قال: «في سامرا.» •••
ودع ضرغام صاحبه وهو يفكر فيما سمعه، وصورة جهان لا تذهب من مخيلته؛ لأنه في المكان الذي قيل له أنها أخذت فيه والليل مظلم مثل ظلام الليلة التي خطفت فيها. فتصور حالها وهم يقبضون عليها وتوهم أنه يسمعها تستغيث به وتناديه باسمه فاقشعر بدنه وحرق أسنانه. وقضى في تلك الهواجس مدة وهو يتلمس ذلك الطريق الوعر على هدي الدليل يسير بين يديه حتى أدرك محطة البريد فركب وعاد إلى سامرا. وطريق البيت في الرجوع إليه أقصر منها في الخروج منه ولكن ضرغاما استطال الطريق واستبطأ وصوله لشدة رغبته في ملاقاة وردان لكي يستشيره في الأمر وقد تعود ذكاءه وصدق فراسته.
وأشرف ضرغام أو الصاحب على سامرا نحو الغروب والشمس تقابله وقد ضعف نورها وتبددت أشعتها واحمر لونها وتكور شكلها وتعاظم حرها فظهرت كأنها كرة من نار سابحة في ضباب من دم. ونظر إلى أبينة سامرا وأعظمها قصر الخليفة والمسجد الأعظم ومنارته تناطح السحاب. ويخترق المدينة من الشمال إلى الجنوب نهر دجلة وعلى ضفافه أشجار النخيل واقفة وقوف الجند يحملون سهامهم في عمائمهم. فشغله منظر الطبيعة عما في نفسه فأحس بارتياح فوقف هنيهة والبريدي على بغلته إلى جانبه لم يدهشه ذلك المنظر؛ لأنه تعوده، والنفس يختلف تأثرها بمناظر الطبيعة باختلاف حالها. والمحبون أكثر الناس مشاركة للطبيعة في أحوالها.
وأحس ضرغام بميل إلى الانفراد هناك، فأشار إلى البريدي أن يسبقه إلى سامرا فأطاع، وبقي ضرغام وحده يراقب الشمس ساعة الغروب وهي تتراءى لعينيه من وراء جذوع النخل عن بعد، بألوانها القزحية وإن غلب عليها لون الأرجوان، حتى إذا أدركت حافتها الأفق استطالت تلك الحافة إلى شبه خرطوم نزل وراء الأفق وهبطت في أثره الهويناء وقد أخذت الظلال تستطيل وتنتشر حتى توارت الشمس وخلفت مكانها أفقا أخذ احمراره في الاكفهرار شيئا فشيئا؛ من الدموي إلى الأرجواني فالبنفسجي فالأزرق على اختلاف ألوانه، حتى استحالت الظلال إلى ظلام. فأحس ضرغام بانقباض نبهه إلى المسير فوخز الفرس وخزا خفيفا فمشى مشيا بطيئا حتى تخلل مغارس المدينة من طرفها الأسفل، وتراءى له دجلة في مكان لا يغشاه النخيل فيممه على أن يسير على ضفته إلى الجوسق.
وكان الجو هادئا، فلما دنا من دجلة عاد إلى تخيله فلج في نيار فكره والجواد يسير على ضفة النهر من تلقاء نفسه، وقد هب النسيم عليلا، وسكنت الطبيعة، فلم يعد يسمع إلا حفيف الورق ووقع حوافر الفرس. ولم يكن ضرغام يسمع شيئا لذهوله، وإذا بجلبة فاجأته من ورائه وسمع صوتا وقع وقوع السهم في قلبه وأجفله؛ لأنه صوت امرأة تستغيث قائلة: «خافوا من الله ... اتركوني ... يا ناس ... اتركوني ...» ثم اختنق الصوت. فارتعدت فرائص ضرغام؛ لأن الصوت كثير الشبه بصوت جهان، وتذكر ما أصابها من اللصوص، وتصور أنها استغاثت بمثل الكلام ولم ينجدها أحد فصمم على نجدة هذه المستغيثة لعل الله يوفق جهان إلى منجد ينقذها. وسرعان ما ترجل عن جواده وركض إلى جهة الصوت شاهرا في يده حسامه وهو يقول: «لبيك لبيك. اتركوها أيها اللئام.»
قال ذلك وهو لا يرى أحدا لشدة الظلام، فخاف أن تكون قد خدعته أوهامه وأن ما سمعه هاتف يمثل له جهان. لكنه ما عتم أن سمع الصوت يقترب منه ورأى شبح امرأة تعدو من ضفة النهر باسطة يديها إليه وتصيح: «بالله أغثني أشفق على حياتي.» ورأى رجلين يجريان في أثرها وقد شهر أحدهما السيف ويقول: «إلى أين تهربين يا خائنة؟! سأقتلك لا محالة.»
فصاح ضرغام: «دعها يا رجل وإلا ضربت عنقك.»
فلم يبال الرجل وظل مسرعا حتى كاد يدرك المرأة، وكانت قد وصلت إلى ضرغام وترامت على قدميه. فلما رآه ضرغام هاجما والسيف بيده تناوله بضربة أطارت رأسه فوقع مجندلا بدمه، وهجم على رفيقه وهم بأن يضربه فرآه أعزل، فأمسك وصاح فيه: «من أنتم؟» فقال: «ما لك ولنا؟ ليس هذا من شأنك. دع الجارية وامض في سبيلك وسترى عاقبة أمرك.»
قال: «قف حيث أنت وإلا قتلتك . أو قل لي من أنت وما خبر هذه الفتاة؟»
قال: «إنها جارية هربت من بيت مولاها فبعثنا للبحث عنها فأدركناها هنا وأبت الرجوع فهددها رفيقي تخويفا لها. ولولاك لرجعت صاغرة ولكنها سببت قتل رفيقي. وسوف تعلم مصيرك.»
Página desconocida