فماذا نقول إذن عن قانون العلية؟ أهناك أي تناقض في إنكار إمكان وجود شيء دون علة؟ يرى هيوم أن الجواب ينبغي أن يكون بالنفي دون قيد ولا شرط؛ فمبدأ العلية الشاملة، من حيث هو قانون للطبيعة، لا يمكن إدراك صحته بطريقة أولية سابقة على التجربة.
وللمسألة موضوع الخلاف هنا أهمية قصوى؛ إذ لو كان مبدأ العلية غير يقيني، لبدا أن العلم بأسره لا يرتكز على أساس أمتن من ذلك الذي ترتكز عليه العقيدة المنزلة. وإذن فهلا يوجد مبرر لاعتقاد العالم باطراد الطبيعة؟ أهذا الاعتقاد مجرد رأي إيماني ليس له من الأسس العقلية أكثر مما لالتزامات الكاهن أو النبي أو الطبيب؟
مثل هذه الأسئلة الفائقة الأهمية هي التي تصدى لها كانت في كتابة «نقد العقل الخالص»، وكانت إجابته عليها تؤلف الجزء الأكبر من ثورته الكبرنيكية في الفلسفة؛ فقد أخذ كانت بالوجه السلبي لتحليل هيوم، ووافق على أن أصحاب المذهب العقلي كانوا يفتقرون إلى الروح النقدية عندما اعتقدوا أن قانون العلية الشاملة حقيقة مطلقة يدرك العقل بحدسه انطباقها على جميع الأشياء كما هي في ذاتها. وكان من رأيه أن ذلك القانون ليس، على حد تعبيره، «تحليليا»؛ فهيوم كان مصيبا تماما حين أنكر أن معنى لفظ «الشيء» يستتبع أن تكون له علة. وإذن ينبغي أن يكون المبدأ «تركيبيا». غير أن كانت يأبى أن ينظر إلى هذا المبدأ على أنه مجرد تعبير عرضي عن أمر واقع، مثل «كل البجع أبيض»، أو «كل الفلاسفة مصابون بالعصاب». وإذن، فإلى أي نوع من القضايا ينتمي قانون العلية؟
يجيب كانت عن هذا السؤال بأن القانون ليس تعبيرا عن أمر واقع، ذا صحة بعدية
aposteriori ، وليس إيضاحا «تحليليا» لمعان موجودة بالفعل في تصور ما. وإنما هو مبدأ تنظيمي يعبر عن قاعدة شاملة لكل بحث عقلي؛ فجميع المبادئ التي تنتمي إلى هذا النوع أولية، ولكنها تركيبية أيضا؛ أي إنها ذات شمول وضرورة مطلقة، ومن ثم فإن صحتها لا تتوقف على تأييد من التجربة، بل إن صحتها، على العكس من ذلك، تفترض ضمنا في جميع الأحكام التي تنقل إلينا معرفة بالظواهر. ومع ذلك فهل هذه المبادئ تنطبق على تصورنا للأشياء من حيث هي موجودة، لا على ما أسماه هيوم بالعلاقات بين الأفكار فحسب.
وإذن فالسؤال الأساسي في نقد العقل لا يعدو، في رأي كانت، أن يكون: «كيف تكون الأحكام التركيبية الأولية ممكنة؟» وليس في وسعنا في هذا الحيز المحدود، إلا أن نشير إشارة عامة إلى إجابة كانت على هذا السؤال؛ فالمقدمة التي يرتكز عليها هي أن الذهن البشري لا يمكن تصوره مرآة سلبية تعكس، بطريقة حدسية، الأنماط الكامنة في الأشياء كما هي ذاتها، أو العنصر المعقول فيها، وإنما ينبغي أن ننظر إلى ما نسميه بالذهن على أنه قوة فعالة تقوم هي ذاتها بتشكيل المادة الخام التي تقدمها التجربة الحسية في نظام شامل من الظواهر المصوغة في تصورات. ومع ذلك فإن كانت ليس «مثاليا»؛ أي إنه لا يقول إن الذهن ذاته هو الحقيقة الوحيدة، أو أن الذهن يخلق عالمه؛ فعناصر التجربة الحسية «معطاة» سواء شئنا أم لم نشأ، ونحن، بكل بساطة، نجدها هناك كلما فتحنا أعيننا وآذاننا. كذلك لا يشك كانت في أن ثمة «أشياء في ذاتها» بمعنى معين؛ أشياء خارجة عن الذهن، ذات حقيقة مستقلة عنه. بل إن هذا الافتراض في الواقع من القضايا الرئيسية في فلسفته بأسرها. غير أن الأشياء في ذاتها ليست، في رأيه، موضوعات للمعرفة، وليس لدى الذهن أي شيء يقوله عنها بالمعنى الصحيح. بل إن مهمة الذهن هي تشريع قوانين البحث، التي تتيح للوقائع الحسية الخام أن تتعايش سويا في مجتمع مدني يضم موضوعات خاضعة للقانون.
