قال الشيطان: «لا تكن متسرعا يا أبتاه، ولا تضيع الوقت بالكلام الفارغ، بل اقترب، وضمد جراحي قبل أن يسيل ما في جسدي من الحياة».
فقال الخوري: «إن أصابعي التي ترفع الذبيحة الربانية في كل يوم لن تلمس جسدك المصنوع من مفرزات الجحيم، فمت ملعونا بألسنة الدهور، وشفاه الإنسانية؛ لأنك عدو الدهر والعامل على إبادة الإنسانية».
فقال الشيطان متململا: «أنت لا تدري ما تقول، ولا تعلم أي ذنب تقترفه نحو نفسك، اسمع فأخبرك حكايتي ... كنت اليوم سائرا وحدي في هذه الأودية المنفردة، ولما بلغت هذا المكان التقيت بجماعة من أجلاف الملائكة، فهجموا علي وضربوني ضربا مبرحا، ولو لم يكن مع أحدهم سيف ذو حدين لفتكت بهم جميعا، ولكن ماذا يفعل العزل مع المسلح؟».
وقف الشيطان عن الكلام هنيهة واضعا يده على جرح بليغ في جانبه، ثم زاد قائلا: «أما الملاك المسلح، وأظنه ميخائيل، فداهية يحسن ضرب السيف، ولو لم أنطرح على الأرض، وأمثل دور النزع والموت لما أبقى مني عضوا بجوار عضو آخر».
فقال الخوري بصوت تعانقه رنة النصر والتغلب: «ليكن اسم ميخائيل مباركا، فقد أنقذ الإنسانية من عدوها الخبيث».
فقال الشيطان: ليست عداوتي للإنسانية أشد سوادا من عداوتك لنفسك، فأنت تبارك ميخائيل، وهو لم يفدك بشيء، وتجدف على اسمي في ساعة انكساري، وتنكر معروفي، وأنت عائش في ظلال كياني. أو لم تتخذ وجودي صناعة لك واسمي دستورا لأعمالك؟ هل أغناك ماضي عن حاضري ومستقبلي؟ هل نمت ثروتك إلى حد لا تحتمل معه الزيادة؟ ألا تعلم أن زوجتك وبنيك، وهم كثيرون يفقدون رزقهم بفقدي ، بل يموتون جوعا بموتي؟ ماذا تفعل لو حكم القضاة باضمحلالي؟ وأية صناعة تحسنها إذا أبادت الأرياح اسمي؟ منذ خمس وعشرين سنة وأنت تسير متجولا بين قرى هذا الجبل؛ لتحذر الناس من حبائلي، وتبعدهم عن مصائبي، وهم يبتاعون مواعظك بأموالهم وغلة حقولهم، فأي شيء يبتاعون منك غدا إذا علموا أن عدوهم الشيطان قد مات، وأنهم أصبحوا في مأمن من حبائله، ومعاقله؟ وأية وظيفة يسندها القوم لك إذا ألغيت وظيفة محاربة الشيطان بموت الشيطان؟ ألا تعلم وأنت اللاهوتي المدقق أن وجود الشيطان قد أوجد أعدائه الكهان، وأن تلك العداوة القديمة هي اليد الخفية التي تنقل الفضة، والذهب من جيوب المؤمنين إلى جيوب الوعاظ، والمرشدين؟ ألا تعلم وأنت العالم الخبير أنه بزوال السبب يزول المسبب؟ إذا كيف ترضى بموتي، وبموتي تفقد منزلتك، وينقطع رزقك، ويكف الخبز عن أفواه زوجتك وبنيك؟
وسكت الشيطان دقيقة، وقد تبدلت في وجهه دلائل الاستعطاف بأمارات الاستقلال، ثم عاد فقال: «ألا فأسمع أيها الغبي المكابر فأريك الحقيقة التي تضم كياني بكيانك، وتربط وجودي بوجدانك. في أول ساعة من الزمن وقف الإنسان أمام الشمس، وبسط ذراعيه، وصرخ للمرة الأولى قائلا: «ما وراء الأفلاك إله عظيم يحب الخير»، ثم أدار ظهره للنور فرأى ظله منبسطا على أديم التراب فهتف قائلا: «وفي أعماق الأرض شيطان رجيم يحب الشر»، ثم سار نحو كهفه هامسا في نفسه: «أنا بين إلهين هائلين، إله أنتمي إليه، وإله أحاربه». ومرت العصور إثر العصور، والإنسان بين قوتين مطلقتين، قوة تصعد بروحه إلى العلاء فيباركها، وقوة تهبط بجسده إلى الظلمة فيلعنها. غير أنه لم يكن يدري معاني البركة، ولا مباني اللعنة، بل كان بينهما كشجرة بين صيف يكسوها وشتاء يعريها، ولما بلغ الإنسان فجر المدينة، وهي الألفة البشرية ظهرت العائلة، ثم القبيلة، فتفرقت الأعمال بتفرق الميول، وتباينت الصناعات بتباين المشارب، والمنازاع، فقام البعض من تلك القبيلة بحراثة الأرض، وآخرون ببناء المآوي، وغيرهم بنسج الملابس، وغيرهم بصهر المعادن. في ذلك العصر البعيد ظهرت الكهانة في الأرض، وهي الحرفة الأولى التي ابتدعها الإنسان دون حاجة حيوية، أو داع طبيعي إليها.
