مثل كتاب القديس أوغسطين «مدينة الله» الذي يشبه كتاب هيجل هذا من نواح عديدة. فهو لا يهتم بالتاريخ من حيث هو مجرد سرد لحوادث متعاقبة في الزمان. بل إن وصف أية حضارة هو بالنسبة إليه مجرد تمهيد لتحديد دلالتها الروحية بالنسبة إلى العصر الحاضر. وحين ينظر تفكيرنا الاجتماعي إلى حضارتنا هذه على أنها النتيجة التاريخية المحتومة لتطور مستمر للمجتمع، فإن هذا التفكير يكتسب تحددا ودقة ما كانت لتتوافر له لو كان يبدأ في بحث مشاكلنا (من الصفر). وعلى هذا النحو أيضا يمكننا التغلب على الشعور بالعزلة الروحية التي هي آفة الحياة الحديثة؛ فالدراسة الفلسفية للتاريخ تكشف لنا عن اتصال في المقصد والغاية بيننا وبين أسلافنا.
ومع ذلك فإننا إذا فهمنا الطابع الديالكتيكي للتطور التاريخي، فلن يؤدي هذا الوعي التاريخي إلى حرماننا من الشعور بفرديتنا أو بالفوارق بين أحوالنا وأحوال من سبقونا. وليست الدلالات الروحية للسجل التاريخي شيئا «معطى»، وإنما هي نتيجة نظر فلسفي. وبالمثل فإن «الضرورة» المنسوبة إلى التقدم الديالكتيكي للبشر خلال العصور ليست مجرد واقعة «اعتباطية» أخرى نجدها هناك على نفس النحو الذي نكتشف به أن قيصر كان أصلع. بل إن من المحال عندما نقرأ التاريخ قراءة «آلية» على أنه مجرد حوادث جزئية متعاقبة، أن ندرك أية ضرورة فيه. «فالضرورة»، كما لاحظ كانت، هي تصور عقلي ينبغي أن نقرأه نحن أنفسنا في هذا السجل. وكما قال فشته، فليس من الممكن أن يعزى إلى التاريخ أي مقصد أو أية ضرورة إلا لأننا نريد أن ننظر إلى التاريخ من خلال صورة الروح أو العقل. وإذا كنا ننسب إلى هذا التفسير الروحي «واقعية»، فينبغي أن نذكر أن الواقعية عند هيجل ليست شيئا في ذاته نهتدي إليه بمجرد التطلع، وإنما هو تركيب مثالي للروح ذاتها.
وهكذا فإن «ميتافيزيقا» التاريخ ليست ناتجا ثانويا محتوما لدراسات تاريخية خالصة لسجل الحوادث الماضية، وإنما هي شيء لا يتوصل إليه إلا بالتفكير في ذلك السجل عندما يفهم ديالكتيكيا من خلال الروح؛ أي عندما نضفي نحن أنفسنا على ما حدث اتجاها أو هدفا. والأمر الذي يجوز أن هيجل لم يدركه بوضوح هو أن الصبغة التي أضفاها على التاريخ ليست هي الصبغة الروحية الوحيدة التي يمكن أن يصطبغ بها التاريخ، وأن لغيره نفس الحق في أن ينظر إلى التاريخ، كما فعل المانويون،
4
على أنه صراع لا نهاية له بين قوى متعارضة، مما يجعل المسألة الروحية أمرا مشكوكا فيه في آخر الأمر، بل إن البعض قد ينظر إلى التاريخ على أنه سجل للإخفاق المنظم الذي يلحقه الواقع بكل أماني البشر. ولكن هيجل لا ينبئنا بالسبب الذي ينظر من أجله إلى تفسيره على أنه أكثر «معقولية» من سائر التفسيرات، وإن يكن من العسير أن نرى، في ضوء تفكيره الخاص، كيف يتسنى له إنكار «صحة» تلك التفسيرات الأخرى، طالما أن هذه التفسيرات قد تكون معبرة، من وجهة نظرها الخاصة، عن مرحلة «أعلى» في تطور الروح البشرية. بل إن هيجل لو كان أكثر سخرية مما هو، لوجد في المذهب المتشائم الذي قال به نقيض هيجل؛ أعني شوبنهور ، مزيدا من الكمال الروحي بالقياس إلى مذهب هيجل ذاته.
