هكذا انفجر محمد الجندي في الرجل، وبعد أن وجه إليه الأوصاف الثلاثة الأول مضى يدور بأبصاره ماسحا الحجرة بناظريه، هادرا في كل وجه من أوجه الزملاء يواجهه: دا لا قهوة نافعة ولا طيب نافع، والناس بقت عايزة الضرب بالجزم، عايزين كرباج من بتوع زمان يسوقهم، أصل احنا كده ولاد (...) مانجيش بالذوق أبدا، إن ما كانش الواحد ياخد على دماغه ما ينفعش، شيل القهوة يا حلوف ... شيلها بقولك.
ويبدو أن صوته الصارخ الزاعق وصل إلى الحجرات الأخرى، إذ ما لبثت رءوس ما أن بدت تطل، ولا تستغرق وقتا كبيرا لتكشف أنها نوبة أخرى من نوبات محمد الجندي، فتتراجع منسحبة خائفة أن يصيبها من شتائمه رذاذ.
ولم يكن أحد يجهل السر، فإيراد المكتب الثاني قد بدأ ينخفض انخفاضا ملحوظا، وعيون الرجال الكبار في المصلحة والوزارة قد بدأت تحمر وتتلمظ وتلمح، وأحيانا تجهر بالاتهامات والشكوك، غير مستعدة أن تصدق أن السبب ممكن أن يرجع أبدا إلى وجود الموظفة الجديدة كما يدعي الجندي، غير ملقية بالا أو اهتماما إلى محاولة الجندي «سبك» الدور ومطالباته المستمرة بنقلها أو التخلص منها، منهية مقابلاتها معه بهزات رءوس مهددة تهديدا يعلم الجندي خطورته، بحيث تلقي كل اهتزازة رأس الرعب في أعماقه.
غير أنها نوبات مهما طالت لا بد أن تنتهي، ويعود الجندي يجلس إلى مكتبه، ويعود الهدوء يسود الحجرة، ولكن أي هدوء؟ والعمل بشقيه تقريبا توقف، وخلف الهدوء الظاهري يكمن تحفز، وتحت جلود الوجوه الطبيعية جلد أصفر شاحب شحوب الخطر وترقبه ... شحوب الحالة «ج»، حتى سناء مصدر الخطر كانت هي الأخرى قد بدأت تستشعر أن ثمة أمرا محيرا غريبا يحدث، لا من وراء ظهرها ولكن أمام عينيها وإن كانت لا تراه ولا تستطيع تحديده، ها هم جالسون مثلا يرفرف عليهم سقف واحد وتضمهم جدران أربعة، ولكن أية حواجز هائلة قائمة تحول بينهم، أو بالتحديد بينها هي وبينهم! لأول مرة تحس بعمق أنها لا تفهم هؤلاء الرجال وأنها بينهم كالطفل الغريب اليتيم التائه في مدينة لا يعرفها، لأول مرة تحس أنهم يكونون عالما ثانيا تجهله، وتخافه، وتحس به معقدا تعقيدا بالغ الوعورة مجرد تأمله يخيف، نفس خوفها الذي لا تجد له تفسيرا كلما اعترت محمد الجندي إحدى نوبات زعيقه وهياجه وشتائمه ... محمد الجندي الذي طالما استثار اشمئزازها الصارخ، والذي طالما ألقت عليه نظرات احتقار لو أحسها لصعقه الإحساس، ما لها حين يبدأ يشخط ويهدر حتى لو كان يخاطب خفاجة أو الحظ أو الصباح المقيت، تتوالى دقات قلبها وتخاف خوفا يدفعها لتأمل محمد الجندي تأمل المذعور؟ تأملا لا يحمل كرها أو اشمئزازا ... تأملا لا ترى معه ملامحه سائلة صفراوية لزجة، وإنما تراها غاضبة، وكأنما تجمدت سيولتها فجأة وتحولت صفرتها حمرة - حمرة الغضب - ولزاجتها صلابة، وعيونه الخضراء الشاحبة توقد فيها نار جهنمية وكأنما يوقدها الشيطان، حتى إذا ما استدار ومستها لمحة من وجهه الغاضب خافت واقشعرت وأصبحت كل أمانيها أن يهدأ ويذهب عنه الغضب ليعود ذلك الكائن الذي لا يخيف.
وأيضا لم يكن خوفها مجرد خوف بسيط، على الأقل ليس مجرد الخوف من زميلها الغاضب، فقد كانت تحس بغضب الجندي يكشف لها ويحمل معه علامات من ذلك العالم الآخر، عالم الرجال الذين تحس بهم أكثر جرأة وأعنف انفعالا ولغضبهم قدرة كبيرة على التحطيم والتخريب، لكأنما كلب رجالي خشن الصوت حاد الناب سيخي النظرات قد انطلق من مربطه في أعماق الرجل فجأة إلى كلماته وتصرفاته وملامحه ومضى ينبح ويهدر ويهدد ... ينشب أنيابه المسنونة في كل ما يعترض طريقه.
خوف مركب أبشع ما فيه أن سناء في الحقيقة، في ذلك الجزء الخفي من الحقيقة الذي لا يطلع عليه أحد سواها وأحيانا تخجل حتى أن تطلع نفسها عليه، لم يكن خوفها الأكبر بسبب احتمال أن يفقد الجندي وهو غاضب صوابه وينشب فيها أظافره وأنيابه، وإنما لاحتمال أغرب لا يكاد العقل يصدقه، أن يفقد صوابه ويتعرى أمامها كرجل مثلا، أو أن ينقض عليها وقد انطلق فيه الرجل الكلب من عقاله ويغتصبها هكذا فجأة، وقبل أن يتمكن أحد من الدفاع عنها، بل حتى قبل أن تتمكن هي من الدفاع عن نفسها.
