الحياة التي يحياها أبناء هذا العصر مضطربة قلقة؛ لأنه عصر جاء - كما قلت - همزة وصل بين حضارتين؛ حضارة كانت وأخرى سوف تكون، وكأنما عصرنا ليس مقصودا لذاته بقدر ما هو نهايات لماض مضى وآت في طريقه إلى الظهور، وداخل هذا القلق العصري العام، يضيف العالم العربي قلقا خاصا به، فقد زرع شيء في أرضه اسمه إسرائيل، فاستقطب جزء كبير من حيوية الجسم العربي لتنصرف إلى الدخيل المشتول في أرض غير أرضه، حتى أصبحنا أمام مصير مجهول. ولم نجد من المأزق مخرجا أيسر من أن تتجه أعضاء الجسم العربي ليعترك بعضها مع بعض، بل وليقتل بعضها بعضا، فالكبد يقتل القلب ويريد مع ذلك أن يعيش، أو القلب يقاوم الرئتين ويحسب أنه سيبقى بعد ذلك مع الأحياء. وكانت المحصلة الأخيرة لهذا الاضطراب العام والخاص، أن وجدنا أنفسنا أمام ازدواجية خلقية منقطعة النظير، تضطرنا المؤثرات الخارجية والغرائز والعواطف الداخلية معا إلى ممارسة الحياة على نحو يحقق لنا النجاح أو ما يبدو وكأنه نجاح، ولكننا في الوقت نفسه ننظر إلى موقعنا من التاريخ، فنرى أن الشقة قد اتسعت بين ما نحياه بالفعل من جهة، وما كان ينبغي لنا أن نحياه من جهة أخرى، فنلجأ إلى الازدواجية التي أشرت إليها، وهي أن أظهر أمام الناس وكأنني على ميراثي الثقافي القيمي الذي به كنت ما كنته على امتداد التاريخ، وأما وراء الأستار وخلف الجدران، فحياتي هي حياتي التي أساير بها الأيام في تقلباتها.
فارق بعيد بين المظهر والحقيقة في حياتنا، بين الظاهر والباطن، بين المعلن والمستور، أدى بنا إلى نرجسية من نوع عجيب، ننظر إلى صورة وجوهنا منعكسة على سطح الماء - كما حدث في أسطورة النرجسية - فنقع في حبها حبا أين منه حب قيس وليلى، فنشيد بأنفسنا لأنفسنا، ونكون نحن المتكلم ونحن السامع، ونكتب في غرامنا بأنفسنا قصائد الغزل لنقرأ نحن ما كتبناه، وكأن كاتما للصوت يحول دون أن يبلغ صوت القراءة إلى آذان الآخرين. وإذا قلنا إنه قد أصبح لنا من أجل هذا رأي في أنفسنا وللدنيا رأي آخر، لهان الأمر؛ لأنه لا يضيرنا أن تذهب الظنون بهؤلاء الغرباء كما ذهبت. لكن موضع العجب هو أننا نحن أنفسنا إذ نقرأ قصائد الغزل التي نظمناها في حب أنفسنا، نرفع صوت القراءة لعلنا نصدق أنفسنا. ومع كل هذا الجهد يبقى شيء في نفس يعقوب لا يريد أن يصدق ما يسمعه!
حياة قلقة هي التي يحياها العصر كله، ثم يضيف كل بلد إلى دواعي القلق العام المشترك، عوامل إقليمية خاصة تزيد حياته قلقا يدبر له هذا الجانب الحيوي المفقود، ووجدناه أميا لم يظفر بحقه من التعليم، فقلنا إنه لا بد للتعليم منذ الآن أن يكون حقا للجميع يشبه حقهم في الماء والهواء ... إلى آخر ما كان الجمهور قد حرم منه وأردنا له أن ينعم بحقه فيه؛ لأن «العدل» الاجتماعي يوجب علينا ذلك، لكننا من ناحية أخرى وجدنا أن الناتج الاقتصادي كله لا يكفي لسد هذه الحاجة، فما بالك وشرط الاقتصاد الناجح هو أن يخصص جزءا من الناتج ليضاف إلى تمويل عملية الإنتاج، لنضمن زيادة ما ننتجه زيادة تتناسب مع زيادة السكان من جهة، وتحقق ظروفا أنسب للتنمية الاقتصادية بنسبة معقولة. وهكذا أوجب علينا تحقيق «العدل» الاجتماعي، وما لا تساعد عليه الكفاية الإنتاجية؛ فوقعت حياتنا في تناقض لا أدري كيف السبيل إلى الخلاص منه. وليست هذه المشكلة خاصة بنا، بل ولا هي خاصة بالعالم الثالث؛ إذ رأينا بلادا في العالم الأول تستبد بها نقابات العمال؛ بحيث تطالب بأجور وبأوقات فراغ، لا تتناسب