وفي فلسفة هيجل فكرتان هامتان أخريان تستحقان التنويه؛ إحداهما هي فهمه للحرية. فكثيرا ما انتقد هيجل لتغييره مفهوم الحرية تغييرا أساسيا؛ إذ إنه عندما يختم وصفه لها، لا يكون قد تبقى من معناها المعتاد إلا النزر اليسير. ولكن مرد ذلك إلى أنه قد نظر إلى هذا التصور، كما نظر إلى غيره، نظرة ديالكتيكية، وهي نظرة تتجه فيها أية فكرة، إذا ما فهمت فهما كافيا، إلى ضدها. وينظر هيجل إلى المسألة على النحو الآتي؛ فالمرء ينظر في البداية إلى الحرية على أنها فعل لما يحلو له. ويعتقد هيجل أن هذا الفهم للحرية هو أكثر التجريدات هزالا، وهو خال من أي معنى أخلاقي. وإنما الحرية عنده قدرة المرء على تحقيق ذاته، وليست الذات أنا محضا، وإنما هي من الوجهة العينية، شخصية ذات ميول وقدرات محددة. ويتوقف كنه هذه الميول والقدرات تماما على ما يتلقاه الفرد من المجتمع الذي يعيش فيه من تدريب وتعليم. وإذن فأول خطوة نحو معرفة المرء لذاته وتثقيفه لذاته هي اعتراف المرء بانتمائه إلى مجتمع متطور تاريخيا، وعلى هذا النحو وحده يهتدي المرء إلى ذاته بوصفه كائنا بشريا متكاملا؛ فالشخص الحر هو ذلك الذي يعرف كيف يفرض بنفسه على نفسه تلك الواجبات والمسئوليات التي تحملها إياه الدولة، وهي في نظر هيجل أعلى النظم الاجتماعية.
وفي فلسفة هيجل شواهد تدل على أن عقليته كانت بيروقراطية إلى حد بعيد، غير أن خصومه من النقاد قد بالغوا دون شك في صبغ مذهبه في الحرية بالصبغة المضادة للفردية والتحررية، وكذلك في إضفاء طابع مطلق على مذهب الدولة لديه. صحيح أن هيجل قد نظر إلى الدولة على أنها تجسد للحرية العاقلة، كما تحقق ذاتها وتعرف ذاتها في صورة موضوعية. فالدولة كما يقول هي فكرة الروح في التجلي الخارجي للإرادة البشرية وحريتها، غير أن هذه الصور «الموضوعية» للحرية ليست هي صورها الوحيدة. ولا يمكن بلوغ أعلى صور الحضارة البشرية إلا في الفن والدين والفلسفة، التي وصفها هيجل بأنها المظاهر البشرية «للروح المطلقة»؛ فتلك مجالات للحياة الروحية تضع قوانينها لذاتها. وليس لأي نظام سياسي محض أي سلطان على تطورها الباطن.
وهكذا يتبدى في فلسفة الحرية عند هيجل ذلك الجمع الغريب بين الخضوع الظاهري للدولة، بل العبودية الظاهرية إزاءها، وبين الحرية الروحية الباطنة التي نصادفها في كثير من الأحيان لدى رجال الفكر الألمان. وفي وسعنا أن نلحظ ملامح مماثلة لدى ممثلين آخرين للعصر الذهبي للفكر الألماني، مثل ليبنتس، وجوته، بل وكانت ذاته. ومع ذلك فمن الإنصاف لهيجل أن نقول إنه ينظر إلى إطاعة الواجبات التي يفرضها المجتمع على أنها مجرد مظهر واحد للتثقيف الذاتي أو التربية الذاتية
self-culture ، ولكنه يشبه معظم المتعلقين بالتقاليد في أنه لا يتذكر دائما أن «العقل الموضوعي» الذي يتجسد في النظم الاجتماعية قد لا يكون في بعض الأحيان سوى مجموعة من السنن والقواعد المتراكمة التي تفرض ذاتها بجمود، ولا تعود تخدم الوظائف «الروحية» الكامنة من ورائها. والواقع أن تمجيده المفرط للدولة البروسية لا يليق بفيلسوف ينظر إلى فلسفته كلها، بمعنى معين، على أنها تفكير في مشكلة الحرية البشرية.
بقيت لنا كلمة عن فلسفة الدين عند هيجل؛ فقد ولد هيجل لوثريا، وكان في نيته، كما قال ذات مرة، أن يموت كذلك. غير أن مسيحيته لا شأن لها بالنزعة إلى التمسك بأصول الدين؛ ذلك لأن هيجل، شأنه شأن كثير من المسيحيين «المتحررين» الذين كان تأثيره عليهم هائلا، لم ينظر إلى الإنجيل على أنه سجل لحقائق تاريخية، وإنما على أنه كتاب من الرموز لا يمكن فهم معناه الباطن على النحو الصحيح إلا بعد قدر كبير من التفسير الفلسفي. وليست مسألة وجود الله، كما تفهم عادة، بالمشكلة في نظره. وهذا لا يعني أن على الذهن العقلي أن يتخلى عن الدين عامة أو عن المسيحية خاصة، بل إن الدين عند هيجل «يستبق الفلسفة»، «وما الفلسفة إلا دين واع»، وعلى ذلك فهو ينظر إلى فكرة التجسد المسيحية على أنها تعبير أسطوري متقدم عن فلسفته هو، وهي الفلسفة التي ترى في التاريخ تجسدا تدريجيا للروح المطلقة. وهكذا فإن ما يعرفه الإنجيل في صورة مجازية على أنه «وحي»، هو بعينه ما يحاول هيجل تبريره في صورة أكثر نقدية أو معقولية. والعنصر المشترك بين الاثنين هو الحاجة الدينية إلى تبرير التاريخ البشري في مجموعه، والنظر إليه على أنه يزيد عن كونه «أسطورة لا معنى لها يرويها مخبول».
Página desconocida