Carl Popper: Cien años de iluminación
كارل بوبر: مائة عام من التنوير
Géneros
كان هراء شعبي كبير يروج حول هذه النظريات، وبخاصة حول النسبية (كما يحدث حتى في هذه الأيام)، غير أن الحظ قيض لي من يذلل قطوف هذه النظرية وييسر لي دراستها، لقد كنا جميعا - أنا والحلقة الصغيرة من الطلبة التي كنت أنتمي إليها - منتشين بنتيجة ملاحظات إدنجتون عن الكسوف، والتي جلبت أول تأييد هام لنظرية أينشتين في الجاذبية، لقد كانت تلك خبرة عظيمة لنا وتجربة كان لها أثر دائم على تطوري الفكري.
كانت النظريات الثلاث الأخرى التي ذكرتها هي أيضا مثار نقاش عريض بين الطلبة في ذلك الوقت، وقد أتاحت لي الظروف أن أعرف ألفرد أدلر معرفة شخصية، بل أن أتعاون معه في عمله الاجتماعي بين الأطفال والشباب في أحياء الطبقة العاملة في فينا حيث أسس أدلر عيادات إرشاد اجتماعي.
في صيف عام 1919م بدأ يداخلني شعور بعدم الارتياح لهذه النظريات الثلاث: النظرية الماركسية في التاريخ، والتحليل النفسي، وعلم النفس الفردي، وبدأ يخامرني شك حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية، ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلا بسيطا: «ما خطب هذه النظريات؟ لماذا تبدو مختلفة جدا عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن، وبشكل خاص عن نظرية النسبية؟»
ولكي تتضح هذه المقارنة لا بد أن أفضي بأن أغلبنا في ذلك الوقت لم يكن بوسعه أن يقول بأنه يعتقد في «صدق» نظرية أينشتين في الجاذبية، من هذا يتبين أن ما كان يؤرقني ليس هو الشك في «صدق» تلك النظريات الثلاث الأخرى، بل هو شيء آخر، ولا كان ما يؤرقني هو مجرد الشعور بأن الفيزياء الرياضية أكثر دقة من الصنف الاجتماعي أو النفسي من النظريات، لم يكن همي إذن هو مشكلة الصدق (في هذه المرحلة على الأقل)، ولا مشكلة الدقة والقابلية للقياس، بل هو بالأحرى شعوري بأن هذه النظريات الثلاث وإن اتشحت بوشاح العلم تشبه الأساطير البدائية أكثر مما تشبه العلم، وتشبه التنجيم أكثر مما تشبه علم الفلك.
وقد اكتشفت أن أولئك المعجبين بماركس وفرويد وأدلر من أصدقائي كانوا مأخوذين بعدد من الخصال المشتركة بين هذه النظريات، ولا سيما ما تتمتع به من قوة تفسيرية ظاهرة، لقد بدت هذه النظريات قادرة فعلا على تفسير كل شيء يحدث ضمن نطاقها الخاص، وبدا أن دراسة أي واحدة منها تقع منك موقع التحول الفكري الحاسم، أو موقع الوحي، فاتحة عينيك على حقيقة جديدة محجوبة عن أولئك الذين لم يهتدوا بعد، وما إن تتفتح عيناك هكذا حتى يتسنى لك أن ترى شواهد مؤيدة لها أينما نظرت، كان العالم يعج بتحقيقات
Verifications
للنظرية، وما من شيء يحدث إلا وهو تأييد لها، بذلك بدا صدقها أمرا ظاهرا، وبدا أي منكر لها مكابرا مبينا لا يريد أن يرى الحقيقة الواضحة، إما لأنها مضادة لمصالحه الطبقية، وإما بسبب ما يضمره من ألوان الكبت التي لم تحلل بعد، والتي تصرخ طلبا للعلاج.
كان العنصر المميز لهذا الأمر فيما أرى هو ذلك الفيض الذي لا ينقطع من «التأييدات» أو الملاحظات التي «تحقق» النظريات المعنية، وهو الشيء الذي كان معتنقوها يؤكدونه على الدوام، لم يكن بوسع الماركسي أن يفتح جريدة دون أن يعثر في كل صفحة على دليل مؤيد لتفسيره للتاريخ، ليس في الخبر فحسب بل في طريقة عرضه التي تكشف عن التحيز الطبقي للصحيفة، وبخاصة بالطبع فيما لم تقله الصحيفة، أما المحللون الفرويديون فكانوا يؤكدون أن نظرياتهم تجد لها تحقيقا دائما في «ملاحظاتهم الإكلينيكية»، أما عن أدلر، فقد كان لي معه موقف شخصي لا أنساه، فقد حدث ذات يوم في عام 1919م أن أدليت له عن حالة لم تبد لي أدلرية الطابع، غير أنه لم يجد أدنى صعوبة في تحليلها في ضوء نظريته عن مشاعر الدونية، رغم أنه حتى لم ير الطفل، فسألته وقد نالني دهش: «فيم كل هذه الثقة وأنت لم تر الطفل؟» فأجاب: «لأن لي بذلك ألف تجربة.» هنالك لم أتمالك نفسي قائلا: «وبهذه الحالة الجديدة أرى أن تجاربك صارت ألفا وواحدة.»
كنت أقول في نفسي: لعل ملاحظاته السابقة لم تكن أقوم من هذه الملاحظة الجديدة، لعله كان يفسر كل ملاحظة بدورها في ضوء الخبرة السابقة وفي نفس الوقت يعدها إثباتا جديدا، كنت أسأل نفسي: «ماذا أثبتت؟ أثبتت أن حالة قد أمكن تفسيرها في ضوء النظرية لا أكثر.» غير أن هذا لا يعني شيئا ما دامت كل حالة يتصورها المرء يمكن أن تفسر في ضوء نظرية أدلر، وكذلك الحال بالنسبة لنظرية فرويد، ولتوضيح ذلك أود أن ننظر في هذين المثالين المختلفين تماما من السلوك البشري: سلوك رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، وسلوك رجل يضحي بحياته في محاولة لإنقاذ الطفل، بمقدور كل من النظرية الفرويدية ونظرية أدلر أن تفسر سلوك كل من الرجلين بنفس السهولة، فحسب نظرية فرويد يعاني الرجل الأول من «الكبت»
Repression (من أحد مكونات عقدة أوديب مثلا)، بينما أمكن للثاني أن يحقق ضربا من «التسامي» أو «التصعيد»
Página desconocida