا نعتبر الأدلة الأخرى، وقد يكون في ظواهر أعضائه الأخرى ما يناقض دليل جبهته ويدل على ضعفه أو بالعكس.
Página desconocida