تقرأ القصيدة من الشعر، فتحس النشوة الفنية دون أن تسأل أول الأمر من أين جاءت؟ وتعود إلى القصيدة، معتمدا على نفسك إن كنت قادرا أو مستعينا بناقد قادر، فيحلل لك القصيدة حتى يردك إلى تفصيلات مكوناتها، فتعلم مصدر النشوة الفنية التي أحسستها. وربما عدت بعد هذا العلم لتقرأها في جملتها كما فعلت أول مرة، لكنك هذه المرة تلتقي بالكيان الموحد وأنت عليم بسر فحواه. ويصادفك بين الناس إنسان، فتحس منذ اللقاء الأول أن المودة بينكما سوف تمتد وتقوى لما لمسته فيه من خصال تقرب نفسك من نفسه، ثم تأخذ مع الأيام في معرفة شخصه مفصلا في مواقف وحالات وردود أفعال، فتعلم عنه ما لم تكن تعلمه عند اللقاء الأول، مما أحدث بينكما ذلك الود السريع. وهكذا الأمثلة تجيئك متتاليات، إذا أردتها؛ لتزداد يقينا بأسلوب الفطرة في إيمانها الصادق البريء أولا؛ فرغبتها - ثانيا - في تحليل وتبيين سر ما انطوى، لتعود إلى موضوع إيمانها عن علم يهدي ويهتدي.
كانت القرون الوسطى في أوروبا، عندما بدأت سحبها تنقشع شيئا فشيئا عن تباشير فجر جديد، قد شهدت بين ما شهدته من تلك الطلائع، رجلا يطلق في الناس صيحة لم يألفوها، قائلا: إنه لا بد من تبديل المرحلتين اللتين يسير عليهما المؤمنون. فبعد أن كانوا يؤمنون أولا بما قد آمنوا به، ثم يعلمون ثانيا حقائق ذلك الإيمان، يجب - في رأيه - أن تكون الخطوة الأولى للعلم بالحقائق، حتى إذا ما تبينها الناس آمنوا بها. وفي صورة مختصرة، بدل أن يكون ترتيب الخطوتين هو أنني أومن أولا ثم أعلم ثانيا، يجب أن يكون: إنني أعلم أولا ثم أؤمن بما تعلمته ثانيا. وكان صاحب هذه الصيحة هو «إبلار»، وغدت صيحته مدعاة إلى انقلاب، هو الانقلاب الذي يطلق عليه اسم النهضة، أو البعث. وقرأ كاتب هذه السطور عن ذلك الموقف الثقافي قراءة دارس، ولبث دهرا يناصر «إبلار» في دعوته؛ إذ كيف نترك الناس ليؤمنوا بما ليس يعلمون؟ ولكنه - أعني هذا الكاتب - تساءل في لحظة متأملة: أصحيح ما دعا إليه «إبلار» وما امتلأت به صفحات التاريخ الفكري من شروح تؤيده وتناصره؟ وإذا كان صحيحا، فعلى أي وجه يتحقق؟ أنقول للطفل وهو يشير إلى شجرة باسمها، كلا يا بني، لا تقل عنها إنها شجرة حتى تكبر وتعلم عن حقائقها ما عساك تعلمه؟ أنقول لقارئ قصيدة الشعر معجبا بما قرأ: كلا يا أخانا، أرجئ إعجابك هذا حتى تجد الناقد الذي يبصرك بتفصيلاتها، فتعلم عنها ما تعلمه، ثم يكون لك بعد ذلك حق في قبولها؟ أنقول لمن يحب: أمسك يا صاحبنا عن حبك حتى تلم بتفصيلات الحب ومن تحب؟ وأخيرا، أنقول لمن آمن بوحدانية الله فور سماعه لدعوة الوحي كلا، لا تؤمن حتى يفرغ علماء الدين من بحوثهم الفقهية في معنى التوحيد؟ الحق أن هذا الكاتب لم يعد يرى في دعوة «إبلار» ما كان يراه؛ لأنه لم يعد يعلم كيف يمكن - أساسا - لمثل تلك الدعوة أن تتحقق عند التطبيق، وانتهت به تأملاته - أعني هذا الكاتب - إلى أن موضع الخطأ عند «إيلار» ومؤيديه، هو أنه رآهما خطوتين؛ إيمانا وعلما، أو علما وإيمانا. وحقيقة الأمر هي أنها ثلاث خطوات؛ إيمان فعلم فإيمان مستنير بما علم.
