الفصل التاسع
قضت إلينورا ووالدها بقية الأيام في إسطنبول على غرار اليوم الأول، فكل صباح بعد تناول إفطار مكون من الخبز والعسل والزيتون وقطع الجبن الأبيض، كانا يستقلان عربة منصف بك، ويركبان عربة القطار المعلق صاعدين التل إلى شارع لو جراند رو دو بيرا؛ حيث يصر البك على شراء المزيد من الهدايا لإلينورا وكذلك ليعقوب. وكانا في بداية الأمر يشعران بعدم الارتياح تجاه ذلك الموقف؛ بالنسبة إلى إلينورا فإنها لم تتلق هدايا قط من أي شخص، وبالنسبة إلى والدها فلم يكن يرغب كما ردد مرارا في أن يثقل على مضيفهما. حاول يعقوب أكثر من مرة أن يجازي البك صنيع معروفه، ولكن البك كان يقابل تلك المحاولات بالرفض التام. أصر منصف بك على أن التسوق ليس إزعاجا على الإطلاق، بل إنه في حقيقة الأمر متعة. فهو لم يكن لديه أطفال أو أبناء أشقاء أو أي شخص يمكنه شراء هدايا له؛ ولذلك كان يستمتع بتلك الفرصة لإنفاق نقوده على آنسة حسناء كإلينورا. فما فائدة النقود على أي حال؟ وعندما ينتهون من التسوق كانوا يجمعون أغراضهم ويتوقفون لتناول الغداء في أحد المطاعم الراقية في الطريق، ثم يتوجهون أسفل التل إلى سوق الأقمشة حيث يرتب منصف بك مجموعة من المواعيد ليعقوب، وفي المساء يعودون إلى منزل البك ويأخذون قسطا من الراحة؛ حيث يهتم كل منهم بشئونه على حدة.
عادة ما كانت إلينورا تقضي ذلك الوقت في غرفتها بالطابق الأعلى تقرأ نسخة البك من «الساعة الرملية» وهي مسترخية على المقعد المجاور للنافذة البارزة. كانت قد عثرت على الكتاب مصادفة وهي تتصفح المكتبة في ليلتها الثانية في إسطنبول. كانت واقفة على سلم في منتصف المسافة إلى أرفف الكتب تتصفح مجموعة البك الضخمة من دفاتر الخرائط عندما خطف بصرها الغلاف المألوف ذو اللونين الأزرق والفضي لكتاب «الساعة الرملية». قضت بقية الليلة وكل ليلة منذ ذلك الحين غارقة في المجلدات الأخيرة المعروفة باسم مجلدات تريستي من الرواية الملحمية. تجلس إلينورا وقد ضمت أطرافها في مقعدها والساعة الرملية متوازنة على حافة ركبتها، لا يمكن أن تكون أسعد من ذلك. كم يسعدها أن تقرأ بحرية وتستغرق في كتاب دون أن تخشى أن تحدق إليها روكساندرا من الخلف. ورغم انهماكها في الكتاب، كانت تنظر بين حين وآخر إلى النافذة متتبعة رفرفة سربها من الإفريز حتى الغصن، أو مداخن السفن البخارية وهي تحلق بمحاذاة تلال البرتقال الداكنة.
انتهت من قراءة المجلد الأخير من «الساعة الرملية» قبل موعد رحيلها هي ووالدها من إسطنبول ببضعة أيام. ورغم أنها تساورها رغبة قوية في العودة إلى المجلد الأول وقراءة الكتاب بأكمله مرة أخرى وهي تضع المصائر النهائية للشخصيات في ذهنها، فقد رأت من الأفضل أن تستريح الليلة. كان العشاء في تلك الليلة مكونا من الباذنجان ويخنة لحم الضأن بالصلصة البيضاء. وعقب تناول العشاء قادهما البك أسفل البهو إلى المكتبة حيث تراصوا حول المدفأة في ثلاثة مقاعد جلدية ذات لون بني فاتح. كانت المكتبة تشغل حيزا داكنا مكسوا بألواح خشبية مزينا بكرات أرضية عتيقة وأدوات ملاحية، وكانت مغطاة من الأرضية إلى السقف بالكتب؛ دراسات في فقه اللغة، وكتب جغرافية، وموسوعات، ومعاجم خاصة بسير الأشخاص، وقصائد، وروايات، وبعض الأوراق الدينية مغلفة كلها بالجلد المغربي الأحمر والأزرق والأخضر والبني. قدم لهم السيد كروم حلوى البقلاوة بالفستق وأكوابا من الشاي على شكل أزهار التوليب، بينما جلس البك يستعد كي يلعب الطاولة مع يعقوب. كان لوح الطاولة الخاص بالبك مزينا بتصميم رباعي الأضلاع على هيئة شجرة أرز صغيرة، وكان تحفة دالة على البراعة والفخامة. جلست إلينورا تراقب يديه الكبيرتين وهما تنزلقان على سطح اللوح، تدفعان القطع الزجاجية المصنوعة من العقيق في أماكنها، وحاولت أن تفهم اللعبة، ولماذا ترتب القطع هكذا، وكيف تتحرك على سطح اللوح.
سألها البك عندما التقت عيونهما: «هل لعبت من قبل؟»
شعرت إلينورا بوجنتيها تتوردان خجلا. «كلا.» «يمكنني أن أعلمك إذا رغبت في ذلك. لن يستغرق الأمر وقتا طويلا.» «أشكرك، ولكنني أفضل أن أشاهد اللعبة فحسب الآن، وذلك إذا لم يكن في الأمر إزعاج.»
نظرت إلى البك ثم إلى والدها الذي كان مشغولا في ضبط السيجار. «لا إزعاج على الإطلاق يا إيلي، وإذا كان لديك أي أسئلة يمكنك أن تطرحيها.»
رغم أن منصف بك ويعقوب كانا أرستقراطيين، فقد لعبا الطاولة بقوة مطلقة؛ حيث أخذا يقرعان اللوح بالقطع ويقذفان زهري النرد العاجي بقوة في الزوايا. ومن وقت لآخر كانا يتوقفان لأخذ رشفة من الشاي أو أخذ نفس من دخان السيجار ونفثه، ولكن ما يحكم إيقاعهما كان اللعبة، وقرع العاج على الخشب، وخلط العقيق والزجاج. كانا يلعبان دون أن يتوقفا للتفكير في تحركاتهما، بنفس الثقة اللامبالية لحداد سحق نفس القالب آلاف المرات. ولم يتحدث أحدهما حتى الدور الأخير من اللعبة.
قال منصف بك وهو يهز زهري النرد بين راحتيه: «نسيت أن أذكر أنني مدعو غدا إلى رحلة بحرية بمناسبة عيد الميلاد الخامس والسبعين لنائب القنصل الأمريكي.»
وضع والد إلينورا الرماد في المنفضة الفضية المجاورة له.
Página desconocida