أما عباس فقد ظل يسكب على شوقي نظراته الميتة، ولا يتحرك له جفن، ولكن ما كاد صراخ شوقي يستحيل إلى عواء حتى رأينا كأن بارقة إدراك قد تحركت فوق سطح العيون الميتة، أعقبتها في الحال اهتزازات عاصفة، لم تلبث أن تكشفت عن نظرة ذعر راحت تتعمق وتتعمق، وتصبح رعبا هائلا مقيما، رعبا جعل الحياة تدب أيضا في الجالس المكوم نصف جالس، وتدب على هيئة خوف، فبدأ ينكمش على نفسه وينكمش، ويزحف بزوجته بعيدا إلى آخر الفراش، ويصغر حجمه ويتكور، ولم أكن أتصور أن الإنسان في انكماشه يستطيع أن يصل إلى هذه الدرجة التي تكاد تعتقد معها أنه لو استمر ينكمش بنفس السرعة لتلاشى حالا، واختفت الكرة الإنسان عن الوجود، وربما رعبه هذا وانكماشه هو الذي جعل شوقي يطارده ويتقدم في اتجاهه ويتضخم كلما رآه ينكمش، ويقترب كلما ابتعد، مطاردة لم يوقفها الفراش؛ فقد ارتقاه شوقي واستمر يتعقبه ويصرخ فيه ويعوي ولا يكف، ربما رعبه الهائل ذاك هو الذي حال من ناحية أخرى بين شوقي وبين الانقضاض عليه وإزهاق روحه.
لم يكف شوقي عن تقدمه وعوائه إلا حين فجأة فتحت الكرة البشرية الملتصقة بالحائط، والتي لم يعد لها مجال للتراجع، فتحت فمها وأطلقت ذلك العواء المزعج الذي أخافنا ونحن في الصالة، عواء اختلط بعواء شوقي وعلا حتى أسكته، وحتى أوقفه في مكانه لا يتكلم أو يصرخ أو يصدر عنه صوت، عواء مرعوب أول الأمر يستغيث، ثم باك، ثم عال مجنون مرتفع، ثم ... ثم فوجئنا بما لم نكن نتوقع أبدا بالعواء ينقلب إلى هبهبة كهبهبة الكلب، وبالكرة البشرية تنفرد ويمتد منها فم طويل، وينفتح وينغلق في كل اتجاه، ويهبهب: هاو هاو هاو ... وامتد الفم مرة وكاد يقضم كتف شوقي، وجزع الأخير، وبدا وكأنما قد عاد إليه وعيه، وفي قفزة كان قد غادر مكانه فوق الفراش ليصبح بعيدا عن متناول الفم الطويل المفتوح على آخره، ولم تنقطع الهبهبة، بل حدث ما هو أكثر، أطبق الفم المفتوح على يد الزوجة القريبة منه وبدأ يلوكها بين أسنانه، ويضغط كمن يهم بالتهامها، واحتملت الزوجة قليلا، وهي ترجوه أن يتركها، ولكننا وجدناها فجأة - وكأنما أدركت أن يدها على وشك أن تتمزق - تطلق صرخة أعلى من كل عواء وهبهبة، تعقبها بصرخات سمعنا على أثرها دق الجيران على الباب، بل فوجئنا ببعضهم وقد اقتحم الحجرة ودخل، أكثر من رجل وامرأة وفي أذيالهم أطفال، ورغم وجودهم ووجودنا لم يجرؤ أحد على الاقتراب من عباس وانتزاع يد نور من الفم المطبق عليها، ولم ينقذها إلا عودة الفم للهبهبة وزوال إطباقته، ووقفنا جميعا وقد انضمت الزوجة الدامعة إلينا، وبيننا وبين الفراش مسافة، ترقب ما يحدث، ترقب «عباس»، وقد بدأ يضرب الفراش ويهبهب ويعوي ويغرس أظافره وأنيابه في قماش المرتبة ويمزقه، ويمضغ القطن، ويزداد هياجه، ويبدأ بضرب وجهه بكفه كمن يلطم، ويعمل أظافره في جلده تجريحا وتمزيقا، ونحن ننظر إليه ونعتقد أنه في الدقيقة التالية سيهدأ فلا يهدأ، وكل ثانية تمر تزيده هياجا إلى درجة أرعبتنا وجعلت كلا منا يفكر في مغادرة الحجرة، لولا أن «عباس» أهوى بفمه على لحم ذراعه النحيلة التي كانت تبدو من كم الجلباب الممزق، وظل يضغط وينظر إلينا بعيون ملتهبة تحترق، ويضغط، ولعابه قد غطى الذراع العارية، ومن كثرته بدأ يتساقط ويسيل، وهو لا يكف عن النهش والضغط، وكأنما هو لا يحس أو يتألم، أو كأنما يدفعه إلى مزيد من الهياج وغرس أسنانه في اللحم، وكان لا بد أن يحدث ما حدث، وأن تدير النساء وجوههن، وأن ندير وجوهنا معهن، ما عدا شوقي فقد لمحته لا يستدير، وإنما يظل يتفرس في وقفة مستمتعة مريضة بما يراه، وحين عدنا مرة أخرى نواجه «عباس» تبين أننا لم نكن قد تحاشينا الكثير باستدارتنا، فقد وجدنا وجهه قد ارتفع عن الذراع حقيقة، ولكن الدم كان يتساقط من فمه ويختلط بلعابه! إذ بين أسنان الفم التي كانت قد انفرجت عنها الشفاه كانت هناك قطعة لحم مدماة، القطعة التي كان قد نجح في نهشها من ذراعه، ذراعه التي كانت لا تزال في مكانها فوق ركبته، ومكان العضة فيها قد أصبح جرحا متهتكا بشعا، وكان عباس الزنفلي لا يزال رغم وجود قطعة اللحم بين أسنانه يعوي ويهبهب بصوت مكتوم، وكأنه ينزف من صوته والدم قد بلل عواءه وخنقه.
