12
كان الشيخ أبو المعاطي قد انتهى من أذانه، وبدت الدنيا أكثر ظلاما مما كانت قبل أن يحين أذان الفجر، ظلام يغري بانطلاق الهواجس والمكنونات، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يجلس مع «الثور» أو يستبقيه إلى قرب الفجر وما بعد الفجر، حتى لقد بدأ الولد يتساءل عما يريده منه عمه السلطان، ووصل به الأمر أن افترض أنه لو طلب منه مطلب الرجال من النساء، فماذا يفعل؟ لم يكن يدري بالانهيارات الداخلية التي حدثت لسلطان إلى درجة أن مطلبا كهذا كان مستحيلا أن يرد على خاطره، ولكن أنى له أن يعرف أن الأمر قد بلغ بالسلطان إلى منتهاه، وأن تلك اللقاءات الليلية بكثرتها قد فعلت فعلها، وجعلت شيئا غريبا يرتبط في ذهن سلطان بها. كلام رجالة، كلام رجالة. راجل لراجل، راجل لراجل. الرجل يربط لرجولته من لسانه، هكذا كان الكل يعلم، ولكن هو وحده الذي بدأ يعرف أن الرجل أيضا ممكن أن يفك من رجولته بكلمة، ينحل العقد الذي شب وهو يربط نفسه به وبرجولته. ولماذا لا يقترب من الولد «الثور»، والدنيا ظلام، ولا أحد يرى أحدا، حتى هو نفسه لا يرى ولا يريد أن يرى نفسه، وهو يقترب ويقترب، والولد قد وطن نفسه على الاستجابة، فما باليد حيلة، وإذا بالطلب عكس ما وطن نفسه. مذهولا لما حدث ويحدث. فرحان أنه نجا، وإن كان بطريقة أخرى قد وقع، غير مهم، فالمهم أنه قد وصل إلى حالة يستوي معها هذا أو ذاك.
وتم كل شيء والعرق اللزج الفائح برائحة كبرياء يتحطم، وعزة نفس تتمزق، وهوان يستسيغه ويستمتع به، روائح لا تفعل باختلاطها إلا أن تثير الغثيان، ولكنها لم تثر أبدا غثيانه. •••
كل الأسرار يخفيها ظلام ليلة، حتى إذا تعددت الليالي قل ظلامها وكثرت شفافيتها وبدأ ينكشف ما كان يخفيه ظلامها، وبدأت الإشاعات، باهتة تتوالى على أسماع الناس، مستهجنة أول الأمر، وكأنما هي تجديف في حق ولي من أولياء الله، ثم بالإلحاح، تتعودها الأسماع، ثم تصبح شهرته كمثل شهرة شاهين الطحان، الذي كان قد مات، وقيل إن أحمد ابن أخيه هو الذي استدرجه إلى القناطر وأغرقه، غير أن صوته العالي الشاخط المرعب، وإن كانت قد انتابته ليونة، نفس الليونة التي انتابت جلده وعضلاته، إلا أنه كان لا يزال على عادته يشخط: يا ولد. ويستجيب الناس لشخطة الزعيم، ولكن في أكمامهم يخرجون له لسانهم، أو يكتمون ضحكة صاخبة عالية تريد أن تنفجر من صدورهم ذات مرة وتنهي المهزلة.
ولكن أبدا، ذلك الأدب المنافق الذي يتحلى به الناس، كان دائما يحول بينهم وبين أن يجأروا أو يضحكوا أو ينفجروا بالحقيقة.
نفس ذلك الأدب المنافق الذي جعله يستمرئ خضوعهم، ولا يعود يبالي أن يقولوا عنه ما يقولون، يخفون أو يكتمون أو يظهرون، فكما أسقط عنه ذات مرة برقع الرجولة، أسقط عنه بنفسه برقع الحياء.
ونصف نائم، نصف مستيقظ، نصف مخدور، أو سكران، يتأمل جلده وكأنما بفخر، حين يوغل الليل، وهو في الفراندة أو في اللوكاندة، وأمامه فتحي «الثور» أو إبراهيم «الجحش» أو سعيد «البغل» أو صبري «الكلب». فلا يزال هو السلطان، لا يزال هو الأسد.
Página desconocida