ويحدثنا التاريخ أن عليا الرضا خلا بالخليفة وكاشفه أن الفضل وزيره يكاتمه حقيقة الحال ويخفي عنه أمور الدولة، وأن أهل العراق يقولون عنه، أي الخليفة: إنه مجنون أو مسحور، وأن الخلافة توشك أن تفلت من يده بين إبراهيم والعلويين، وأن الحسين أخا الفضل يعمل في القضاء على الغرب، بينما طاهر ذلك القائد الباسل الذي يستطيع أن يقود سفينة الدولة إلى شاطئ النجاة منبوذ في سوريا.
وقد أيد هذه الحقائق للمأمون جماعة من قواد الدولة وزعمائها بعد أن أمنهم المأمون من غضب وزيره، ونصحوا إليه بأن خير علاج لسلامة الدولة أن يعجل بالعودة إلى بغداد، وقالوا له: إن هذه كانت نصيحة هرثمة التي جاء من أجلها منذ سنتين ليسرها إليه لو أنه أمهله واستمع له.
فأيقن المأمون أخيرا أن استسلامه للفضل وانقياده له كانا سببا لكل ما حدث من الفتن والثورات، فأمر بانتقال بيت الخلافة إلى بغداد، وما كادوا يحلون بسرخس وهم في طريقهم إلى بغداد حتى وجدوا الفضل قتيلا في حمامه - وكان الفضل قبل ذلك قد اضطهد جماعة القواد والزعماء الذين كشفوا أمره عند الخليفة - فوعد الخليفة بمكافأة لمن يأتيه بالقتلة، ولما قبض عليهم دافعوا عن أنفسهم بأنهم إنما قتلوه بأمر مولاهم الخليفة، ولكن لم يغنهم دفاعهم شيئا وضربت أعناقهم، وبعث الخليفة برءوسهم إلى الحسن بن سهل مشفوعة بكتاب تعزية منه، ووعده فيه بأنه سيستوزره خلفا من أخيه، وبلغ من عطف الخليفة عليه، أو من سياسته وحكيم تدبيره أن عقد زواجه من ابنته بوران التي كانت إذ ذاك، فيما قيل، طفلة في الحول العاشر من عمرها، ولم يدخل بها إلا بعد ثمان سنين بعد ذلك، وفي الوقت نفسه زوج إحدى بناته لعلي الرضا الذي كان في ذلك الوقت قد بلغ الرابعة والخمسين من عمره، كما زوج بنتا له أخرى من ابن علي الرضا، وكذلك ولى أحد إخوة علي الرضا إمرة الحج، وبهذه المصاهرة تمت مظاهر حسن العلاقات وتوثيق العرا بينه وبين الحزب العلوي، وكانت هذه المصاهرة في ذاتها تصرفا سياسيا آية في الحكمة والسداد.
لم يمض بعد ذلك غير قليل حتى حدث حادث آخر لم يكن متوقعا؛ ذلك أنه في أثناء سفر الخليفة إلى بغداد نزل بطوس في فصل الخريف، وهناك مات علي الرضا فجأة وقيل: إن موته كان بسبب إفراطه في أكلة عنب، فدفنه المأمون بجوار قبر أبيه الرشيد، فاهتزت الدولة لموته الفجائي الذي جاء عقب مقتل الفضل، وإنه لمن المعقول في مثل هذه الأحوال أن تنتشر الإشاعات، وتكثر الأراجيف في سبب موته، كما أنه من المعقول أيضا في مثل هذه الأحوال أن يصعب الوقوف على الحقيقة لتضارب الإشاعات وتناقض الأراجيف واختلاف وجهات النظر، وقد قيل فيما قيل: إن المأمون دس له السم في العنب، بيد أن الرعاية التي أظهرها المأمون لعلي الرضا خصوصا بعد توثيق عرا العلاقات بعد المصاهرة قد تدفع هذه الشبهة عن الخليفة.
إنا لا نمنعك من أن تفترض من جهة أخرى أن الفضل وعليا كانا عقبة كأداء في سبيل المأمون لا يزيلها من سبيله إلا موتهما، ويجوز لك أن تذهب في التدليل على أن المأمون كان يعد عليا عقبة في سبيل إرضاء أهالي بغداد، إلى أنه في الوقت الذي كتب فيه كتاب تعزية إلى الحسن بن سهل ينعى فيه موت علي أرسل كتابا آخر إلى أهل بغداد يقول لهم فيه: إن عليا الذي أظهروا سخطهم وتبرمهم من إسناد ولاية العهد له قد قضى، فلا شيء إذن يمنعهم الآن من العودة إلى طاعته وموالاته.
على أنا لا نجاريك في هذا الافتراض لما بيناه لك من ناحية، ولأن نفسية المأمون وخلقه، مما ستقف عليه قريبا، لمما يجعل هذا الافتراض واهنا ضعيفا.
أما فيما يختص بكتاب المأمون إلى البغداديين بشأن موت علي الرضا فنقول لك: إنه وإن لم يحدث أثره المطلوب تماما في نفوس البغداديين لأنهم أجابوا عنه بكتاب جاف فاتر، إلا أنه قد خطا به خطوة ما في سبيل استمالة أهل بغداد، وفي هذا الوقت أخذ أنصار إبراهيم القلائل ينفضون من حوله لضعفه وسوء تدبيره في إدارة الحكم، وتخلى عنه جنوده ولم يتقدموا لمدافعة جنود المأمون، وسقطت المدائن التي كان فيها مقر خلافته في أيدي جنود المأمون وساءت أحواله واضطرب نظام ملكه في فصل الشتاء، ولما دنا قواد المأمون وجنوده للعاصمة لمهاجمتها خرج إليهم قواد المدينة وزعماؤها يظهرون ولاءهم وطاعتهم للمأمون.
وما كادت تنتصف السنة حتى استولى قواد المأمون على المدينة، وحتى اختفى إبراهيم كما اختفى غيره ممن كانوا قد خرجوا على المأمون، وذلك بعد أن عانت ما عانت من ضروب الفوضى واختلال الأمن وسقم الحال مدة سنتين تقريبا، وبقى مختفيا فيما يقال ثماني سنين ثم قبض عليه متنكرا في زي امرأة، ثم عفا عنه المأمون. وسنذكر ذلك في موضعه.
ملخص الحالة العامة في المدة البغدادية - دخول المأمون بغداد (في صفر سنة 204ه/أغسطس سنة 819م)
لما خمدت ثورة بغداد وفر إبراهيم بن المهدي مختفيا، واستقر النظام وعاد أهلوها إلى الطاعة والولاء لخليفتهم تقدم إليها المأمون متئدا في سيره، إذ كان يقف في أثناء سفره بالمدائن التي يمر بها كي يعيد إليها الأمن ويقر فيها النظام، فأقام في جرجان شهرا كما أقام في النهروان ثمانية أيام، فخرج لاستقباله أهل بغداد يتقدمهم أهل بيته وقواده ووجوه المدينة احتفاء بقدومه إليهم.
Página desconocida