4
وبرتراند رسل، على اتجاه الفلاسفة المشهورين في القرن التاسع عشر إلى بناء مذاهب فلسفية ضخمة، وأكدوا أن التقدم الفلسفي لا يتحقق إلا من التحليل الأكثر تفصيلا للتصورات الجزئية، والدراسة المتخصصة لمشكلات محددة. وأدى هذا المزاج التعددي الجديد إلى إعراض عن الروح المذهبية الفلسفية القديمة المفرطة، وعن المركبات الضخمة التي كونها هيجل وسبنسر، والتي تولد شعورا غامضا بالاطمئنان دون أن تساهم بشيء في فهمنا للطبيعة؛ فقد هاجم مور تناقضات المثالية باسم الرأي الشائع لدى الإنسان العادي؛ وهاجمها رسل باسم العلم، ورفض كلاهما طريقة التفلسف هذه، التي لا يتوافر فيها شرط الوضوح والتميز الديكارتي، ورفضا بشدة نظرية الترابط (
Coherence ) عن الحقيقة، وفكرة العلاقات الداخلية، مؤكدين - كما فعل هيوم من قبلهما - أنه ليس ثمة علاقات «داخلية» أو «ضرورية» بين الأمور الواقعية، ورأيا أن معيار الحقيقة لا يمكن أن يكون مجرد الترابط أو الاتساق الداخلي للقضايا، بل إن المعيار النهائي لأية قضية إنما هو مطابقتها لواقعة ملاحظة. وزعما بأنهما «واقعيان»، ولعله قد فاتهما أحيانا أن موقفهما الأساسي يتعرض للخطر بفعل نقد العقل الذي كان أعظم ما حققه كانت وأتباعه المثاليون.
على أن الفلسفات البرجماتية والواقعية الجديدة التي أخذت في الظهور عند مطلع القرن الجديد كانت مصممة، من وراء هذا كله، على التقريب على نحو أوثق بين الفلسفة وبين الرياضيات والعلوم التجريبية؛ فقد كان رسل كأسلافه من فلاسفة القرن السابع عشر، يحلم بفلسفة علمية جديدة لا تعترف بوجود فارق أساسي بين الفلسفة والعلم. بل إنه ذهب إلى حد القول بأن الأخلاق والفلسفة السياسية ليستا في الواقع جزءا من الفلسفة على الإطلاق؛ إذ إنهما لا تعنيان بالحقيقة، وإنما بالتعبير عن المواقف وتنظيمها فحسب.
وفي رأيي أن ما حققه هؤلاء المفكرون اللامعون قد ساهم بدور كبير في تنوير البشر. غير أن ثمة دلائل تدل على بدء ظهور اتجاه إلى تقدير فلسفة القرن التاسع عشر تقديرا أعدل وأكثر عطفا، بعد أكثر من خمسين سنة كان فيها تأثير جيمس وبيرس وديوي في أمريكا، ومور ورسل في إنجلترا، هو التأثير الغالب. فقد بدأنا نذكر أنفسنا، أولا، بأن روح التنوير لم تختف بالفعل قط في القرن التاسع عشر، وبأن الفلسفات السائدة في عصرنا هي في أساسها استمرار للمواقف الفلسفية التي دافع عنها مفكرو ذلك القرن بقوة ومقدرة. بل إن الوضعية ذاتها، كما رأينا، هي وليدة القرن التاسع عشر، كما أن مواقف المذهب التجريبي والمذهب الطبيعي قد ظلت سائدة لدى مل وسبنسر، بل لدى نيتشه وماركس. ومن الممكن أن يقال بالفعل إن المثالية لم تعد هي القوة الغالبة على فلسفة القارة الأوروبية بعد عصر هيجل، وأن تأثيرها الأكبر كان بعد سنة 1850م مقتصرة على بلدين ناطقين بالإنجليزية، وأكثر تخلفا في هذا الميدان، وهما إنجلترا وأمريكا. وبالاختصار فعلينا ألا ننسى أن القرن التاسع عشر، مع كل ثورته الرومانتيكية على «عصر العقل»، كان هو ذاته قرن تقدم علمي عظيم. بل إن المعارضة العصبية العنيفة التي قوبلت بها الأفكار الجديدة في علم الحياة التطوري وعلم النفس وعلم الاجتماع «الوضعيين» الجديدين من جانب الأوساط المتمسكة بالتقاليد القديمة، إنما تدل على تزايد قوة النظرة العلمية إلى الإنسان طوال هذه الفترة. ولا يقتصر الأمر على الفلاسفة والعلماء فقط، بل إن روائيين مثل «جورج إليوت
George Eliot »،
5
وصمويل بطلر
Samuel Butler »،
6
Página desconocida