سي داروين [أذكر هنا خاتمة محاضرة البروفيسور هكسلي، بصفتها أحد أول الأحاديث التي ألقاها في تأييد كتاب «أصل الأنواع»، وأفصحها: «قلت إن رجل العلم هو المفسر المحلف للطبيعة في محكمة المنطق السليم العليا. ولكن ما جدوى كلامه الصادق، إذا كان الجهل هو مستشار القاضي، والتحيز هو رئيس المحلفين؟ لست أعرف أي حقيقة طبيعية كبرى لم يسبق تقبلها من كل الناس في حقبة زمنية كان فيها الأشخاص الأجدر بالاحترام على اعتقاد بأن الظواهر الخاضعة للدراسة تعتمد مباشرة على الإرادة الإلهية، وأن محاولة دراستها غير مجدية، بل ومهينة للذات الإلهية. ويتسم هذا النوع من معارضة العلوم الفيزيائية بإصرار عنيد عجيب على البقاء على قيد الحياة. لقد سحق وشوه في كل معركة، لكن يبدو أنه لا يهزم أبدا؛ فها هو ذا بعد مائة هزيمة، لم يزل متفشيا في عصرنا الحاضر قدر تفشيه في زمن جاليليو، وإن لم يعد مؤذيا بالقدر نفسه لحسن الحظ.» «بالرغم من ذلك، فلأولئك الذين انقضت حياتهم - وأستخدم هنا كلمات نيوتن النبيلة - في التقاط حصاة هنا وحصاة هناك على شواطئ محيط الحقيقة العظيم - الذين يشاهدون، يوما بعد يوم، التقدم البطيء، لكنه مؤكد، للمد العظيم الذي يحمل بين طياته آلاف الكنوز التي يرفع بها الإنسان قدر حياته ويجملها - سيكون مثيرا للضحك، إن لم يكن محزنا جدا، أن يروا أشباه الملك «كنوت» في العصر الحالي ينصبون عروشهم على الشاطئ بكل هيبة وجدية، طالبين من تلك الموجة العالية البقاء حيث هي، ومتوعدين بكبح تقدمها النافع. تعلو الموجة ويتطايرون، لكنهم، على عكس الملك الدنماركي العجوز الشجاع، لا يتعلمون درس التواضع؛ فينصبون عروشهم على المسافة التي تبدو لهم آمنة، وتتكرر الحماقة.» «لا شك أن واجب عموم الناس أن يثبطوا أي شيء من هذا القبيل، وألا يصدقوا هؤلاء المتطفلين الحمقى الذين يظنون أنهم يقدمون خدمة للرب بمنع دراسة ما صنعه دراسة شاملة دقيقة.» «ليس كتاب أصل الأنواع بالكتاب الأول الذي يناقش أحد الأسئلة الكبرى التي تولد من رحم العلم، والتي ستتطلب حسما من هذا الجيل، ولن يكون الأخير. العقل الجمعي يغلي على نحو غريب، ويبدو جليا لمن يراقبون علامات العصور أن القرن التاسع عشر سيشهد ثورات هائلة في الأفكار والأفعال كتلك التي شهدها القرن السادس عشر. فمن يدري أي محاكمات وتناحرات أليمة سيكون على العالم المتحضر أن يخوضها في مسار هذا الإصلاح الجديد؟» «لكني أومن بأنه مهما يكن من أمر، فسيكون الدور الذي يمكن أن تضطلع به إنجلترا في المعركة عظيما ونبيلا. ذلك أنها تستطيع أن تثبت للعالم أن ثمة شعبا واحدا يؤمن بأن الاستبداد والديماجوجية ليسا البديلين الضروريين للحكومة بأي حال من الأحوال، وأن الحرية والنظام غير متعارضين، وأن التبجيل هو خادم المعرفة، وأن النقاش الحر هو حياة الحقيقة، ويؤمن بالوحدة الحقيقية بين أفراد أمة واحدة.» «فهل ستؤدي إنجلترا هذا الدور؟ يتوقف هذا على كيفية تعاملكم، يا عموم الشعب، مع العلم. إذا أعززتموه وبجلتموه واتبعتم أساليبه اتباعا أمينا مطلقا في تطبيقها على كل فروع الفكر البشري، فسيكون مستقبل هذا الشعب أعظم من ماضيه.» «أما إذا أنصتم إلى أولئك الذين سيسكتونه ويسحقونه، فيؤسفني أن أطفالنا سوف يرون مجد إنجلترا وهو يتلاشى مثلما تلاشى آرثر في الضباب؛ سيصرخون بعد فوات الأوان صرخة «جوينيفير» المفعمة بالأسى، قائلين: «كان واجبي أن أحب الأسمى،
كان في ذلك نفعي ولا شك لو أنني أدركت،
ولكان فيه سروري لو أنني رأيت.»»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون [15 فبراير 1860] ... أنا مقتنع تماما (بعدما قرأت صباح اليوم) بأن المقال النقدي الوارد في مجلة «أنالز» من تأليف وولستون؛ فلا أحد غيره في العالم كان سيستخدم هذا الكم الهائل من الجمل الاعتراضية. لقد أرسلت إليه خطابا، وأخبرته بأن الرجل «المؤذي» يشكره على أسلوبه اللطيف في الحديث عنه. وأخبرته كذلك بأنه سيكون مسرورا بمعرفة أن أسقف أكسفورد يقول إن هذا هو أشد الكتب شذوذا عن الفلسفة
16
من بين جميع الكتب التي قرأها. أرى المقال ذكيا، ولا يسيء فهم مقصدي إلا في مواضع قليلة. فعلى غرار جميع الرجال المعادين، تجاهل التفسير المقدم للتصنيف وعلم التشكل وعلم الأجنة والأعضاء الأثرية، وغير ذلك. قرأت مخطوطة ورقة والاس البحثية
17
ورأيت أنها جيدة إلى حد مثير للإعجاب؛ إنه لا يعرف أن أحدا قد سبقه في موضوع تحديد عمق البحر الفاصل للتوزيع ... يبدو لي أن النقطة الأغرب في الورقة هي تلك المتعلقة بالطابع الأفريقي لكائنات سيليبز، لكني أحتاج إلى مزيد من التأكيد ...
هنزلو يقيم هنا، وقد تحدثت معه، إن رأيه يشبه رأي بانبري تقريبا،
Página desconocida