ولكن البرد ازداد حتى بدأ يرتعش. سيقضي نصف يومه التالي يبحث له عن خرق أو أجولة قديمة تغطيه؛ فالبرد أصبح لا يطاق، مهما قرفص، وحشر نفسه، وألصقها بالجدار الداخلي للشجرة. بل حين راح يحك جسده في الجدار النباتي الناعم بالمقارنة إلى الجدار الخارجي الخشن، لم يواته الدفء أبدا.
أحس قرب الفجر شيئا فشيئا أن ثمة دفئا ما قد بدأ يشمله، أيكون دفء الحمى؟ أيكون قد أمرضه البرد، وأصبح في طريقه إلى عطس وكحة ومرض إذا داهمه فحتما سيقضي عليه؟ وتحسس جبهته، وقارن حرارة يديه بحرارة جسده، لا، لم تكن هناك حمى، ولكنه يحس بالدفء ملموسا لا يعرف مصدره، فقط حين - بحكم العادة - ملس على جدار الشجرة الداخلي، أحس أن الحرارة تنبعث منه. وخاف، حتى كادت الرعشة، رعشة الرعب من هذا الدفء الغريب المجهول، تعاوده.
ولا بد أنه خرف أو بدأ يخرف، فقد لمعت في ذهنه الطفولي فكرة، أن الشجرة العجوز قد بدأت تدفئه، وتفعل مثلما تفعل أية أم حين ينكمش ابنها في حضنها، وتحس أنه بردان، فتدفئه! وتخريف أو لا تخريف، أعجبه الخاطر تماما، واستراح حتى كفت أسنانه عن اصطكاكها، وأطرافه عن الرعشة، ووضع رقبته تحت ذقنه، ثم دفن رقبته بين ساقيه، وكأنه يتخذ وضع الوليد في بطن أمه.
ونام.
وكما انتمى إلى الشجرة تماما، وأصبحت ملجأه وملاذه من العالم الخارجي الشرير، حتى أصبح يأوي إليها في عز النهار هربا من القيظ حين جاء الربيع وجاء معه الحر، فوجئ ذات يوم، وكأن الشجرة كانت ضائعة هي الأخرى، وبلا قريب مثله، وبدا كما لو كانت فجوتها تتحور لتأخذ شكل جسده، بل فوجئ ذات يوم بعرق داخلي منها يبرز، ويمتد إلى الخارج من فتحتها ويواليه بالطبطبة وبالسقيا، حتى لفي أسابيع قليلة يكبر، ويكاد يملأ فتحة الفجوة، ويصنع لها بابا يكاد يخفي الفتحة، بحيث لم يعد يعرف مكانها سواه.
ودون أن يدرك هو ما يحدث، وبالطبع دون أن تدرك الشجرة، بدأت علاقة أكبر من مجرد الانتماء والحنان المتبادل، والبرودة تغمره بها صيفا، والدفء تغطيه به شتاء.
أحبها أكثر مما أحب أمه، لقد كانت الحضن والبيت والظليلة والعائلة، وكل ما يمت إليه في الدنيا.
ولا يدري كم من الزمن مضى، عام أو عشرة أعوام، فالزمن كان قد توقف به عند اللحظة التي اكتشف فيها أم الشعور، تلك التي دبت الحياة في كل أنحائها تماما، واخضر كل مكان متخشب فيها، ورغم أنه كان قد وفق إلى «صنعة»، وأصبح صبيا في محل «دوكو»، ويكسب، إلا أنه لم يستطع أن ينتزع نفسه منها، ومن جوفها «الحضن».
ولكن شيئا فشيئا بدأ يحس أن الفجوة تضيق عليه، إذ كان دون أن يلحظ قد كبر، وكبرت معه سيقانه وأذرعه، حتى جاء اليوم الذي لم يعد يقدر أن يحشر نفسه داخلها.
وهكذا الدنيا، فقد كان عليه ذات يوم أن يجمع حوائجه التي خبأها في ثنايات فجوتها، ويودع الخن الذي أصبح من الداخل أخضر كله، ويذهب ليقاسم زميله في المحل وصديقه الحجرة فوق السطح التي كان يقطنها الصديق وحده.
Página desconocida