ونحن نعلم أن السياسة الخارجية في عصر المأمون كانت تنقسم إلى قسمين متمايزين: الأول سياسته مع دول إسلامية مستقلة عن الخلافة. والثاني سياسته مع دول أجنبية غير إسلامية.
وليس هناك شك في أن سياسة المأمون مع الدول الإسلامية المستقلة كانت واضحة بينة الأسلوب؛ فقد اعتقدت الخلافة العباسية دائما أن المسلمين جميعا يجب أن يذعنوا لسلطانها، وإذن فلم تعترف في وقت من الأوقات باستقلال الأمويين في الأندلس، ولا الأدارسة في المغرب الأقصى، وإنما اعتبرتهم بغاة وعجزت مع ذلك عن إخضاعهم لسلطانها فعلا أو اسما، فاضطرت إلى أن تتقيهم من ناحية، وتؤلب عليهم من ناحية أخرى.
على ذلك نستطيع أن نفهم تشجيعها دولة بني الأغلب في إفريقية وعطفها عليها؛ فقد كانت هذه الدولة تستمتع بشيء من الاستقلال غير قليل، وتظفر بحماية الحلافة؛ لأنها كانت بمثابة الحرس الأمامي الذي يرد عن الخلافة غارات هؤلاء البغاة، ويحول بينهم وبين التوسع على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
نستطيع أن نفهم هذا، وأن نفهم أيضا ما نلمحه لمحا في القصص من اتصال علاقات ودية بين بغداد وملوك الفرنج الذين كانوا يناوئون بني أمية في الأندلس.
أما القسم الثاني من السياسة الخارجية فينقسم أيضا إلى قسمين: أحدهما سياسة الخلافة مع أهل الشرق الذين لم يخضعوا لسلطان المسلمين كالترك والديلم، وهذه السياسة واضحة أيضا - على قلة النصوص - فقد كانت سياسة توسع وبسط للسلطان، ولكن في احتياط وتحفظ ومصانعة، وكانت بغداد تعتبر كل هذه الناحية من الشرق منطقة نفوذ تسلك في استغلالها واتقائها عند الحاجة طريقا كلها حكمة وفطنة، فبينما نراها تهاجم فتفتح وتأسر نراها مرة أخرى موادعة محالفة مستخدمة، وهي تستفيد في الحالين، ولكنك تعلم حق العلم ما أنتجته هذه السياسة آخر الأمر حين ضعف الخلفاء، من تسلط أهل هذه المنطقة على أمور الدولة وعبثهم بعظمة الخلافة.
والقسم الثاني هو سياسة الخلافة مع قياصرة «قسطنطينية»، وهذا القسم هو الذي نستطيع أن نقول في غير تردد: إنه احتاج حقا إلى جهود الخلفاء وكفاياتهم؛ فقد كانت العلاقة بين «قسطنطينية» و«دمشق» أيام الأمويين، وبينها وبين «بغداد» أيام العباسيين شديدة الاضطراب والتعقد لا تكاد تستقر على حال، وإنما هي حرب حينا، وسلم حينا آخر.
ومهما يكن من شيء فقد كانت القاعدة الأساسية لهذه السياسة أن الحرب هي الحال الطبيعية بين الدولتين، فأما السلم فحال عارضة؛ ولذلك كانت تسمى دائما هدنة، وربما كان من المعقول أن نقول: إن أصحاب «قسطنطينية» و«بغداد» كانوا يضطرون إليها اضطرارا.
غزو المأمون للروم
قدمنا لك في الكلام عن بابك الخرمي أن المأمون أرسل إليه آخر حملة بقيادة محمد بن حميد الطوسي سنة 212ه، وأن هذه الحملة باءت بالهزيمة والفشل كما باء غيرها مما سبقها من حملات، وأن المأمون انصرف عن بابك مؤقتا لاشتغاله بغزو الروم الذين يعلل بعضهم سبب تحفز المأمون إلى غزوهم، بعد أن ظل السلم المسلح بينه وبينهم زهاء ست عشرة سنة، بما تأكده المأمون من مشايعتهم لبابك وإمدادهم إياه بالمعونة.
ويقول الأستاذ «ميور» في بيان سبب هذه المهادنة الطويلة بين الخلافة والروم، وعدم انتهاز المسلمين فرصة الثورة التي نشبت في بلاد الروم بين «توماس» و«ميخائيل» لغزو آسيا الصغرى: «إنه لا شك أن تريث العرب عن اقتحام بلاد الروم في ذلك الوقت يرجع إلى أن بطريق أنطاكية ببلاد سوريا كان قد توج توماس إمبراطورا، ولو نجح في تأميره وسلطانه لكفى العرب مئونة القتال، ولكان توماس هذا تابعا للخليفة المأمون».
Página desconocida