وإذن فالسؤال الذي يحق لنا أن نوجهه بعد ذلك مباشرة هو:
ما هي الوسائل التي يستخدمها مبدأ الحرية هذا لتحقيق ذاته؟ تلك هي النقطة الثانية التي يتعين علينا بحثها. (2)
هذا السؤال عن الوسيلة التي تكشف بها الحرية عن ذاتها في العالم يؤدي بنا إلى ظاهرة التاريخ ذاته. ورغم أن الحرية ذاتها تصور منطو على ذاته، فإن الوسائل التي تستخدمها خارجية وظاهرية، تتكشف وتتجلى لأعيننا مباشرة في التاريخ. وإن النظرة الأولى إلى التاريخ لتقنعنا بأن أفعال الناس مبعثها حاجاتهم وعواطفهم وطباعهم ومواهبهم؛ وتبعث فينا الاعتقاد بأن هذه الحاجات والعواطف والاهتمامات هي المصادر الوحيدة للفعل؛ فهي العلل الفاعلة على مسرح الفاعلية هذا. وربما وجدت ضمن هذه أهداف عامة متحررة، كالخيرية أو الوطنية النبيلة، غير أن مثل هذه الفضائل والمواقف العامة ضئيلة القيمة بالقياس إلى العالم ونواتجه، وربما أمكننا أن ندرك المثل الأعلى للعقل متحققا فيمن يستهدفون مثل هذه الأهداف، وفي مجال تأثيرهم، غير أن نسبتهم في الحق إلى مجموع البشر ضئيلة، وبهذا القدر نفسه يكون تأثيرهم محدودا. أما العواطف والغايات الشخصية ، وإرضاء الرغبات الأنانية؛ فهي أقوى الدوافع إلى الفعل. وتكمن قوتها في أنها لا تتقيد بواحد من القيود التي تفرضها عليها العدالة والأخلاقية وفي أن لهذه الدوافع الطبيعية تأثيرا أقرب إلى الإنسان من تأثير النظام الشاق المصطنع، الذي يوجه الإنسان إلى الطاعة وضبط النفس والقانون والأخلاقية. وعندما نتأمل معرض مسرح الانفعالات هذا، ونتائج عنفها، واللاعقلية التي ترتبط، لا بها فحسب، بل بالمقاصد الحسنة والنوايا الطيبة ذاتها (أو بالأحرى ترتبط بهذه الأخيرة بوجه خاص)، وعندما نتأمل الشر والرذيلة والدمار الذي لحق أكثر مجالات الروح البشرية ازدهارا؛ عندئذ لا يسع نفوسنا إلا أن تفيض أسفا على لطخة الفساد الشامل هذه. ولما كان إحداث هذا الفساد لا يقتصر على الطبيعة وحدها، بل تشترك فيه الإرادة البشرية أيضا، فإن النتيجة التي يفضي إليها تفكيرنا قد تكون شعورا بالمرارة الأخلاقية وثورة من الروح الخيرة (إن كان لا يزال لها فينا وجود). ويمكن القول، دون أية مبالغة بلاغية، إن مجرد الجمع بين مظاهر البؤس التي قهرت أقل الأمم والمدن، وأفضل أمثلة الفضيلة الشخصية، يؤلف صورة مخيفة إلى أقصى حد، ويثير انفعالات الحزن الذي لا يعادله حزن آخر في عمقه ويأسه، ولا تعوضه أية نتيجة مواسية. وهكذا نتحمل عند تأملنا لهذه الصورة عذابا عقليا لا يقبل دفاعا أو مهربا سوى القول بأن ما حدث قد حدث على هذا النحو وانتهى الأمر، وأنه قدر، وأنه ما كان في الإمكان رده، وينتهي بنا الأمر إلى الارتداد من ذلك الاشمئزاز الذي لا يطاق، والذي تهددنا به هذه الأفكار، إلى مجال حياتنا الفردية الحبيب إلى نفوسنا، إلى «الحاضر» الذي تكونه غاياتنا ومصالحنا الشخصية. ولكن حتى لو نظرنا إلى التاريخ على أنه المذبح الذي ضحيت من أجله سعادة الشعوب وحكمة الدول وفضيلة الأفراد، فلا بد أن يثار، رغما عنا، السؤال التالي: لأي مبدأ، ولأي هدف نهائي، قدمت هذه التضحيات الهائلة؟ من هذه النقطة ينتقل البحث عادة إلى ذلك الذي جعلنا منه بداية عامة لمعالجتنا للموضوع؛ فقد بدأنا من هذه النقطة، وأشرنا إلى تلك الظواهر التي تكون صورة توحي بقدر كبير من الانفعالات الكئيبة والتأملات الفكرية، بوصفها عين الميدان الذي نعتقد أنه يكشف عن وسيلة تحقيق ما نؤكد أنه المصير الأساسي، والهدف المطلق، أو - بنفس المعنى - النتيجة الصحيحة لتاريخ العالم. ولقد تعمدنا خلال هذا كله اتخاذ «التأملات الأخلاقية» منهجا للارتقاء من مجال الحوادث التاريخية الخاصة إلى المبادئ العامة التي تنطوي عليها هذه الحوادث. وفضلا عن ذلك فمثل هذه التأملات العاطفية لا تهتم فعلا بالارتفاع فوق مستوى تلك الانفعالات المحزنة، وبحل ألغاز العناية الإلهية التي أثارتها هذه التأملات؛ فمن طابعها الأساسي أن تجد رضاء كئيبا في ذلك التسامي الخاوي العقيم الذي تنطوي عليه تلك النتيجة السلبية. وعلى ذلك فسوف نردها إلى وجهة النظر التي اتخذناها، ملاحظين أن الخطوات المتعاقبة للتحليل الذي تؤدي بنا إليه، ستكشف أيضا عن الشروط اللازمة للإجابة عن الأسئلة التي توحي بها تلك اللوحة الكبيرة الزاخرة بالرذيلة والألم، والتي يكشف عنها التاريخ.
وأول ملاحظة يتعين علينا إبداؤها - وهي ملاحظة سبق إبداؤها أكثر من مرة، ولكن لا بد من تكرارها كلما بدا أن الحاجة تدعو إليها - هي أن ما نسميه بمبدأ الروح، أو هدفها أو مصيرها أو طبيعتها وتصورها، ليس إلا شيئا عاما جدا؛ فألفاظ المبدأ، والخطة الأساسية والقانون، تعبر عن ماهية كامنة غير متكشفة، ليست في ذاتها متحققة تماما، مهما كانت صحيحة في ذاتها؛ فالأهداف والمبادئ ... إلخ، ليس لها من مكان إلا في أفكارنا، وفي مقاصدنا الذاتية، لا في مجال الواقع ذاته. وما يوجد من أجل ذاته فحسب، إنما هو إمكانية أو قوة، لم ترق بعد إلى مرتبة الوجود. وهناك عنصر ثان ينبغي إدخاله لنقلها إلى مجال الفعل - هو التحقيق والواقعية، والقوة المحركة لهذا العنصر هي الإرادة - أي فاعلية الإنسان بأوسع المعاني. فبهذه الفاعلية وحدها تتحقق وتنتقل إلى مجال الفعل تلك الفكرة وتلك الخصائص المجردة بوجه عام؛ إذ لا حول لهذه الأخيرة في ذاتها. فالقوة المحركة التي تدفعها إلى العمل، وتكسبها وجودا محددا، هي حاجة الإنسان وغريزته وميله وانفعاله. فتحول فكرة معينة لدي إلى فعل ووجود، هو رغبتي الجادة؛ إذ أرغب في تأكيد شخصيتي بالنسبة إليها، وفي إرضاء ذاتي بتنفيذها. ولا بد لكي أبذل جهدي في سبيل أي هدف، من أن يكون ذلك هدفي بمعنى من المعاني. ولا بد في تحقيقي لهذا الهدف أو ذاك أن أجد في الوقت ذاته رضاء لي، رغم أن الهدف الذي أبذل نفسي في سبيله ينطوي على نتائج معقدة، ليس للكثير منها أهمية بالنسبة إلي. فالحق اللامتناهي للذات هو أنها تجد إرضاء لذاتها في فاعليتها وجهدها. ولو شاء الناس أن يكون لهم اهتمام بأي شيء، فلا بد (إن جاز هذا التعبير) أن يشركوا جزءا من كيانهم في هذا الشيء، وأن يجدوا شخصيتهم راضية عن بلوغه. وها هنا خطأ ينبغي تجنبه، فعندما نصف شخصا بأنه «مغرض» (في اشتراكه في أمر ما)؛ أي يسعى إلى نفعه الخاص وحده، نقصد من ذلك معنى الذم، وننسب