مع الإنتاج. ومعنى ذلك قريب جدا من معنى الانتحار؛ ومن هنا نشأت مقولة «المعادلة» الصعبة التي أريد بها في الأساس وجوب إيجاد النقطة التي يتحقق بها أكبر قدر من العدل الاجتماعي مع أكبر قدر من التنمية الاقتصادية، بمعنى أن يحول جزء من ناتج هذا العام ليضاف إلى تمويل النشاط الإنتاجي في العام الذي يليه. و«الصعوبة» المشار إليها في هذا التعادل، ناشئة من أن تحقيق العدل الاجتماعي تحقيقا جزئيا، كاف وحده لابتلاع الناتج كله ويطلب المزيد، فكأننا نطالب بشيء كالمستحيل، حين على قلق، فقد ضاع الشعور بالأمن في كل أرجاء العالم. ومع ضياع الأمن قل العفاء على طمأنينة النفس، وحوصر الفرد من الناس في ظروف علمية وصناعية جديدة، فقد معها فرديته الحقيقية برغم ما تؤكد له الحياة السياسية أنه حر. وأين هي الحرية في حياة تشكلها وسائل الإعلام التي تعطي المتلقي ما تعطيه، دون أن تكون له حيلة في الرد والمناقشة والرفض؟ إنها عملية «غسيل» لمخ المتلقي توجهه على نحو يتوهم معه أنه هو الذي يوجه نفسه، وكأننا أمام صورة كالتي صور بها «اسبينوزا» وهم الإنسان حين يظن أنه حر الإرادة فيما يدع وفيما يختار؛ إذ قال اسبينوزرا في ذلك إن الحجر تلقيه، فيرتفع في الهواء ويقطع شوطه ثم يقع على الأرض عند النقطة التي كان يمكن للعلم أن يحسبها مقدما فيحددها تحديدا دقيقا. أما الحجر نفسه فلو أنه منح حياة كحياتنا لتوهم أنه قد قام برحلة في الهواء اختارها لنفسه ورسمها، ووصل إلى مستقره من الأرض وفقا لخطته التي رسمها! وهكذا حياة الفرد في عصرنا وكيف حوصرت بأجهزة علمية تتركه شبه مرغم على الطريق الذي يسير فيه!
وجاءت دول العالم الثالث التي نحن منها، فوضعتها الظروف التاريخية في مأزق فوق المآزق التي تشارك بها الآخرين، خلاصته أننا حين تولينا شئون أنفسنا - بأنفسنا كسائر البلاد التي اكتسبت حريتها ممن اغتصبها - وجدنا جمهورنا العريض محروما من حقوقه في نواح كثيرة ، وكان علينا أن نرد له شيئا من تلك الحقوق الضائعة؛ لم يكن ينعم بالحد الأدنى من طعام ومسكن وثياب، فقلنا إنه لا بد أن نطالب بعدل اجتماعي وبتنمية اقتصادية لا بد منها في وقت واحد.
عندما تستقر أوضاع الحياة على قواعد معروفة ومتعارف عليها، وذلك في فترات تستتب فيها صور الحياة الحضارية ولو إلى حد معلوم؛ عندئذ تقل المشكلات التي تستعصي على الحل أو بعبارة أخرى تقل الأسئلة التي يبحث لها المسئولون عن جواب فلا يجدونه، وذلك لأن معظم المواقف قد رسمت لها حلولها فسارت الأمور سيرا أشبه بالسلوك الغريزي في جماعات النمل والنحل. أما والعالم الآن - كما ذكرنا - يجتاز مرحلة انتقالية بين حضارتين، فكثيرة جدا هي الأسئلة التي تنشأ عن مواقف وأزمات، فلا يجد لها المتخصصون حلولا يمكن أن يستقر الناس عليها؛ فما قد تبدو عليه الصلاحية اليوم، يغلب أن تتبدى نواقصه غدا فيتغير، لا عن قصور في العلم أو في دراسة المشكلات، بل إنها هي طبيعة الظروف الراهنة تقضي بذلك لسرعة التغير في مجرى الحياة العملية، الشأن في هذا كالشأن في أسرة أرادت الانتقال من مسكنها إلى مسكن جديد، وأخذت في نقل أثاثها وأشيائها، فنقلت منه جزءا وبقي جزء؛ فلا المسكن القديم بات صالحا، ولا المسكن الجديد تم إعداده، أو قل إن شأن المرحلة القلقة التي يجتازها العالم الآن، كشأن الغلام في مرحلة المراهقة؛ فلا هو قد اكتمل نضجه شابا عرف طريقه فيعامل معاملة الرجال، ولا هو في مرحلة الطفولة الصريحة فيعامل معاملة الأطفال.