الغريب أني كنت في تلك اللحظة بالذات قد اكتشفت أن على الحائط المجاور للفراش بروازا فيه شهادة معلقة، حروفها تلمع تحت الزجاج المتسخ، والأغرب أني وجدت نفسي أترك كل ما يدور في الغرفة وأنهمك في قراءة ما في الشهادة، ولم تكن شهادة، كانت براءة نيشان الواجب من الدرجة الثانية، فيها نفس الكلمات التي قرأتها في نفس الملف، والتي كان بصري قد ألغى كل شيء حوله وتوقف عندها، وبالذات عند كلماتها: «تقديرا لتفانيه في خدمة مصالح الوطن العليا»!
كان هذا آخر عهدي أو عهد شوقي بالعسكري الأسود؛ إذ يومها غادرنا المكان حتى دون أن يكتب شوقي قراره؛ إذ ترك المهمة للحكيمباشي، ولم أستطع فيما تلا هذا من أيام أن أخمن ما حدث لشوقي، ووقع اللقاء وما حدث فيه عليه، كنت قد وضعت خططا كثيرة لمعاودة المجهود مع شوقي، وقد أجج أملي تلك الدقائق القليلة التي رأيته فيها على حالته الأولى، خاصة وقد بدا خلال الأيام القليلة التي تلت ذلك شغوفا بإثارة الموضوع بمناسبة وبلا مناسبة، دائب التفكير فيه، يفاجئني مرة بقوله: أتعرف أنك حين تؤذي غيرك تؤذي نفسك دون أن تدري؟ ومرة يسرح ويضحك فجأة ويقول: دع الضارب يضرب فيده التي تضرب تمتد أيضا إلى ذات نفسه، ولم يقتصر الأمر على التفكير، دخلت عليه يوما فوجدته منهمكا في الكتابة، وما أن رآني حتى جمع الأوراق محاولا أن يخفيها، ولكني من بين أصابعه استطعت أن أقرأ عناوين فقرات: فلسفة العلقة، الإيلام سلاح ذو حدين؛ وعناوين أخرى كثيرة، وسألته فقال إنه بحث قد يطلعني عليه يوما ما.
وفيما عدا هذا كفتني بضع جلسات مع شوقي أن أومن أن الحالة التي رأيته عليها وملأتني بالأمل كانت كصحوة ما قبل الموت، وأن ما حدث له من تغيير، والكائن الجديد الغريب الذي أصبحه طريق لا يمكن الرجوع منه، لا يمكن أن يعود الجلد الطبيعي مكان الندبات التي يحفل بها ظهره، أجل! أدركت ما فاتني إدراكه طوال سنين، أدركت أن شوقي وقد فقد أمنه البشري مرة لن يعود أبدا مثلنا بشرا مرة أخرى.
ولا أعرف لماذا كلما راجعت ما حدث لا أستطيع أن أنسى رغم كل ما رأيته وشاهدته، كلمة خيل إلي أنها عادية جدا وطبيعية ساعة أن سمعتها تقال، ولكني لا أعرف لماذا ظلت تلح علي ولا تتركني، الكلمة قالتها امرأة من اللاتي حضرن على صراخ نور، امرأة لعلها «أم علي الحسادة»، وقالت ونحن نتأهب لمغادرة الحجرة، وقد أصبح البقاء فيها أمرا لا يتحمله العقل، وقطعة لحم عباس بين أسنانه، ودماؤه تكاد تصبغ كل ما تقع عليه العين، سمعت المرأة تمصمص بشفتيها وتهمس للواقفة بجوارها: لحم الناس يا بنتي، اللي يدوقه ما يسلاه، يفضل يعض إن شا الله ما يلقاش إلا لحمه، الطف يا رب بعبيدك!
سمعتها ورنت في أذني رنين الكلام الفارغ الذي نسمعه من خالاتنا العجائز لنسخر منه، ولكن لا أعرف لماذا لا تزال تلح علي.
Página desconocida