الأمر إليه - عن حق - على أنه خطأ. ونحن إذ نذم هذا الشخص، ننتقده لسعيه وراء أهدافه الشخصية دون أي اهتمام بمقصد أعم، يستغله هو لتحقيق مصلحته الخاصة، بل قد يضحي به لهذا الغرض. غير أن من يجتهد في سبيل تحقيق هدف، ليس مغرضا فحسب، وإنما ينصب غرضه على هذا الهدف ذاته. وإن اللغة لتعبر عن هذا التمييز تعبيرا دقيقا. وإذن فلا شيء يحدث، ولا شيء يتحقق، ما لم يسع الأفراد الذين يعنيهم الأمر إلى تحقيق رضائهم الخاص في هذا الأمر؛ فهؤلاء الأفراد وحدات جزئية في المجتمع؛ أي إن لهم حاجاتهم وغرائزهم، وبوجه عام مصالحهم الخاصة بهم وحدهم. ولا تقتصر هذه الحاجات على ما نسميه عادة بالضرورات - كمنبهات الرغبة والإرادة الفردية - بل تشمل أيضا تلك الحاجات المرتبطة بالآراء والمعتقدات الفردية، أو إذا شئنا استخدام لفظ ينطوي على تصميم أقل، اتجاهات الرأي الفردية، هذا إذا افترضنا أن دوافع التفكير والفهم والعقل قد استيقظت. وفي هذه الحالات يود الناس، إذا لزم أن يبذلوا جهودهم في أي اتجاه، أن يكون الموضوع ذاته مقبولا لديهم، وأن يكونوا، من حيث رأيهم في خيرية هذا الموضوع وعدالته وقيمته ومنفعته، قادرين على «الاندماج فيه».
وإذن فنحن نؤكد أن شيئا لم ينجز دون اهتمام من جانب فاعليه، فإذا أمكن تسمية الاهتمام باسم الانفعال
Leidenschaft
على أساس أن الشخصية بأكملها تكرس ذاتها للموضوع بكل ذرة في إرادتها، مركزة جميع رغباتها وقواها فيه، ومتجاهلة كل اهتمام ومطلب فعلي أو ممكن آخر، ففي وسعنا عندئذ أن نؤكد على نحو مطلق أنه لم ينجز شيء عظيم في العالم دون انفعال. وعلى ذلك فموضوع بحثنا يشتمل على عنصرين؛ أولهما «الفكرة»، وثانيهما مجموعة الانفعالات البشرية المعقدة. أحدهما هو لحمة النسيج الضخم لتاريخ العالم والآخر سداه. والوسط الموحد بين الاثنين هو الحرية، في ظل شروط الأخلاقية داخل دولة. ولقد تحدثنا عن فكرة الحرية بوصفها طبيعة الروح، والهدف المطلق للتاريخ. أما الانفعال فينظر إليه على أنه شيء غير سليم، وعلى أنه قبيح بمعنى ما. وهكذا يطلب من الإنسان ألا تكون لديه انفعالات. وأنا أعترف بأن لفظ الانفعال ليس هو اللفظ الذي يلائم تماما المعنى الذي أرمي إلى التعبير عنه؛ فأنا لا أعني هنا سوى الفاعلية البشرية من حيث هي ناتجة عن اهتمامات شخصية - أي مقاصد خاصة، أو إن شئت فسمها مقاصد مبعثها حب الذات - موصوفة، مع ذلك، بصفة خاصة، هي أن كل طاقة الإرادة والشخصية تكرس لبلوغها، وأن الاهتمامات الأخرى (التي قد تكون في ذاتها أهدافا جذابة)، أو على الأصح كل الأشياء الأخرى، يضحى بها من أجلها، وهكذا يرتبط الموضوع مدار البحث بإرادة الإنسان إلى حد يجعله هو وحده المتحكم تماما في عزيمة الشخص وغير منفصل عنها. ويغدو هو ماهية إرادة الإنسان ذاتها؛ ذلك لأن الشخص إنما هو وجود محدد؛ فهو ليس الإنسان عامة (الذي هو لفظ لا يقابله وجود فعلي)، وإنما هو كائن بشري بعينه. (3)
