يتعانق الظلام في العادة بعد التمام، الخامسة تماما موعده، النزلاء صامتون لمقدمه، إذ المفروض أن يحل الصمت ليتمكن حراس الليل من التغيير مع حراس النهار، ويتمكن شاويش النهار من تسليم شاويش الليل، صمت يهيئ للصراخ أن يتعالى إذا حدث خطأ، وأفلت نزيل من الإحصاء وارتبك العدد. الباشاويش هو المخطئ، ولكن الشتائم تنهمر فوق رأس النزلاء وثمة جري، وصوت الكوالين الحديد يزأر وأبواب أخرى تنهد، حتى لتكاد تهد الحائط الحجري، وأخيرا، يجري الزئير النهائي لمفصلات باب العنبر الكبير، وتخفت الأصوات مع الأقدام مبتعدة، ويحل الصمت، ويستمر للتأكد أنهم جميعا ذهبوا، وأن النهار المتعب انتهى، ثم وكأنما فجأة، تنفجر من الصدور الزعقات والقهقهات والشتائم مكونة مولد المغربية المعتاد.
السكوت في العنبر طوال النهار أحد الأوامر الصارمة، الألسنة تتيبس في الأفواه لقلة ما تتحرك، الحناجر مخشوشنة من فرط السكوت، فقط حين تذهب قوة النهار، ويترك العنبر في حراسة ثلاثة حراس ليل عواجيز في الغالب، وقريبي الإحالة إلى المعاش، فقط حين يطمئن الجميع إلى ذهاب الجميع يفرج كل نزيل عن لسانه، ويبعث الحياة في شفتيه وفمه وصدره ويزعق ويشتم بكل ما يملك من قدرة وقوة، يصرخ ويشتم وينتقم من السكوت وأوامر الشلل، ويزاول الغريزة التي طال حبسها، غريزة أن يشتم، فمن فرط ما يتلقى النزيل من شتائم طوال النهار، وهو عنها ساكت، وبالأمر متسامح، تتكون له فعلا غريزة الشتم تنهال بها كل زنزانة على زنزانة، ويتبارى في مزاولتها الجميع.
في أحيان قليلة جدا يحدث أن فجأة يدور المفتاح في قفل الباب الكبير، ويفتح العنبر، وهنا وفي لمحة خاطفة واحدة يتسمر كل شيء في مكانه، ويحل أعمق وأغرب صمت، صمت الترقب الرهيب لما عساه يكون السبب في فتح الباب، وتتعدد الأسباب وتكثر، وذات مرة تجد السبب باب زنزانتك وهو لروعك يفتح، وكتلة بشرية ما تدلق ليعود الباب فيغلق، قبل أن تسأل أنت القادم أو يفتح هو من تلقاء نفسه فمه للكلام تنهمر مئات الأسئلة من قريب، ومن بعيد، ومن أقصى الدور الثالث نفسه تتساءل عن حكاية هذا الذي دخل، فلا تدخل بعد التمام إلا حكاية مهولة، لا بد في الحال أن تعرف، وهكذا إن لم تبادر وتجيب، حتى قبل أن تعرف أنت ما هي الإجابة، تنهمر عليك أنت الشتائم هذه المرة، وتؤرق عظام أمك وأبيك أحياء كانوا أم أمواتا. حياة رهيبة يتولى فيها أناس حبس أناس، وخنق أناس، وضرب أناس، وحشدهم وتكديسهم هكذا في علب محبوكة من الزنازين والحجرات. - ما بك يا عم ... خير ...
سمعت أنا وحمزة زميلي في الزنزانة، الذي تصادف أن اسمه يشبه اسم قائد السجن الحربي، حيث تتم كل ألوان التعذيب، تشابها كان يجعله وبالتالي يجعلني هدفا لتعليقات ووخزات تعذيب لا حد لها. - ما لك يا عم مالك؟
قالها حمزة هذه المرة بأمل أن يجيب القادم، ومكوما في الركن لا يتحرك كان لا يزال. الأسئلة تترى تخترق باب الزنزانة المصنوع من قضبان متوازية من حديد، لا إجابة، والنتيجة سيول من الشتائم تلعنني وتلعن حمزة، ما أغرب قدرة الإنسان على تعذيب نفسه وتعذيب الآخرين إذا وقع عليه عذاب لا يملك منعه، معذبون يعذبون معذبين. ما أبأسه من محبس داخل محبس، وعذاب في قلب عذاب.
لا رد ولا تحرك ولا يبدو عليه أنه سيرد، أيكون ما نسمعه منه ليس تنفسا عميقا إنما هو نشيج وبكاء، بكاء الصامتين بلا حول ولا قوة. وجدنا أنفسنا نقترب من الرجل نحيط به مشفقين، أيدينا تطبطب عليه، وتستخرج كنزنا الثمين، الشمعة الوحيدة التي نملكها وندخرها للحظات الحاجة القصوى، أشعلناها بضوئها الذي بدا باهرا، مددت يدي ورفعتها من الكتف إلى الرأس أعدله وأرى الوجه.
كدنا نموت أنا وحمزة رعبا، فكلانا طبيب، ونعرف ماذا تعنيه تلك الصفرة المتكاثرة المتشاحبة التي لونت الوجه، الحدقات الواسعة المفتوحة، وهي تمعن النظر في الفراغ وفي اللاشيء ما لم ننبهه، مات. انهلنا عليه بالأسئلة نستفسر إن كان قد ضرب وأي مكان من جسده يؤلمه أكثر. قسنا النبض وعددنا مرات التنفس، الصدمة فعلا واضحة، ولكن لا أثر لأي إصابة في الجسد، لا جرح، لا خدش، لا بطن منفوخ، لا شيء. تنفيذا للمعاهدة المعقودة مع الحارس الليلي ساومناه على كوب القهوة أصر على عشر سجائر ونحن لا نملك إلا علبة، وافقناه على مضض كثير. أخيرا أصبح في يد الرجل كوب قهوة معجز المذاق في تلك اللحظة، وسيجارة «وينجز» بأكملها، وعلى ضوء الشمعة دماء قليلة بدأت تسري في الوجه الخراب، وهمهمة تمتمة، تنهدات، الكل يختلط بالكل والكلمات بالأصوات والإشارات.
ورفض أن يفصح.
نلح عليه بكل ما نملك من طاقة إلحاح، والرفض البادي على هيئة صمت هو وحده الجواب. تشاورنا أنا وحمزة، نتركه؟ نخفف الوطء عنه؟ نترك كل شيء للصباح؟ ولكن حب الاستطلاع فينا لا يمكننا نحن أنفسنا مقاومته، والإلحاح، إلحاحنا وإلحاح بقية الحجرات والزنازين كلما زاد احتمى الرجل بصمته، وتداخلت رغبته في الإفضاء كما يتداخل حيوان القواقع إلى عمق القوقع كلما شعر بلمسة الإصبع.
تركناه، حتى كاد يغلبنا النوم، وكانت الألسنة المطالبة في الخارج قد سكنت. - هل سأموت؟
Página desconocida