قال: «أتى بي إلى هنا ظلم صاحبك. تفضل.» قال ذلك وصفر صفيرا أبطل نباح الكلاب، وفرق الرجال الذين كانوا مجتمعين، ومشى وهو قابض على يد ضرغام يرشده إلى الطريق، وضرغام يعجب لما يراه؛ لأنه يعرف حمادا من وجوه رجال الدولة في سامرا، وقد رآه فيها منذ أسابيع وكان صديقا حميما له، فتبعه مطمئنا حتى وصلا إلى بناء قديم حجارته ضخمة وجدرانه مهدمة. ولو تفرس القادم فيما بقي من أنقاضه على ضوء القبس لرأى عليها نقوشا وصورا من آثار قدامى الفرس. ولكن ضرغاما لم ينتبه إلى شيء من ذلك. وإذا بصاحبه قد أوصله إلى غرفة ليس فيها شيء من الأثاث أو الرياش، ولكنه شاهد في أرضها أكياسا من الحبوب وصناديق فيها الآنية والمتاع كأنها أخذت من أصحابها التجار في تلك الساعة. فأشار حماد إلى ضرغام فجلس على صندوق وجلس هو على صندوق آخر وقال: «أظنك تعجب لما تراه؟»
فقال: «كيف لا أعجب وقد بلغني عن هذا المكان أنه مأوى اللصوص وأراك فيه كواحد من أهله.»
قال: «بل أنا زعيم أصحابه. ولم أكن لأكاشفك بذلك وأدخلك هذا المكان لولا ثقتي بك ولتعلم مغبة ظلم صاحبك.»
قال: «أتعني أمير المؤمنين؟»
قال: «بل أعني أمير الأتراك والفراغنة، وإذا أحرجتني قلت إنه أمير الكافرين مثل أخيه المأمون.»
فشغل ضرغام بهذا الأمر الغريب عن الغرض الذي جاء من أجله فقال: «إني لا أرى مسوغا لهذه النقمة، ولولا ما تعلمه من حبي لك ما صبرت على ما أسمعه منك، ولكنني أذكر صداقتك وأحب أن تصرح لي بما يكنه ضميرك عساي أن أذهب ما في نفسك من الغل على الخليفة، ونحن في حاجة إلى رأيك وسيفك وأعداؤنا كثيرون فلا ينبغي أن نتفرق.»
فاعتدل حماد في مجلسه وبان الاهتمام في وجهه وقال: «لا ألومك على دفاعك عن المعتصم؛ لأنه صديق الأتراك والفراغنة، وقد عادى أهله وعشيرته من أجلهم. وأنت الآن صاحبه ومن أقرب المقربين إليه. لا أقول إنك لا تستحق ذلك بل أنت أهل لأكثر منه، ولكنك لو كنت في مكاننا نحن العرب لما قبلت ما يأتيه هذا الرجل من المظالم؛ لم يكفه أنه صادرنا في ديننا وجلد الإمام أحمد بن حنبل الرجل التقى البار حتى غاب عن رشده وسال دمه وتقطع جلده، ثم قيده وحبسه واضطهد كل من لم يقل بخلق القرآن، لم يكفه ذلك حتى قطع العطاء عن العرب كافة، ومنع المسلمين من رواتبهم ولم يفعل ذلك أحد قبله. ولا أذكرك بما كان للعرب من العز والسؤدد في عهد الراشدين والأمويين يوم كان الفرس والترك وسائر الأعاجم يعدون من العبيد والموالي، ولا يستنكفون أن يكون العرب سادتهم، بل كانوا يتشرفون بالانتماء إليهم. وإنما أذكرك بما كان لهم من الزعامة في صدر الدولة العباسية مع أنها قامت بسيوف الفرس. حتى المأمون الذي حارب العرب وحاربوه لم ينقص شيئا من أعطياتهم كما فعل المعتصم هذا، مع أن المأمون كان معتزليا مثله يقول بخلق القرآن ويضطهد الأئمة القائلين بقدمه، ولكنه كان يعلم أن العرب مادة الإسلام وأصل هذه الدولة وروح هذه الأمة. أما صاحبك فقد قطع العطاء عن كل عربي، ولم يفعل ذلك عن فقر أو جدب فإنه ينفق الأموال الطائلة في اصطناع الأتراك والأشروسنية والفراغنة، وقد بنى لهم سامرا وأحضر لهم النساء والجواري وأسال النضار في خزائنهم. ولو كنت أنت أعرابيا ما صبرت على ذلك.»
فلم ير ضرغام حجة يدفع بها قول حماد؛ لعلمه أنه يقول الحق، ولكن غيرته على المعتصم وإخلاصه في خدمته حملاه على انتحال الأعذار فقال: «لا أنكر عليك ما ذكرته من مواضع النقد على أمير المؤمنين. ولكنك حملت ذلك منه على سوء القصد؛ فهو قطع العطاء عن بعض العرب بعد أن تحقق عداوتهم للدولة، ومنهم من حاربه وجرد الجيش عليه. أما الذين يخلصون في خدمته فيبالغ في تقريبهم والإنعام عليهم. هذا القاضي أحمد بن أبي دؤاد لا أزيدك علما بمنزلته عند الخليفة وهو عربي. وأنت؟ ألم تكن مقربا ولك منصب رفيع؟»
فهز حماد رأسه وقال: «أراك تحسن الدفاع عن صديقك الخليفة. وقد أتيت بالقاضي أحمد شاهدا وهو عربي من بين ألوف قد لحقهم الذل والعار والفقر. أما أنا فقد كان لي منصب وبئس المنصب لو بقي! جعلني سادن الكعبة التي أنشأها في سامرا ليحول المسلمين عن كعبة مكة ويذهب بما بقي للعرب من مصادر الرزق حتى يميت عرب الحجاز؛ لأنهم يرتزقون من الحجاج، فأنشأ الكعبة في سامرا ليغني المسلمين عن الحجاز ...»
فقطع ضرغام كلامه قائلا: «ولكنه ليس أول من فعل ذلك من الخلفاء أو الأمراء؛ فقد حاول ذلك الحجاج والمنصور ولم يفلحا.»
Página desconocida