ترددوا على الموائد والاحتفالات الشعبية، وزاروا «سوسة» و«قابس» والقيروان، حتى عرفوا وانتشر صيتهم بين الناس، وخاصة موشحات مي الحزينة وصوتها وعزفها الماهر، الذي أطرب جماهير مستمعيها من السمار الشعبيين في المدن وما يتاخمها من ضياع وقصور ودساكر.
كل هذا وأبو زيد لا يغفل لحظة عن المهمة الأساسية التي دفعت بهم إلى داخل بوابات قرطاج وتخومها وقلاعها وحامياتها.
فكان يتحين لحظات تدوين ما تجمع لديه من أخبار وملاحظات ليرسلها - كما يحلو له أن يتندر مع يونس: برا أو بحرا أو جوا (عن طريق الحمام الزاجل).
لتصل طبعا في مواعيدها إلى أسماع السلطان الهلالي والجازية وقطب التحالف الهلالي لعرب الجنوب اليمنيين دياب بن غانم، وحاكم العراق الخفاجا عامر، ووالد زوجته الأمير جابر والقاضي بدير، ودون إغفال بالطبع لزوجته العالية في نجد.
وكانت العالية من حدة تحمل مشاق انتظارها لأبي زيد «تنتزع» ريش طيور البيت من دجاج وإوز عن أجسادها، وهي تخفي في صعوبة ما يعتمل في أعماقها من سياط ولهب الانتظار والبعد واللوعة.
وحين طال بهم الطواف داخل الديار التونسية وضاقت بهم الأحوال أخرج يونس «فرعا كان قد توارثه لعقد من الجوهر الثمين» من جدته الشماء ليبيعوه لأثرياء المدينة.
وحين عرضوه على كبير الدلالين أشار مبهورا إلى تعذر بيعه سوى لابنة سلطان تونس الأميرة عزيزة!
هنا ألجم يونس نفسه عن النطق والكلام أمام الدلال الحصيف، سوى مجرد تبادل النظرات العجلى مع أبي زيد مرة ومع مي مرة ثانية غير مصدق: عزيزة!
حتى إذا ما أعاد الدلال تأكيد وجهة نظره لوفد الشعراء الجوالين الأغراب، متصورا أن ما اعتراهم من تغيير قد يكون مبعثه شكوكهم في نواياه وذمته، واصل كلامه مؤكدا: أجل الأميرة عزيزة، فهي وحدها التي تهيم حبا في اقتناء الأشياء الجميلة النادرة، وتدفع فيها الأثمان المرتفعة، بل هي تسافر في أثرها الشهور الطويلة لتقتنيها داخل مقرها المنعزل شمال قرطاج.
وعندما أعاد يونس التساؤل الصامت بعينيه مع أبي زيد، أيقن الدلال اليهودي من توجس أولئك الأغراب، الذين يبدو من هيئتهم أنهم من دراويش المشرق القحطانيين وأنه بسبب توجسهم هذا سيفقد «سمسرته» وصيده الثمين للغاية من كلا جانبي أو طرفي هذه الصفقة النادرة ندرة العقد الباهر العميق الأخضر، الذي صيغ من نادر أحجار الزمرد.
Página desconocida