تلك هي حالة العصر الذي كتب علينا أن نعيش فيه، كلنا يريد أن تدور عجلة الزمن لتنتقل الدنيا في أمان إلى الوضع الحضاري الجديد، لكننا نختلف في الأسلوب؛ فالشيوخ ومن يشبهونهم في الأناة والتدبر، يريدون للنقلة أن تندرج خطوة خطوة فلا يرتج البناء، وأما الشباب ومن هم في حكمهم، فيريدون دفع العجلة في سرعة أكبر مما تحتمل، فيلجأ كثيرون منهم إلى العنف والانحراف. إن هذا الكاتب لا يسيء الظن بهؤلاء الشباب من حيث الرغبة في الإسراع بحركة التغيير، لكنه في الوقت نفسه يرى أنهم يخطئون الوسيلة الصحيحة؛ لأن التضحية بالأبرياء على هذا النطاق الواسع، بل إن التضحية ببريء واحد تقتله غدرا وأنت تعلم أنه بريء، يستحيل أن يعود على الناس بالخير، وإلا لجاز أن تغرس بذور العلقم المر وتتوقع أن ينبت لك منها أطيب الثمار!
قلقة هي الحياة في عصرنا، لكن هنالك فرقا جوهريا بين قلق الراشدين وقلق المراهقين؛ فهنالك من الشعوب من استطاعوا أن يتصوروا الهدف في شيء من الوضوح، فعرفوا كيف يسيرون بسفائنهم لتخترق الموج المضطرب ولتنجو من العاصفة، إنهم على كثير من إدراك ما وراء هذه المرحلة الانتقالية، فيعرفون كيف يدبرون أمورهم لتتجه خطوات سيرهم نحو ما يرجحون له أن يكون هو لب الحضارة وأساسها في القرن الحادي والعشرين، وربما وجدوا ذلك يسيرا عليهم لأنهم هم صناع العلوم في يومنا هذا، وهم الذين يمسكون بزمام السير في شتى نواحي الحياة، من فنون، ونظم؛ ولذلك يسهل عليهم أن يتصوروا على أي صورة يجيء ما سوف يجيء في الحضارة الجديدة. إننا نسمع عن المفاتيح الأساسية التي بدأت تفتح مغاليق المستقبل المجهول، مثل الكمبيوتر وأشعة الليزر والقوة النووية، فهم الذين يملكون في أيديهم تلك المفاتيح، وهم على شيء من المعرفة الصحيحة كيف يطورونها فتنكشف صفحة الحياة الجديدة المرتقبة.
فهل يسع هذا الكاتب العربي وأمثاله، إلا أن يدير بصره نحو وطنه وأمته، ليرى صورة الحياة الثقافية القائمة، ليعلم إلى أي حد نحن على علم بحقائق الطريق الذي يسير فيه التاريخ؟ إننا على أحسن الفروض نتابع الغرب وهو يقلب صفحات الحياة المتغيرة في عصرنا، وكلما فتح منها صفحة جديدة، تمكن نفر منا من المشاركة في قراءتها، وإذا هم هناك قد أوقفوا الحركة عند صفحة بعينها أوقفنا نحن الحركة عندنا، وليس في وسعنا شيء غير ذلك؛ لأنهم يبدءون ونحن التابعون. وخلاصة ذلك أن غدنا نحن مجهول لنا، ومن أين لنا استباقه بمعرفة ونحن في حركة التاريخ الحاضرة لا نسمع صوت أقدامها فننتظر لعلنا نسمع صداها؟!
وإذا كان قلق الحياة في زماننا قد نشأ أساسا من فجوة وقعت بين حاضر واقع ومستقبل منتظر الوقوع؛ إذ لو كنا في عصر استقرت فيه قوائم حضارته، لتشابه غدنا ويومنا. إذن فقد كان المأمول من رواد حياتنا الثقافية أن ينفذوا بمبدعاتهم سحب الحاضر ليطلعوا الناس على قبسات من مستقبل محتمل الحدوث، لكن مثل هذا النفاذ بالبصائر خلال الحاضر استطلاعا للمجهول، كان يتطلب منا أن نكون على بينة بما يحدث في يومنا، من وثبات في ميدان العلم، إلى تيارات خافية في دنيا السياسة والنظم الاجتماعية؛ لأنك لا تستطيع أن تستدل من الواقع إلا إذا كنت على علم بهذا الواقع، وأعني العلم الذي ينتج عن ممارسة ومكابدة، وليس العلم الذي نتناقله خطفا عن إشاعة يذيعها زيد فيتلقفها عمرو، ولا عمرو عرف سر الأمور ولا زيد كان على علم صحيح به.
فإذا كانت أقطار العالم كله تحيا اليوم حياة قلقة فرضتها طبيعة المرحلة التاريخية التي نجتازها، فإن هنالك فرقا بين قلق يعرف أصحابه ولو على سبيل الاحتمال كيف السبيل إلى اختراقه وصولا إلى ما وراءه؛ إذ هو على بعض العلم بذلك الماوراء، وبين قلق آخر يسير أصحابه وكأنهم في جب معتم لا يعلمون إلى أين هم سائرون.
Página desconocida