أقول: إننا - إذن - مع ثقافة العربي في رؤية جمعت على نحو فريد، شيئا من خصائص الوجدان الذاتي في انطباعاته وميوله؛ إذ العربي كما عرضناه، يجد طمأنينة نفسه وهو في مجال التفكير العقلي، إذا رأى نفسه أمام نص يتمتع بصدق مقبول، لما يستند إليه من أسناد موثقة، فيتناول هو هذا النص بتحليلات تخرج عناصره المكنونة في بنيته اللغوية، إلى علانية النتائج ليراها كل ذي بصر. وإننا لواجدون في هذه الوقفة الاستنباطية، التي تبدأ بما يضمن ثبات الصدق من أقوال مأثورة لتنتهي إلى ما يثبت صدقه بالتبعية الاستدلالية. أقول: إننا لواجدون في هذه الوقفة ما يشبع خصوصية الذات عند اختيار المقدمات المسلم بصدقها، وما يشيع - في الوقت نفسه - موضوعية العقل في النتائج التي تم توليدها من مقدماتها بمنطق علمي سليم. وفي هذا الالتقاء في الموقف الفكري الواحد، لما هو ذاتي وما هو موضوعي في آن معا، أميز ما يميز الثقافة العربية، فلا النزعة الذاتية استوعبتها، ولا استطاعت الموضوعية أن تنفرد بالسيادة، وهو التقاء يتحقق على نحو ما في الفن العربي وفي الأدب العربي؛ ففي الفن يرسم الفنان ما يرسمه في أطر رياضية، هندسية التكوين، وفي الأدب يحرص الشاعر أو الناثر إذا أراد نثرا أدبيا تصب العبارات في قوالب هندسية كذلك، ثم تضاف موسيقية النغم، وفي هذا وذاك، محاولة - غير مقصودة ربما - لأن يكون للذاتية نصيبها في نفس الوضع الذي يكون للموضوعية فيه مكانها، فإذا كان تاريخ الثقافات القديمة قد أوشك أن يفصل الموضوعية العلمية ليجعلها نصيب اليوناني القديم، عن الذاتية الصوفية والفنية ليجعلها نصيب الشرق الأقصى، فقد جاءت الثقافة العربية لتستعصي على هذا التقسيم، لكونها موضوعية ذاتية معا في كل موقف (وهذا تعميم يقبل استثناءات). ولم يكن غريبا - إذن - أن يقبل العربي فلسفة اليونان وعلمها إلى آخر مدى، وأن يقبل تصوف الهندي والفارسي إلى آخر أعماقه (وكانت فارس من الناحية الثقافية أقرب إلى الشرق الأقصى). على أن العربي لم يعزل موضوعية العلم في فرد، وذاتية المتصوف أو الفنان في فرد آخر، بل كانت عبقريته في جمعهما معا في الموقف الواحد، كما أسلفنا.
وعلى هذا الأساس نخطئ إذا حسبنا العربي في ثقافته «شرقا» كما نخطئ كذلك إذا حسبناه «غربا»؛ لأنه شرق غرب معا، على نحو ربما انفرد به دون غيره. وهنا يجيء سؤال يطرح نفسه، قائلا: وماذا ينقص العربي - إذن - مما يحول بينه وبين أن يشارك في حضارة عصرنا، التي هي حضارة أساسها العلم الطبيعي بصفة خاصة، وإذا كان العربي مفطورا على موضوعية العلم، فهو مؤهل لعصره، ثم يزيد على عصره بالجانب الذاتي في رؤيته، فأين تكمن الحوائل التي حجبته عن عصره، أو حجبت عصره عنه؟
وهو سؤال تجيء الإجابة عليه فيما نعرضه عن خصائص هذا العصر في حديثنا التالي.
2 (3)
ذكرنا فيما سبق نقطتين من نقاط تسع، نرسم بها صورة مصغرة لأحاديث «عربي بين ثقافتين»، كانت أولاهما توضيحا لوجه الاختلاف بين العربي في نظرته إلى شئون حياته، من جهة، وإنسان الغرب في عصره القائم، وذلك فيما يختص ب «المبادئ». وعرضنا وجهة نظرنا في طريقة دمج وجهتي النظر في كيان ثالث، يصون للعربي هويته، ويتيح له في الوقت نفسه قدرة على مواجهة عصره بما يتفق مع ظروف الحياة التي استحدثت فيه. وكانت النقطة الثانية فيما أسلفنا ذكره، خاصة بتحليل الشخصية العربية الأصيلة، تحليلا يبين بعض ملامحها الأساسية التي لا بد لنا من الحفاظ عليها حفاظا لا يترك فرصة أمام قوة العصر لتمحو شيئا منها. ولقد رسمنا هذه الصورة لشخصية العربي، لنرى كيف تستطيع الحياة في عصر الناس هذا، وأن تشارك في بنائه، دون التفريط في شيء من معالمها، فكان من الضرورة أن نتبع تلك الصورة بصورة أخرى نصور بها هذا العصر ببيان ملامحه الكبرى، وهذا هو سبيلنا الآن في هذه النقطة الثالثة.
