ويطلب الشرقيون من العالم أن يبحث في تاريخ آبائهم، وجدودهم، متعمقا بدرس آثارهم وعوائدهم، وتقاليدهم صارفا أيامه، ولياليه بين مطولات لغاتهم، واشتقاقات ألفاظهم، ومباني معانيهم وبديعهم.
ويطلب الشرقيون من المفكر أن يعيد على مسامعهم ما قاله بيدبا، وابن رشد، وإفرام السرياني، ويوحنا الدمشقي، وأن لا يتعدى بكتاباته حدود الوعظ البليد، والإرشاد السقيم، وما يجيء بينهما من الحكم والآيات التي إذا ما تمشى عليها الفرد كانت حياته كالأعشاب الضئيلة التي تنبت في الظل، ونفسه كالماء الفاتر الممزوج بقليل من الأفيون.
وبالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر، ويميلون إلى الأمور السلبية المسلية الفكهة، ويكرهون المبادئ، والتعاليم الإيجابية المجردة التي تلسعهم، وتنبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة. •••
إنما الشرق مريض قد تناوبته العلل، وتداولته الأوبئة حتى تعود السقم، وألف الألم، وأصبح ينظر إلى أوصابه، وأوجاعه كصفات طبيعية؛ بل كخلال حسنة ترافق الأرواح النبيلة، والأجساد الصحيحة، فمن كان خاليا منها عد ناقصا محروما من المواهب، والكمالات العلوية.
وأطباء الشرق كثيرون يلازمون مضجعه، ويتآمرون في شأنه؛ ولكنهم لا يداونه بغير المخدرات الوقتية التي تطيل زمن العلة ولا تبرئها.
أما تلك المخدرات المعنوية، فكثيرة الأنواع متعددة الأشكال متباينة الألوان، وقد تولد بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض والعاهات عن بعضها بعضا، وكلما ظهر في الشرق مرض جديد يكتشف له أطباء الشرق مخدرا جديدا.
وأما الأسباب التي آلت إلى وجود المخدرات، فعديدة أهمها: استسلام العليل إلى فلسفة القضاء والقدر المشهورة، وجبانة الأطباء، وخوفهم من تهييج الألم الذي تحدثه الأدوية الناجعة.
وإليك أمثلة من تلك المخدرات، والمسكنات التي يتخذها الأطباء الشرقيون؛ لمعالجة الأمراض العائلية، والوطنية، والدينية.
ينفر الرجل من زوجته، والمرأة من بعلها؛ لأسباب وضعية حيوية، فيتخاصمان، ويتضاربان ويتباعدان، ولكن لا يمر يوم وليلة حتى يجتمع أهل الرجل بأهل زوجته، فيتبادلوا الآراء المزخرفة والأفكار المرصعة، ثم يتفقوا على إيجاد السلام بين الزوجين، فيأتون بالمرأة ويستهون عواطفها بالمواعظ الملفقة التي تخجلها ولا تقنعها، ثم يستدعوا الرجل يغمروا رأسه بالأقوال، والأمثال المزركشة التي تلين بأفكاره ولا تغيرها، وهكذا يتم الصلح - الصلح الوقتي - بين الزوجين المتنافرين بالروح فيعودا قهرا عن إرادتهما إلى السكنى تحت سقف واحد حتى «يبوخ» الطلاء ويزول تاثير المخدر الذي استخدمه الأهل، والأنسباء؛ فيعود الرجل إلى إظهار نفوره، ومقته، والمرأة إلى إزالة النقاب عن تعاستها. غير إن الذين أوجدوا الصلح في المرأة الأولى يوجدونه ثانية ومن يرتشف جرعة من المخدرات لا يأبى شرب كأس دهاق.
يتمرد قوم على حكومة جائرة، أو على نظام قديم، فيؤلفون «جمعية إصلاحية» ترمي إلى النهوض والانعتاق، فيخطبون بشجاعة، ويكتبون بحماسة وينشرون «اللوائح والبرامج» ويبعثون «الوفود والممثلين» ولكن لا يمر شهر، أو شهران حتى نسمع بأن الحكومة قد سجنت رئيس الجمعية، أو عهدت إليه بوظيفة، أما الجمعية «الإصلاحية» فلا نعود نسمع عنها شيئا لأن أفرادها قد تجرعوا قليلا من المخدرات المعهودة، وعادوا إلى السكينة والاستسلام.
Página desconocida