ومن هذا الإيضاح للعنصر الأساسي الثاني في التجسد التاريخي لهدف ما، نستنتج، عندما نلقي نظرة عابرة على نظام الدولة، أن الدولة تكون سليمة الكيان قوية البنيان إذا اتفقت المصلحة الخاصة لمواطنيها مع الصالح المشترك للدولة، وإذا تحقق الأول وأرضي عن طريق الثاني، وهي قضية لها في ذاتها أهميتها العظمى. غير أنه لا بد في الدولة من اتخاذ أنظمة متعددة، ومن اختراع أجهزة سياسية عديدة، تصحبها ترتيبات سياسية ملائمة - مما يحتم صراعا طويلا للذهن قبل كشف ما هو ملائم بحق - ويتضمن كذلك صراعا مع المصالح والانفعالات الشخصية، وترويضا شاقا لهذه الأخيرة، حتى يتحقق الانسجام المنشود. وتبلغ الدولة مرحلة الازدهار والفضيلة والقوة والرخاء في العصر الذي يتحقق فيه هذا الانسجام. غير أن التاريخ العالمي لا يبدأ بهدف واع من أي نوع، كما هي الحال في المجالات البشرية الخاصة. وإن الغريزة الاجتماعية وحدها لتتضمن هدفا واعيا هو أمان الحياة وسلامة المال، وعندما يتم تكوين المجتمع، يغدو هذا الهدف أشمل. ويبدأ تاريخ العالم بهدفه العام - أي إدراك فكرة الروح - ولكن في صورة ضمنية فحسب؛ أي بوصفها طبيعة، وغريزة واعية خفية، بل هي الأشد خفاء، وتأخذ عملية التاريخ بأسرها (كما لاحظنا من قبل) اتجاها يستهدف جعل هذا الدافع اللاشعوري دافعا واعيا. وهكذا تتبدى منذ البداية الأولى، ولكن في صورة مجرد وجود طبيعي الإرادة الطبيعية؛ أي ما يسمى بالوجه الذاتي، والميل المادي والغريزة والانفعال والمصلحة الشخصية، وكذلك الرأي الخاص والفهم الذاتي، ويكون هذا المجموع الضخم للإرادات والاهتمامات والأفعال، وسائل الروح الكلية وأدواتها للوصول إلى هدفها، ونقله إلى الوعي، وتحقيقه. وما هذا الهدف سوى اهتدائها إلى ذاتها، أو عودتها إلى ذاتها، وتأملها ذاتها في تحققها العيني. أما القول بأن مظاهر الحيوية هذه في الأفراد والأمم، وهي المظاهر التي سعوا فيها إلى الاهتداء إلى أهدافهم وتحقيقها، هي في الوقت ذاته وسائل وأدوات هدف أعلى وأوسع لا يعلمون عنه شيئا، ويدركونه لا شعوريا، فذلك قول قد يكون موضوع تساؤل، بل لقد كان بالفعل موضوع شك، وأنكر وانتقد وازدري بشتى الصور، بوصفه مجرد أضغاث أحلام و«فلسفة». غير أني قد أبديت رأيي في هذه المسألة منذ البداية، وأكدت فرضنا - الذي سيظهر مع ذلك فيما يعد في صورة استدلال مشروع - واعتقادنا بأن العقل يحكم العالم، وبالتالي فقد تحكم في تاريخه. وكل ما عدا ذلك خاضع وتابع لهذا الوجود الكلي الأساسي ووسيلة لإظهاره. والقول بأن الحقيقة الوحيدة هي اتحاد الوجود الكلي المجرد عامة مع الفرد أو مع العنصر الذاتي، هذا القول ينتمي إلى مجال النظر، ويبحثه المنطق في هذه الصورة العامة. أما في عملية تاريخ العالم ذاته، وهي عملية ما زالت غير تامة، فإن الهدف النهائي المجرد للتاريخ لا يصبح بعد هو الموضوع المتميز للرغبة والاهتمام. وفي حين أن هذه المشاعر المحدودة ما زالت غير واعية بالغرض الذي تحققه، فإن المبدأ الكلي كامن فيها، ويحقق ذاته من خلالها. كذلك يتخذ السؤال صورة توحيد بين الحرية والضرورة؛ إذ تعد العملية المجردة الكامنة للروح ضرورة، أما الوجه الذي يتكشف للإرادة الواعية للناس، ويغدو موضوعا لاهتمامهم، فإنه ينتمي إلى مجال الحرية.
الفصل الخامس
العالم إرادة وتمثلا
Página desconocida