وإن الصورة المطلوبة لتشتد وضوحا وإيضاحا، إذا قلنا عن تاريخ الغرب الحديث كله، وهو تاريخ يمتد نحو خمسة قرون (من أول القرن السادس عشر إلى آخر القرن العشرين)، إنه قد تميز مما سبقه إبان ما يسمى في التاريخ الأوروبي بالقرون الوسطى بإضافة العلوم الطبيعية ومناهجها إلى دنيا العلم، كما عرفها أهل تلك العصور الوسطى، وما سبقها من عصور قديمة؛ إذ كانت الوقفة العلمية خلال ذلك الدهر الطويل - الذي لبث نحو خمسين قرنا - تقتصر نظرتها العلمية على توليد النتائج من معرفة سابقة تؤخذ مأخذ التسليم. وكان العلم الرياضي في ذروة ذلك النوع التوليدي من ضروب العلم؛ إذ تبنى الرياضة - كما هو معلوم - على مسلمات تؤخذ بغير برهان، لكي تنحصر العملية العلمية بعد ذلك في استخراج ما يترتب على تلك المسلمات. وأما ما هو خاص بالكون وظواهره وقوانينه فقلما حاول العلم اقتحامه، اللهم إلا أفرادا من العلماء، مهما كثروا فهم قلة قليلة لا تساوي في عددها جماعة العلماء في مدينة واحدة، خلال جيل واحد، في عصرنا الراهن، فكان اعتماد الإنسان في معالجته لأمور الواقع وضروراته، قائما على «خبرة» الخبراء بالممارسة العملية في ميدان معين. إذن فليس إسرافا في القيم أن نقول عن «العلوم الطبيعية» ومناهج البحث في ميادينها، من حيث هي ظاهرة تسود العصر لتطبعه بطابعها، ولا تقتصر على أفراد تناثروا في أقطار الدنيا عبر القرون. إنها ظاهرة ولدت في أوروبا عند منحنى الزمن الذي دخل به تاريخ الإنسان الأوروبي عصره الحديث.
لكن القرون الخمسة التي امتدت من النهضة الأوروبية إلى يومنا هذا، لم تكن كلها على صورة واحدة في تصورها لل «طبيعة» وظواهرها، وهو تصور له أثره الفعال على الإنسان وهو يحاول قراءة تلك الظواهر لاستخراج قوانينها. والذي يهمنا الآن في اختلاف التصور على النحو المذكور، هو ما قد حدث في هذا الصدد ليجعل من القرن العشرين عصرا علميا فريدا قائما وحده بخصائصه المميزة، دون القرون السالفة عليه في التاريخ الحديث. وكان أساس التغير في عمق أعماقه يرجع إلى تحول في تصور النابغين من رجال الفكر خلال القرن الماضي، لحقيقة الكون وكائناته؛ فبعد أن أقيم العلم فيما انقضى من قرون التاريخ الحديث، على فكرة القصور الذاتي لجميع الكائنات - ربما يستثنى منها الإنسان وحده - بمعنى أن الكائن الطبيعي أيا كان نوعه، قاصر بذاته على أن يغير من حالته من حيث الحركة والسكون، فهو إذا كان متحركا - في اتجاه معين - لبث على حركته تلك إلى أبد الآبدين، إلا إذا صادف عاملا خارجيا يصدمه فيغير مساره. وكذلك إذا كان هنالك كائن في حالة سكون، فهو يظل على سكونه إلى أن يدفعه عامل خارجي إلى الحركة، فتغير هذا التصور من أساسه، وأصبح المبدأ هو دينامية الكون في مجموعه، وفي كل كائن من كائناته؛ فالحركة التي لا تعرف السكون هي أساس الوجود، بدءا من الذرة وما تقوم عليه من كهارب. وحسبك في هذا الصدد أن تتذكر بأن كل شيء في الوجود قوامه ذرات، إذن فقوامه حركة داخلية هي صميم وجوده.
