وهذا كله يحدث دون أن يشعر سلطان أن جلباب أبيه النظيف الخالي قد امتلأ برصيد حي من المضمون والجاه والنفوذ.
ولهذا كان ماضيا لا يزال كالمهر الأصيل لا يتعب ولا يكل، يجري بلهاث ثابت، لا من أجل هدف محدد وضعه لنفسه، ويريد الوصول إليه، فلم يكن من ذلك النوع من أصحاب الأهداف الخاصة التي يضعونها نصب أعينهم للوصول إليها وتحقيقها، ولكن مضيه كان لا يخضع لأي تفسير عقلي أو نفسي، إنما هو مضي، وكأنما من أجل المضي ذاته، فلا هو وضع نصب عينيه أن يكون زعيما أو محبوبا أو صاحب سلطة ونفوذ، لا المال كان هدفه، ولا الطموح السياسي كان محركه، بل ولا التاريخ أو مكانة في التاريخ يطمع فيها ويسعى لها. كان حقا وصدقا لا يعرف لماذا هو ماض هكذا؟ يحقق، وتنهال عليه الألقاب والصفات والثناء دون أن يسعى لها أو يقيم وزنا، إنما هي نتائج ثانوية لا تشغل باله مطلقا، وتأتي كنتيجة حتمية لدأبه وإصراره ومبادئه التي انغمس تماما في التبشير بها، والعمل من أجل تحقيقها وسيادتها. مجتمعه لا بد أن يكون عادلا لا يمتلئ بمظلومين لا ذنب لهم، مظلومون لا يمتلك الواحد منهم إلا جلبابا، بينما آخرون تمتلئ دواليبهم وحجراتهم بطوابير الملابس المعلقة فوق مشاجبها، وكأن غرف نومهم وملابسهم أجنحة بأكملها من أجنحة بنزايون أو صيدناوي أو الصالون الأخضر. أبوه عمره ما انتقل من مكان إلى مكان بواسطة قطار، أو وسيلة من وسائل المواصلات، إنما هو السير الكعابي المستمر مهما بعدت المسافة، الصدق، الحقيقة، النظافة، التضحية، الجهد من أجل الآخرين، وليس أبدا من أجل احتكار الثروة والتكويش على النفوذ. الزعيم سيد القوم لا بد يكون سيدا؛ لأنه خادمهم. وذو مكانة بينهم؛ لأنه أكثرهم عملا وجهدا من أجلهم، مبادئ بيضاء ناصعة كجلباب أبيه، كانت قبله مجرد ستار، مجرد رداء ليس في داخله أي مضمون، كان مضيه في الكفاح الدائب أن يملأ تلك الثياب الناصعات مضامين حقيقية، وأن يحول الستائر الخارجية الناصعة البياض لتخفي القذارة والقبح إلى ستائر تحوي وتحمي كل ثمين وغال من الحقائق والمضامين.
الرجل ليس بكثافة شاربه وشدة طغيانه، ولكن الرجل رجل؛ لأنه شهم وكريم وشجاع ومضح ومغيث للملهوف، وواقف بجوار المظلوم، مع الضعيف حتى يقوى، وضد القوي حتى يعدل ويعتدل، وتصبح قوته في خدمة العدل والحق. والمرأة امرأة لا بحسبها ودلالها وأنوثتها، وإنما بعملها الأعظم في أن تكون الأم الأعظم لبشرية أرقى، فالأمومة كالرجولة ليست صفة، ولكنها قيم، درجات عليا من السلوك البشري العاطفي والعقلي وحتى الجسدي، بها تفرد الإنسان وعلى هديها وصل إلى قمة في التطور جعلته أسمى حي في الوجود.
الأم.
وغير سلطان اليد التي كان يرتكز عليها، لا لأن التعب من الارتكازة الأولى قد جعله يغيرها، وإنما لأنه وكأنما فجأة قد وصل عند النقطة التي خيل إليه فيها أنه قد عثر على أول الخيط، على السبب والمتسبب، على أمه.
8
الفلاحة السمراء ذات «طابع الحسن» الغائر في منتصف ذقنها الموشوم وشمة الصعيدية البدوية، وكأنه ختم تختم به الفتاة علامة أنها العذراء الكاملة المنتمية إلى قبيلة ليس لها اسم محدد، ولكنها قبيلة النساء الساميات جمالا وشكلا في نفس الوقت، قبيلة المرأة جسدا مخلوقا ذلك الخلق الأنثوي الخاص المثير، ولكنها أيضا علامة أنها إنسانة فيها كل نبل المرأة الفلاحة أو الصعيدية وأنفتها، كل صلابتها عندما يجد الجد، ونعومتها تتحد مع خشونة الرجل لتكون ذلك المزاج المصري القح الذي ينتج أطفالا لهم قيم الرجال ومسئوليات الرجال بما فيها حتى الأخذ بالثأر، كل الفقراء بلا استثناء يكنون حبا للأم ليس كمثله حب آخر، وكل الأمهات الفقيرات يحببن أولادهن، صبيانا وبنات، حبا ليس التدليل والإفساد بكثرة التدليل هو منتهاه، ولكنه الحب المسوى على نار الحياة القاسية كالبتاو، لا يصنعه وينضجه الوقود الصناعي، ولا أفران المازوت، وإنما هو مسوى على حرارة شمس طبيعية، لافحة ولكنها غير صناعية، نفس القانون الذي ينضج الخبز هو القانون الذي ينضج العواطف، هي العلاقة الحارة الحميمة بين الأم والولد، حب صاف منقى؛ لأن هدفه الأعلى إنتاج رجل، وليس إظهار الحب تدليلا لطفل، حب الأم فيه واثقة من حب الابن لها، ولهذا فهي لا تستجدي حبه، أو لا تخاف من كرهه، تريده لنفسه رجلا ولا تريده لنفسها لعبة أو «عروسة» تهزها وتلهو بها.
هكذا يراها، بعين نضجه، الآن.
ولكن الطفل فيه رغم حبه الشديد لها كان يكره ما تصوره أنه قسوتها وخشونتها، بل وأحيانا عقابه ضربا مبرحا أو شكوى مرة لأبيه، أبوه أبدا لم يضربه أو يعاقبه مطلقا عقابا بدنيا، كانت كلمة: يا ولد، يقولها غير عالية أو شاخطة، ولكنها خارجة من عمق رجالي مرعب، كالسكين المسنونة تندب في قلب الجسد، في صمت. كلمة كان يخشاها ويرعبه مجيؤها أكثر من كل زعيق أمه وصراخها وضربها له «بالقنو» الذي تكنس به الدار، والذي ليس سوى سباطة البلح بعدما اقتطعت من النخلة، وذهب عنها بلحها وجفت وتغير لونها، وأصبحت أداة النظافة في البيت، وأيضا أداة التأديب غير المؤذي.
تدليل، لم تدلله.
Página desconocida