ومع ذلك، فمن واجبنا ألا نمضي في هذا التشبيه أبعد مما ينبغي؛ فكانت لا يعتقد أن الذهن المشرع يستطيع إذا شاء أن يضع قواعد غير تلك التي تستخدم بالفعل في تفكيرنا العادي وتفكيرنا العلمي في الظواهر. وفي هذا الصدد ظل كانت ملتزما التراث العقلي الذي تأثر به؛ فما يسميه كانت ب «صورتي الحدس»، وهما المكان والزمان، هما، رغم ذاتيتهما، كامنتان في كل إدراك بشري. وفي رأيه أن من المحال تصور شيء لا يشغل مكانا ولا يمر بزمان. وفضلا عن ذلك فقد اعتقد كانت أن الهندسة الإقليدية، التي كانت في عصره الهندسة الوحيدة التي وضعها الرياضيون، تعبر عن العلاقات الضرورية الشاملة بين جميع الموضوعات التي يمكن أن تظهر لنا في المكان، ولم يدر بخلده قط أن من الممكن وضع هندسات أخرى قد تكون أكبر فائدة من هندسة إقليدس في ميادين علمية معينة. كذلك اعتقد أن مقولات مثل العلة والجوهر أساسية في كل تفكير عقلي حول الظواهر. ولم يطف بذهنه مجرد إمكان قيام علم يستغني عن هذه المقولات.
ومع ذلك، فالأمر الذي أدركه بوضوح هو أن جميع المقولات، من أمثال «العلة» و«الجوهر»، لا تمثل علاقات أو كيانات حقيقية.
ولقد كان هو أول من قال بذلك الرأي الذي عبر عنه مفكرون تالون على أنحاء شتى، والقائل إن التصورات والمبادئ المنهجية للبحث ليست تعبيرا عن عنصر عقلي كامن في طبيعة الأشياء، وإنما هي أفكار وقواعد إجرائية، تتخذ لأغراض عملية هدفها السيطرة على العالم الذي نعيش فيه.
ونستطيع أن نقول، على الإجمال، إن الوجه السلبي لمذهب كانت كان له أثر أعظم من الوجهة التاريخية؛ فموقفه، كما رأينا، يحتم ألا تكون صورتا الحدس، وهما المكان والزمان، ومقولات الذهن، كالجوهر والعلة، قابلة للانطباق على ما يتجاوز المعطى في التجربة الحسية. والثمن الذي ينبغي علينا أن ندفعه لكي نضمن إمكان المبادئ التركيبية الأولية، كقانون العلية، هو أن نقصر تطبيقها على عالم الظواهر الداخلة في نطاق التجربة. ومن حقنا أن نظل نميز، داخل هذا العالم، بين ما هو «حقيقي»، وما هو «خداع»، غير أن مثل هذا التمييز لا ينطبق على الأشياء في ذاتها؛ فعندما نحاول أن نتوسع في تطبيق أفكار كالعلة والجوهر بحيث تسري على الأشياء في ذاتها، أو أن نفكر «بطريقة واقعية» حول «علة» عالم الظواهر في مجموعه، فإن المطاف ينتهي بنا حتما إلى نقائض لا ضابط لها، ولا قبل للذهن البشري بحلها على الإطلاق. مثل هذا الاستخدام النظري
Página desconocida