وها أنت ترين أي منقلب حاق ببراءتي: فبدلا من أن أثاب على الفضيلة الحقيقية أعاقب على جريمة لم أقترفها، فهل وجد قط أي اعتراف صريح بأي فعلة مثل هذا الإجماع على أقسى العقوبة فلا يخفف منها النظر إلى الضعف البشري أو إلى تقلب مقادير بني الفناء؟ فحتى لو أنني اتهمت بإحراق المعابد المقدسة أو قتل الكهنة بسيف أثيم أو بتدبير مذبحة لأهل الخير قاطبة، لقد كنت حقيقا على الأقل بأن أمثل للمحاكمة فأعترف أو أدان قبل أن أعاقب، ولكن ها أنا أبعد خمسمائة ميل لا أملك قولا أو دفاعا، وقد حكم علي لجريمة لا تستحق أن يدان عليها أحد!
وحتى أولئك الذين أبلغوا عني لم يخف عليهم ما تتحلى به هذه الفعلة من شرف فسعوا إلى تلطيخها بتهمة أخرى، فادعوا، زورا وبهتانا، أنني اختنت ضميري ولجأت إلى وسائل غير شريفة طمعا في منصب، ولكنك، أيتها المقيمة في عقر الروح، قد طردت من قلبي كل مطمع في حطام الدنيا، بل لم تتركي فيه مكانا لمطمع، وما زلت تهمسين في مسامعي كل يوم بذلك المبدأ الفيثاغوري «اتبع طريق الله.» وما كان لي أن أستعين بأحط النفوس وقد سموت بي إلى أعلى المدارج لأكون على صورة الله.
ثم إن حياتي الأسرية التي لا تشوبها شائبة، وصلاتي بأرفع الأصدقاء قدرا، إلى جانب مصاهرتي لسيماخوس
Symmachus
التقي الورع الذي يضارعك وقارا، كل أولئك جدير بأن ينأى بي عن أي شبهة في مثل هذه الجريمة.
والأدهى من ذلك أنهم يدعون أنك أنت التي دفعتني إلى الإثم، من حيث إنني متشرب بتعاليمك متمرس بأخلاقياتك، وهو عندهم دليل على أنني قد اقترفت ما اقترقت! فلم يكف إذن أن توقيري لك لم يعد علي بنفع، بل إنك أنت نفسك صرت محط الكراهية عوضا عني، وفوق كل ذلك فقد أنقض ظهري ثقل آخر هو أن الناس لا تحكم على الأفعال وفقا لمناقبها الخاصة بل وفقا لما ينتج عنها بالمصادفة، فيكون الفعل في نظرهم حصيفا ما دام الحظ حليفه، أما من لم يحالفه الحظ فلا نصيب له من رضا الناس.
وإنه لمن المضجر أن أتذكر ما يدور بين الناس من شائعات وما يتناجون به من آراء شديدة التباين والاختلاف، وبحسبي أن أقول إن هذا هو العبء الأخير الذي يلقيه القدر القاسي على كاهلنا: فحيثما ألصقت تهمة بتعساء الحظ ظن الناس أنهم كانوا يستحقون كل ما ينزل بهم، وهكذا كان العقاب جزاء إحساني، فجردت من أملاكي ومن مناصبي وشوهت سمعتي إلى الأبد.
لكأني أرى الآن أوكار المجرمين الآثمين تضج بالفرح والابتهاج، وأرى أشد الناس يأسا وخذلانا يستهدف لمزيد من التهم الباطلة، لكأني أرى الصالحين من الناس يرزحون خوفا مما يتهددهم بعد الذي حاق بي، بينما يجترئ كل الأوغاد الخاسئين على التهتك والانفلات وهم بمأمن من العقاب، بل وهم طامعون في المثوبة على ما جنت أيديهم، لكأني أرى الطاهرين قد حرموا من الأمن والسلام، بل حرموا حتى من كل فرصة للدفاع عن أنفسهم.
الفصل الخامس
اضطرابه الانفعالي1
Página desconocida