ومن هذا التصور الجديد نشأت وجهات نظر تتناول كل شيء في حياة الإنسان، لتجعل التغير والتطور والتقدم أساسه، فإذا اختلف رجال الفكر فيما حوله، فإنما يختلفون في أسلوب التطور والتقدم كيف يقع وليس هو اختلافا بين تطور ولاتطور. وكانت نظرته «النسبية» ذاتها وليدة التصور الجديد، وكان من أهم ما تتفرع عن النظرة الجديدة أن استبدل الإنسان برؤيته السابقة التي كانت تجعل من الماضي عصرا ذهبيا، رؤية جديدة مستقبلية؛ فالعصر الذهبي هو ما سوف يتكون بجهود الإنسان، وليس هو فيما قد كان. وكان يمكن أن يأخذ إنسان عصرنا بفكرة التغيير والتطور الدائبين في عالم الكائنات، دون أن يأخذ بفكرة «القدم»؛ لأن الشيء قد يتغير من حال إلى حال، وينتقل من طور إلى طور دون أن يكون في ذلك تقدم مما هو أقل كمالا إلى ما هو أكثر كمالا، لكنه المناخ الفكري العام السائد في عصرنا، تغلب عليه فكرة «التقدم» ملحقة بما هو حادث من تغيرات وتطورات. وها هنا يكون التاريخ وحده شاهدا؛ فمهما يكن من نكسات انتكس بها سير التاريخ، إلا أن خط السير في مجمله سائر بالإنسان إلى ما هو أكثر علما، وأسلم صحة، وأكثر حرية، وأكثر مساواة وهكذا، مما يقطع بحدوث التقدم ملازما في الحياة الإنسانية على الأقل، لحدوث التغير والتطور في عالم الأشياء والظواهر الأخرى.
إن للعصر الواحد - عادة - صوتا واحدا، برغم ما قد يبدو على السطح المرئي المسموع من منازعات وحروب. وربما كان أصح ما يوصف به عصرنا في صوته الواحد - فيما يرى هذا الكاتب على الأقل - هو حرية الإنسان، تلك الحرية التي كلما اتسعت رقعتها ارتفعت درجتها، قال الإنسان هل من مزيد، فالإنسان في عصرنا هو المحور، وحريته هي الصميم، لكن إذا كان هذا هكذا؛ فما شأن - العلوم الطبيعية وكونها طابع العصر الحديث كله، بما في ذلك صورتها الجديدة التي ظهرت في القرن العشرين، وما تميزت به من تقنيات (تكنولوجيا) ما شأنها في حرية الإنسان؟ وهنا نلفت نظر القارئ إلى ما نراه جوهريا في تشكيل الفكر العربي الجديد، وهو أن الكثرة الغالبة منا تكاد تقتصر في فهمها للحرية على الجانب السياسي وحده الذي يفك عنا قيد المستعمر الخارجي أولا، وقيود الحياة الاجتماعية حين تكون حجرات عثرة في سبيل التقدم ثانيا، لكننا في هذا التصور للحرية نهمل جانبا، لعله هو الجانب الذي إذا تحقق لنا انفتح لنا الباب الذي ندخل منه إلى الحرية في أوسع رحابها من جهة، وإلى مشاركة العصر في خصوصية رسالته، من جهة أخرى، وأعني بذلك الجانب حرية الذين يعلمون، في المجال الذي يعلمونه؛ فلا حرية لإنسان في مجال يجهل طريقة السيطرة عليه، فالفارس الذي يحسن سياسة جواده والتحكم فيه، حر إذا ما كان المجال مجال فروسية وقتال، ولكن ضع على ظهر الجواد من لا دراية له بسياسة الخيل، كانت هزيمته مؤكدة عند لقائه بالفرسان، وهكذا قل في موقف الإنسان من كل شيء بين أن يجهله وأن يعلمه؛ تجده مفقود الحرية في حالة جهله يتمتع بالحرية في حالة علمه، وبمقدار ما قد حصل من ذلك العلم يكون مقدار حريته في ذلك المجال المعين.
فإذا كنا اليوم في عصر العلم بالطبيعة وأسرارها، فمعنى ذلك هو أننا في عصر حرية من نوع جديد، هي حرية الإنسان حيال ما يحيط به من ظواهر الكون . وفي هذا المجال حقق الغرب قدرا من السيادة لا شك في ذلك، وأخفق العربي في أن يشارك بقطرة من هذه السيادة إلا ما يجود عليه به صانع العلم في الغرب، وهنا يبرز السؤال: أفي طبيعة العربي ما يعجزه عن الإبداع في العلم بالطبيعة؟ والجواب بالنفي القاطع، تأسيسا على ما قدمناه في حديثنا عن «العروبة» ومقوماتها، أفي عقيدته الدينية ما يحول بينه وبين ذلك الإبداع؟ والجواب هنا أيضا هو نفي قاطع؛ لأننا نؤمن بدين يحض على العلم صراحة بظواهر الكون، ويأمرنا أمرا مباشرا بأن «نقرأ» معالم الكون فوق قراءتنا لما نتعلمه بالقلم وما يسطره، فليس أمام العربي عقبة تمنعه من المشاركة الإيجابية في بناء عصره مع سائر البناة، اللهم إلا تربية وتعليم وإعلام، لم نعرف حتى اليوم كيف نجعلها وسائل لإخراج المواطن العربي الجديد. (4)
Página desconocida