أيام لا تستطيع حصرها، لا لكثرتها أو لقلتها، ولكن لأنها كانت مجرد يوم واحد متصل طويل، تذهب فيه إلى العمل متمنية أن يكون كل شيء قد تغير، والوضع كالكابوس مر وانتهى، وبهذه الروح تدخل المصلحة في خفة وتحيي خفاجة بابتسامة واسعة وتعرف أنها مبكرة أكثر من اللازم وأن أحدا من زملائها لم يحضر بعد، فتجلس تنتظر التغير الذي تتمناه وتترقبه، محاولة أن تستشفه من طريقتهم في قول : صباح الخير، ومن الثامنة والنصف يبدءون في الحضور، ومن أول الباشكاتب إلى محمد الجندي آخر القادمين تخرج التحية فاترة لا روح فيها ولا طعم، هذا إذا لم يتشاغل بعضهم عن قولها أصلا، لا تغيير! وكأنها هي التي أذنبت وكأنهم ليسوا هم المخطئين، وتمضي الساعات بطيئة ساكنة تكاد تكون كالقوارب في بحر لا هواء فيه ... لا تتحرك، وهي تعاني من شعور غير المرغوب فيه الحساس للكلمة، أي كلمة حين تقال وأي كلام لا يقال، قلقة تغادر مكتبها كل خمس دقائق مرة تجوب المصلحة وتزور الزميلات، وتدهش حين يحادثها الموظفون الآخرون حديث الند للند البريء إلى البريء ولكنها تعلم أنه حديث إلى حين ... ففي الحجرة مشكلتها، وعبث ذلك الحل الذي تحاول العثور عليه لدى الآخرين، كانت قد اشتهرت في المصلحة ب «البنت القنزوحة بتاعت التراخيص» صفة كانت تحنق عليها علنا وتعجب بها سرا، وتعمل على أن تظل محتفظة بها، ورغم إحساسها أن كثرة التجوال في الحجرات والمكاتب والحديث إلى من هب ودب يذهب عنها المكانة الخاصة التي تحتلها، إلا أنها كانت لا تملك منع نفسها من الحديث والتجوال لتعود منهكة بعد رحلاتها المتعاقبة إلى الحجرة، وكأنما بإرادتها تعود تسجن نفسها بين الوجوه الأربعة التي تبدو لها أسمك من الجدران، سجن وإن كان يضايقها إلا أنها تأبى في أعماقها أن تتخلص منه ... فبمثل رعبها من غضب الجندي وزهقها من الزمن الساكن المتوقف ورغبتها المتأججة أن تعرف ما يدور في أعماق سجانيها الأربعة ... بمثل هذا وأكثر منه كانت مستعدة لأن تحتمل الضيق الخانق إلى أقصى مدى، فقط لكي تعرف ماذا سيحدث بعد هذا أو ماذا يمكن أن يحدث؟ شغف كالشغف العارم لمعرفة نهاية قصة بدأت فجأة وسرعان ما ركدت أحداثها وتوقفت، ولكن لا بد أن هناك نهاية لها، لا بد. •••
وربما لهذا السبب تضخم إحساسها بيوم الأحد وتضاعف ترقبها له، هي التي لم تعره أول الأمر عناية ما، وحين ذكر الخبر أمامها ودعيت لم تحفل لا بالخبر ولا بالدعوة، ولا خطر لها احتمال أن تفكر في الذهاب، فما أهمية أن يكون ليسرية زميلتهن المعينة مساعدة لأمين المحفوظات عيد ميلاد يحل يوم الأحد، وتهتم به اهتماما يدفعها إلى التفكير في حفلة وإلى دعوتهن؟ ما أهمية شيء كهذا؟
اليومان التاليان كشفا عن أهمية غير عادية للحفلة كانت ستضمهن جميعا هن الخمس، ولأول مرة سيجمعهن مكان مغلق خارج العمل وبعيدا عن أسماع المصلحة والموظفين، وسناء كانت قد بدأت تؤمن أنها وحدها ليست ندا للموقف، وصحيح أنها كما وعدت لن تتحدث في موضوعها بالذات، ولكن ربما تحدثت أخرى، وربما تناقشن جميعا، ربما صدرت عن إحداهن كلمة قد تضيء كفنار النجاة لها الطريق.
وكادت تندم على حضورها وعلى كل الآمال التي علقتها، فبعدما انقضت ساعة في بهجة مصطنعة، وكأنها تقليد غير متقن لماركة بهجة حقيقية لا بد موجودة في مكان ما على سطح الأرض، وضحك في فشله التام للتعبير عن المرح تكاد تضحك عليه، آن لهن أن ينفردن بأنفسهن وقد ذهبت القريبات والصديقات اللدودات كلهن ما عدا واحدة داعرة القهقهة والنظرات أصرت على البقاء، وحين بدأن يتحدثن عن المصلحة والعمل حديثا تافها أول الأمر يتناول وجهة نظر كل منهن في هدوء هذا الموظف أو ذاك، وفلان ده يا ختي عليه، عليه حتة طابع حسن يجنن.
Página desconocida