وقف الشيطان دقيقة عن الكلام، ثم قهقه ضاحكا بصوت ارتعشت له تلك الأودية الخالية ... وكأن الضحك قد أوسع فوهات كلومه فأسند خاصرته بيده متوجعا، ثم شخص بالخوري سمعان وزاد قائلا: «في ذلك العهد ظهرت الكهانة في الأرض، وإليك يا أخي كيفية ظهورها، كان في القبيلة الأولى رجل يدعى «لاويص» ولا أدري لماذا اتخذ له هذا الاسم الغريب، وكان لاويص هذا رجلا ذكيا، ولكنه كان بطالا متوانيا كره حراثة الأرض وبناء المآوي بكرهه رعاية المواشي وصيد الوحوش، بل كان يكره كل عمل يستلزم السواعد أو الحركة الجسدية، ولما كان الرزق في ذلك العهد لا يأتي إلا بالعمل، كان لاويص يبيت أكثر لياليه خاوي الجوف فارغه. وفي ليلة من ليالي الصيف، وأفراد تلك القبيلة ملتئمون حول كوخ زعيمهم يتحدثون بما آتى يومهم، ويترقبون النعاس، انتصب أحدهم فجأة، وأشار نحو القمر، وصرخ بخوف قائلا: «انظروا نحو إله الليل فقد شحب وجهه، واضمحل بهاؤه، وتحول إلى حجر أسود معلقا بقبة السماء»، فشخص القوم بالقمر، ثم ضجوا صارخين، متهيبين، مرتعشين، خائفين، كأن أيدي الظلام قد قبضت على قلوبهم؛ لأنهم رأوا إله لياليهم يتحول ببطء إلى كرة قاتمة، وقد تغير لذلك وجه الأرض، وانحجبت البطاح، والأودية وراء نقاب أسود، فتقدم إذ ذاك لاويص وكان قد شهد الخسوف، والكسوف مرات عديدة في سابق حياته، فوقف في وسط الجماعة رافعا ذراعيه، وبصوت أودعه كل ما في ذكائه من التصنع والاحتيال صاح قائلا: «اسجدوا وصلوا مبتهلين، وعفروا وجوهكم بالتراب، فإله الشر المظلم يصارع إله الليل المنير، فإذا غلبه متنا وإذا غلب بقينا عائشين، اسجدوا، وصلوا، وعفروا وجوهكم بالتراب، بل أغمضوا أجفانكم، ولا ترفعوا رءوسكم نحو السماء؛ لأن من يشاهد صراع إله النور وإله الشر يفقد بصره ورشده، ويظل مجنونا، وأعمى إلى نهاية أيامه، خروا راكعين، وساعدوا بقلوبكم إله النور على عدوه».
وظل لاويص يتكلم بهذه اللهجة مبتدعا من خياله ألفاظا جديدة غريبة، مرددا كلمات ما سمعوها قبل تلك الليلة، حتى إذا ما مر نصف ساعة، وقد عاد القمر إلى سابق كماله، وجلاله رفع لاويص صوته عن ذي قبل، وقال بلهجة تعانقها رنة الغبطة والسرور: «قفوا الآن وانظروا، فقد تغلب إله الليل على عدوه الشرير، وتابع سيره بين الكواكب والنجوم، واعلموا أنكم بركوعكم وابتهالكم قد نصرتموه وسررتموه، ولذلك ترونه الآن أبهى نورا وأشد لمعانا».
فوقف القوم، وشخصوا بالقمر، فإذا به قد عاد ساطعا منيرا، فتحول خوفهم إلى طمأنينة واضطرابهم إلى مسرة، وأخذوا يقفزون راقصين، ويصرخون مهللين، ويضربون بنبابيتهم صفائح الحديد، والنحاس مفعمين خلايا ذلك الوادي بعويلهم، وضجيج لهجتهم.
Página desconocida