5
جاء الصباح وقد مرت العاصفة، وانقشعت الغيوم، وظهرت تلك الصخور، والغابات متشحة بنور الشمس، فتركت الصومعة بعد أن أقفلت بابها، وفي نفسي شيء من تلك اليقظة المعنوية التي تكلم عنها يوسف الفخري.
ولكنني لم أبلغ منازل الناس، وأرى حركاتهم، وأسمع أصواتهم حتى وقفت قائلا في سري: «نعم إن اليقظة الروحية هي أخلق شيء بالإنسان، بل هي الغرض من الوجود، ولكن أليست المدنية بما فيها من التلبس والإشكال من دواعي اليقظة الروحية؟ وكيف يا ترى نستطيع إنكار أمر موجود، ونفس وجوده على إثبات صلاحيته، قد تكون المدنية الحاضرة عرضا زائلا، ولكن الناموس الأبدي قد جعل الأعراض سلما تنتهي درجاته بالجوهر المطلق».
ولم اجتمع ثانية بيوسف الفخري؛ لأن الحياة أبعدتني عن شمال لبنان في أواخر ذلك الخريف، فجئت منفيا إلى بلاد قصية عواصفها داجنة، أما التنسك فيها فضرب من الجنون.
الشيطان
كان الخوري سمعان عالما بدقائق الأمور الروحية، متبسطا بالمسائل اللاهوتية، متعمقا بأسرار الخطايا العرضية والمميتة، متضلعا بخفايا الجحيم والمطهر والفردوس.
وكان يتنقل بين قرى شمال لبنان؛ ليعظ الناس، ويشفي أرواحهم من أمراض الإثم، وينقذهم من حبائل الشيطان، فالشيطان كان عدو الخوري سمعان يحاربه ليلا، ونهارا بلا ملل، ولا تعب.
وكان سكان القرى يكرمون الخوري سمعان، ويرتاحون إلى ابتياع عظاته، وصلواته بالفضة والذهب، ويتسابقون إلى إهدائه أطيب ما تثمره أشجارهم، وأفضل ما تنبته حقولهم.
ففي عشية يوم من أيام الخريف، وقد كان الخوري سمعان سائرا إلى مكان خال نحو قرية منفردة بين تلك الجبال، والأودية، سمع أنينا موجعا آتيا من جانب الطريق، فالتفت فإذا برجل عاري الجسم منطرح على الحصباء، ونجيع الدم يتدفق من جراح بليغة في رأسه وصدره، وهو يقول مستنجدا: أنقذني، أعني، أشفق علي فأنا مائت».
فوقف الخوري سمعان محتارا، ونظر إلى الرجل المتوجع، ثم قال في ذاته: «هذا أحد اللصوص الأشقياء، وأظن أنه قد حاول سلب عابري الطريق، فغلب على أمره ... هو منازع فإذا مات وأنا بقربه اتهمت بما أنا براء منه».
Página desconocida