وإذا بذاك الإحساس كالبحر حين يتحول إلى بحيرة، والبحيرة إلى فوهة. تنكمش غلالة الحب وترق، وتتحول إلى بقعة، بالكاد عائلته، بالكاد وبالكاد عائلته الأصغر. فابنه الأوسط قد اخشوشن تماما، ونمت له ذقن وأغزرت، وبدأ حتى يصيبه، كخاله بعض الصلع. ابنه الأكبر اتخلع بعواطفه تماما، وأصبح على وشك أن يقيم له بيتا آخر ويتزوج. تكاد العلاقة تصبح رسمية. لم يعد يستطيع أن يلعنه إذا غاظه أو حتى يعلي عليه صوتا. حب، هذا حقيقي، له ولأخويه، ولكنه حب المتأكد أنهم مستقلون، وقادرون، بل وأصبحوا أندادا يكاد لولا الحياء يقول لأيهم: يا سيد.
البنت الحلوة الطفلة ذهبت أيام اللعب معها والضحك والقبلات والأحضان التي وكأنما كان يحضن بها الدنيا، أو بالأصح السعادة كلها الكائنة في الدنيا، حضنه، شيئا فشيئا قد أصبح يملؤه جسد يتضخم حتى صار جسد أنثى، لا تتفتح كل مسامها حين يضمها، وإنما يتكور وينكمش ويستقل ويتحدد جسدا، ثم في النهاية تصبح امرأة أخرى.
وزوجته الغرام، الغرام حين يطول يصبح عادة غرام، وقصة الحب حين لا تنتهي كما بدأت، فجأة يصبح لها خرير مستمر واثق موثوق به لا يحمل مفاجأة أو نكسة. ومن التكرار تتشكل زمالة اثنين أصبحا فرقة لا يتباريان وإنما معا يلعبان مع الحياة اللعبة. واللعبة طويلة مهما طالت لا بد أن تنتهي كالدائرة المفرغة، مشكلة لا حل لها إلا بحلها.
بالكاد لم يعد قادرا إلا على حب الأسرة.
بل في الواقع ذكرياته عن الأسرة. فالطفل الذي يحبه، طفلا كان، إذ هو الآن رجل كان ذات يوم ابنه، والزوجة كانت غراما، والحب كان حبا، حبا لذاته، اليوم أصبح تعلقا شديدا، أصبح أنانية، وكأنما هو الحب للنفس يتخذ أبعادا أخرى.
كل شيء استحال وتغير. كان يستطيع أن يواجه الدنيا بجيب ليس به سوى قروش، الآن يرعبه لو نقص الحساب رقما أو خانة. كان حين يهدد أن يترك البيت كان يفعل هذا بإحساس من هو على يقين مطلق أنه يستطيع، من جديد، وفي التو، أن يبدأ حياة أخرى. الآن يرعبه مجرد أن يبتعد عن الدار أو أن يبعد أنملة عن الخط الذي فرضته عليه حركته مع الدنيا. الدنيا التي تلخصت في خيمة صغيرة مركزها حجرة القعاد في بيتهم، وأقصى أطرافها رحلة لأكل العيش، ولجلب ما عند محيط الدائرة والخيمة إلى مركزها. مركز الدائرة المفرغة والخيمة المفرغة إلا منه ومنها.
ينكمش، يضيق، يتغير، الطعم يتغير، ما يمتع لا يمتع، ما يشبع لا يعود يشبع، والحياة يتغير لها الهدف. من وحده مسئول عن الإبحار إلى فنار يتحقق، إلى فنار بعد فنار. إذ به يصبح مسئولا عن صياغة حياة «سوية» للأولاد الثلاثة والابنة. من أجل أن يصوغ هذه الحيوات لا بد أن يعيد صياغة حياته هو؛ لكي تصبح مثلا يحتذى. بجماع قواه يمسك بزمام كل منهم، وبالزمام العام لا يريد أن يفلت، وشيئا فشيئا لا يعود يعرف أهو السجان للخندق الذي يريد أن يمر كل شيء فيه حتى يستقيم ويعتدل، أهو السجان أم في الحقيقة السجين؟ حريته تضيق إلا عن الأفق المحدد بصرامة، إذا أرخى العنان فلت الجميع. إذا شدد تماما ينفلت الزمام. بأي قوى قاهرة يمنع القبضة أن تكون أضعف، حتى يستغرقه الأمر كله، ويتلخص العمر في خطو دءوب نحو ماذا، نحو أن تنتهي المهمة، أن «يتحرر» وأبدا لا تنتهي المهام، فانتهاء المهمة لا يفعل إلا أن يكشف مهمة أبعد. والعائلة التي كان أفرادها طوع بنانه تشتد فيها السيقان وتقوى وتخشن، بصعوبة يستطيع أن يغير إرادة أو رغبة، الشجيرات أصبحت كل منها شجرة، رفعت الخيمة المحكمة التي كانت تضمها، رفعتها فوق قممها، فبدت في النهاية كالعلم الممزق، كبروا عليه، وصغر عليهم، ولم يعد في النهاية إلا صرافا عليه باستمرار أن يملأ الخزانة، وويله إذا يوما فرغت، فسبب وجوده والمبرر الوحيد للخضوع له يكون قد تبدد. كم أشرفت هيمنته الباقية أن تتهاوى، وكم تغابى وأحنى رأسه للعواصف كي تمر ليبقى كل شيء وكأنه على حاله لم يتغير، وكأن العائلة متماسكة، هو الأب القوي، وهي الأم المثلى، وهم الأولاد الطيبون الناجحون باسم الله ما شاء الله.
ولكن، كان محتما، ولا مهرب منه، يوم تتطور فيه مشادة، أو يحدث حادث، أو يشتبك مع ولد، أو يحدث لأيهم مشكلة، أو يدق الباب ويدور حوار يطول وينتهي إلى تهمة، وتتمزق الأقنعة.
وفي الصباح كانت الغرفة أضيق وأثاثها أكبر، وكان النور هناك، ولكنه يوضح كم الدنيا ظلام، وكم الهواء قليل، وكم هو يقل وسادر في إقلاله، وكم هو يختنق، ويحس أن كل ما كان يجري لم يعد يجري، كل ما كان يتفتق عن العقل من حيل ومن حلول، لم يعد يحل أو يربط. أطبق الواقع الرهيب ولم يعد يقدر أن ينبس، وتشنجت الرغبة في ساقه أن يرفس. رفس. ارتطمت الساق بالمستحيل، مستحيل أن يخرج، العمر فات، والواقع أكبر من كل الطموحات والإرادات. وما يهمس له بالتمرد ما هو إلا شيطان شاطر، عليه أن يطرده ويستكين إلى حياته، فلم يعد في العمر قدر ما مضى منه، وبيته وأولاده ومشاكله هي عمره الذي فات، ولا بد أن تكون عمره القادم أيضا.
أنا غلطان.
Página desconocida