ولقد كان كلام ماركس وإنجلز عن وجود معنى مضلل ودلالة «حقيقية» باطنة للمذاهب الأيديولوجية أقوى أثرا أو أعمق تغلغلا في تفكير القرن العشرين مما يعترف به عادة؛ ففي رأيهما أن علاقات الناس وأفكارهم عندما تصاغ في قوالب أيديولوجية، تظهر الصورة المقلوبة؛ أي إن الأيديولوجية والفلسفة تتجهان إلى عرض الأفكار ذاتها كأنها قوى متحكمة قادرة على توجيه وتحديد العلاقات السياسية والاقتصادية بين الناس. وإلى هذا الميل إلى أن نصبغ بصبغة موضوعية ونشخص ما هو في حقيقته مجرد ناتج ثانوي ذاتي للصراع الاقتصادي الطبقي، ترجع سيطرة الأفكار الخالصة على من يؤمنون بها، ويعتقدون أن في إمكانها إحداث فارق ملحوظ في حياتهم. وهذا كله باطل؛ فالصورة التي تعرض بها القضايا الأيديولوجية تخفي مضمونها الحقيقي، وهي في واقع الأمر لا تعدو أن تكون مظهرا للتضليل اللغوي اللازم للدعوة إلى أية «نظرية» أيديولوجية. والواقع أن الأيديولوجيات في نظر ماركس إنما هي «انعكاسات» أو «أصداء» لقوى أخرى متحكمة تقوم هي ذاتها بالمهمة الأساسية في إحداث أي تغيير اجتماعي حقيقي. ويطلق ماركس على هذه العلل التنفيذية أو الفاعلة للتغير الاجتماعي اسم العلل «المادية»، وذلك إيضاحا للتقابل بينها وبين نواتجها العرضية الأيديولوجية.
وليس هذا موضع القيام بتحليل أو تقدير شامل لأقوال ماركس وإنجلز التي لم تكن متسقة دائما، بشأن الصلات بين «التركيب الظاهر» الأيديولوجي وأساسه الاقتصادي المادي. غير أن هذه النظرية توحي ضمنا على الدوام بأن المذاهب الأيديولوجية أساطير اجتماعية أو «مخدرات» للشعوب، وبأن «أسباب» قبولها لا صلة لها، في أساسها، باعتبارات البداهة أو الواقع. وما زالت هذه الفكرة المتضمنة في النظرية مرتبطة بمفهوم الأيديولوجية حتى يومنا هذا.
وأود في هذا الكتاب أن أستخدم بعض، لا كل، المعاني والارتباطات التاريخية المعقدة للفظ «الأيديولوجية». والرأي الذي أود أن أقدمه ها هنا هو أن الفلسفة لم تعد تتصور، خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، على أنها امتداد للعلم ذاته أو جزء منه. وهذا، كما سنرى، يصدق حتى على أشد الفلاسفة تعلقا بالعلم، مثل أوجيست كونت. غير أني لا أستخدم لفظ الأيديولوجية بمعنى مجازي لكي أوحي بأن هيجل أو كونت أو حتى ماركس ذاته قد استخدموا فلسفاتهم - بشيء من المخادعة - ذريعة لتحقيق أهدافهم السياسية أو الاجتماعية الخفية؛ فلا المثالية، ولا الوضعية، ولا المادية، يمكن أن تفهم أو تقدر بما فيه الكفاية إذا ما عدت مجرد أساطير أو مخدرات اجتماعية. كذلك لا أود أن أوحي بأن جميع المذاهب الفلسفية لدى الفلاسفة الذين سنعرض لهم هي مذاهب «لا عقلية»، بل إن استخدامي للفظ «الأيديولوجية» محايد تماما في هذه النواحي. ولا جدال في أن الالتزامات الأيديولوجية لفلاسفة القرن التاسع عشر يمكن أن توضع مقابل المعتقدات الواقعية المنتمية إلى النوع الذي يؤمن به الناس العاديون أو رجال العلم من حيث هم علماء، غير أن هذا لا ينطوي على أقل اعتقاد بأن هذه الالتزامات لا عقلية، أو بأنها تقترح أو تقبل بلا سبب. ومن الأمثلة الواضحة لذلك هيجل؛ فهو لم يفترض لحظة واحدة أن فلسفة التاريخ لديه تنتمي إلى مجال العلم الوضعي، ولكنه صاغ هذه الفلسفة على نحو نقدي واع بذاته إلى حد بعيد، وهو يقدم ما يطلق عليه «مل» اسم «خواطر للتأثير في الذهن»، وهي في رأيه كفيلة بأن تجعل هذه الفلسفة معقولة، وربما مقبولة لدى أي شخص نزيه. وفضلا عن ذلك، فحتى لو كان صحيحا أن صفة «الأيديولوجية» تنسب إلى معظم القضايا الفلسفية لفلاسفة القرن التاسع عشر، بحيث تضعها مقابل نظريات العلم التجريبي، فهذا لا يعني بأية حال أنه لا توجد بين هذه الفلسفات وبين العلم التجريبي أية علاقات سوى علاقة التضاد أو التقابل.
وهذا يفضي بنا إلى بحث لا بد منه في أي تقدير سليم لفلاسفة القرن التاسع عشر؛ فكتاباتهم عادة معقدة، وكثيرا ما تكون غامضة، وذلك على عكس أسلافهم في القرن الثامن عشر. غير أن من الأسباب الرئيسية لذلك أنهم اضطلعوا بمهمة لم يكن لدى هؤلاء الأخيرين أبسط فكرة عنها. ومن المسلم به أن السهولة والسلاسة أمر يسير، طالما أن المرء يقنع بأن يستخدم، دون تساؤل، تلك التصورات والمناهج المتوارثة التي فرضت عليه «معقوليتها»، «وصحتها»، مقدما. ولكن إذا ما بدأ المرء في الشك في ضرورتها الأزلية الشاملة، وبالتالي في الشك في وجود معايير ومبادئ موضوعية في «طبيعة الأشياء»، فإن عمل التحليل والنقد الفلسفي يبدأ عندئذ في الظهور في ضوء مخالف. ففي «عصر العقل»،
6
ظلت الإهابة بالعقل أو بالطبيعة لا تلقى انتقادا، لا لشيء إلا لأن معظم الفلاسفة كانوا يشاركون في نفس الإيمان بالعقل، وقبلوا معظم ما تتضمنه نفس مجموعة المبادئ «العقلية». ولكن مثل هذه الإهابة لم تعد ممكنة بالنسبة إلى كانت وخلفائه. ولهذا السبب اضطروا إلى الاضطلاع بتلك المهمة التي هي أعجب وأغرب المهام الفلسفية، ألا وهي نقد العقل ذاته وتبريره؛ فهؤلاء الفلاسفة لم يكونوا شكاكا بأي معنى معتاد للكلمة، وإنما كان شكهم محدودا، وموجها في المحل الأول إلى المفاهيم السائدة للعقل، وإلى الادعاءات الفلسفية التي كانت تساق بلا حساب باسم العقل.
كما أنه ليس من الإنصاف أن يستخف المرء بهم بحجة أنهم ليسوا إلا رومانتيكيين لا عقليين؛ فهم لم يثوروا إلا على عصر العقل وعلى ما يمكن أن يسمى بالحساسية الزائدة للعقل في الفلسفات العقلية السابقة. والذي حدث هو أن مفهوم العقل لم يعد تلك الفكرة الواضحة المتميزة التي بدت لديكارت أو اسبينوزا، ولم تعد قوانينه المزعومة تتسم بما ادعي لها من وضوح ذاتي. ومع ذلك فإن هذه الشكوك لم تكن إلا إحدى مراحل اتجاه عام متزايد القوة إلى النقد الذاتي، كانت تمر به الحضارة الغربية بأسرها. ففي ذلك العصر، امتدت إلى قلب الفلسفة ذاتها تلك الثورات السياسية والاجتماعية والعلمية التي كانت مستمرة منذ عصر النهضة، مما أدى آخر الأمر إلى التشكك في أداة التفكير الفلسفي ذاتها؛ أي العقل. وهكذا تساءل المفكرون: أفلا يجوز أن يكون العقل، ذلك المحرر المزعوم للفكر البشري، مجرد مستودع للأوهام البالية والعادات الذهنية العتيقة التي لا تتسم بأي قدر من الصحة الشاملة؟ فإذا صح ذلك، فماذا إذن تكون «الصحة
Validity » ذاتها؟ وكيف تحدد معاييرها، أو تعدل إذا اقتضى الأمر؟ بل كيف يكون نقد العقل ذاته ممكنا؟ أليس هناك نوع أساسي من الامتناع في نفس محاولة نقد وشروط وحدود كل قول معقول، تقويم مهمة العقل العملي ذاتها؟
ولم تكن الإجابات التي أدلى بها كانت وخلفاؤه على هذه الأسئلة تتسم بما يوده المرء من الوضوح. غير أن من أسباب إخفاقهم في هذه المهمة، بالقياس إلى غيرهم، أنهم اضطروا إلى إثارة مسائل لم تثر من قبل، بل لقد خلقوا، من العدم تقريبا، إطارا من التصورات ومنهجا لمناقشتها. وترتب على ذلك أنهم ارتكبوا أخطاء، وكثيرا ما ضللوا قراءهم، بل أنفسهم، باللغة الجديدة الغريبة التي استخدموها في محاولة حل مشاكلهم. وبدا أحيانا أنهم يمارسون نشاطا فلسفيا يشبه ما أطلق عليه الفلاسفة السابقون اسم «الميتافيزيقا» أو «علم المعرفة». ولكن الواقع أن المرء عندما يتأمل ما وراء شكل الألفاظ، يجد أن هدفهم كان في حقيقة الأمر القيام بنقد أساسي، لا للعقل فحسب، بل لكل نظام المعايير والمبادئ في الفلسفة الغربية. وهذه المهمة لم تتحقق، ولم يكن من الممكن أن تتحقق، من طريق مجرد استخدام مناهج «عقلية» كانت هي المستخدمة تقليديا في النظر الفلسفي؛ إذ إن هذه المناهج ذاتها كانت تؤلف جزءا أساسيا من الحضارة التي أصبحت معاييرها موضوعا للشك والتساؤل.
ومع ذلك فمن الخطأ أن نتصور أن فلاسفة القرن التاسع عشر كانوا «مجرد أيديولوجيين»، أو أن مذاهب أسلافهم لم تكن لها أوجه أيديولوجية ، بل إن الأمر على العكس من ذلك تماما.
Página desconocida