خلاصة القول هي أننا إذا حللنا كائنا موحد الكيان إلى عناصره التي توحدت فيه، نخطئ إن قلنا إن حقيقته هي تلك العناصر، وذلك فهو متعدد وليس موحدا. والصواب هو أن نعود إليه بعد تحليله لنراه موحدا كما رأيناه بادئ ذي بدء، على أن نستحضر في أذهاننا أن الرؤية الثانية قد أضافت علما إلى الرؤية الأولى، وهذا هو بعينه ما يحدث لأي جزء حين ننسبه إلى الكل الذي يحتويه؛ فإن هذه الإضافة تزيدنا علما بذلك الجزء، لكن ذلك لا ينفي أن نتعامل معه جزءا كما كان؛ فالمواطن المفرد في أمته، جزء من أمته، ورؤيتنا له من حيث هو فرد ينتمي إلى مجموعة معينة، تضيف إليه بعدا جوهريا في شخصيته، ولكنها لا تلغي فرديته التي يستقل بها كيانا قائما برأسه. إننا نرى مدينة القاهرة على خريطة مصر، فنزداد علما بحقيقتها عما لو اقتصرنا على معرفتها من داخل شوارعها وميادينها؛ لأن موقعها من الخريطة يبين لنا علاقاتها المكانية بسائر أجزاء الوطن المصري، لكن ذلك لا يفقدها شيئا من حقيقتها مدينة مستقلة بكيانها، كالمفرد من مفردات اللغة، له وجوده المستقل في المعاجم، لكننا نكاد لا نعرفه على حقيقته من حيث معناه، إلا إذا أجريناه في سياق جملة مفيدة.
تحليل الأشياء والأفكار تحليلا يردها إلى مكوناتها البسيطة، ثم إعادة تركيب تلك المكونات في أذهاننا ليعود تصورنا للشيء أو للفكرة موحدة كما كانت، بعد أن ازددنا علما بها، مسألة ليس منها بد للفكر العلمي. ومع ذلك فقد كانت دائما موضع خلاف واختلاف بين فريقين من رجال الفكر، يختلفان نمطا ومزاجا؛ فهناك فريق يرى أن تحليل الحقيقة الموحدة يبطلها ويفسدها. كما أن هنالك فريقا آخر لا يرى شيئا من ذلك، بل إنه ليدرك ضرورة تحليل تلك الحقيقة الموحدة إلى أجزائها إذا أردنا معرفتها حق المعرفة، دون أن يترتب على ذلك إبطال لها أو إفساد لمعناها. من الفريق الأول المتصوفة والشعراء ومن لف لفهم، ومن الفريق الثاني رجال العلم. انظر إلى المتصوف وهو يجاهد في سبيل الوصول إلى الله عز وجل؛ تلمح فيه القلق لكونه جزءا معزولا عن الحقيقة الكبرى، وكأنه لا يجد في وجوده الفردي وجودا كاملا؛ إذ هو في ذلك الوجود الجزئي أشبه بورقة سقطت من فرعها، فلم يعد لها إلا أن تذبل وتذوي وتجف لتبددها الريح. وانظر إلى الشاعر في رؤيته لكائنات الطبيعة، يأخذه الفزع إذا تناول العلم كائنا منها بمبضع التشريح، وذلك لأن المتصوف والشاعر ومن إليهما، يحملون في صدورهم فطرة تكره التحليل، بل وتكره الحساب الذي يحرص على الدنانير والدراهم جمعا وطرحا وضربا وقسمة وكسورا، بل ويكره «الدقة» بكل أنواعها، يضيق صدرا إذا حسبت له الزمن بالدقيقة والثانية. ولست أملك في هذه المناسبة إلا أن أروي نادرة وقعت لي في خبرتي، وهي تشرح مثل هذا المزاج في واقعة وقعت؛ فقد دعيت مع أحد الزملاء ذات يوم لنؤدي إذاعة مشتركة، وكان زميلي ممن يكرهون التقيد بما يتقيد به الناس في حساب الوقت. ولما أراد أن يستطرد في حديثه المذاع استطرادا يتطلب بضع ساعات، قال له المذيع إنه مضطر أن ينحصر حديثنا كله في ساعة واحدة طولها ستون دقيقة، فهاج الزميل وماج، مستنكرا أن يخضع «الفكر» لقيود الزمن! إنه مزاج بشري يمقت دقة العلم.
والذي نريد لهذا الحديث أن يحمله إلى قارئه، هو أن يرى ضرورة الرؤية الموحدة لما هو واحد، جنبا إلى جنب مع ضرورة أن نجزئ ذلك الموحد إلى عناصره لنفهمه، هما عمليتان تكمل إحداهما الأخرى في النظرة المتكاملة. وابدأ بشخصك ثم اصعد بفكرك درجة درجة؛ فأنت كما ترى نفسك فرد متفرد، لا تشك في ذلك حتى لو أنكرته عليك الدنيا بأسرها، لكنك في الوقت نفسه جزء من أسرة، وأسرتك جزء من مجموعة الناس، لا ينبغي لفرديتك أن تذوب في أي من هذه الجماعات التي أنت جزء منها؛ لأنك مسئول بفردك أمام الله يوم الحساب، كلا ولا هو مستطاع لك في الوقت نفسه أن تنعزل جزءا مستقلا بذاته، وكأنه قلامة ظفر لم تعد تتغذى ولا تنمو، ثم انظر حولك، فأنى وجهت البصر، رأيت الحقيقة نفسها التي رأيتها في شخصك؛ أفرادا في جماعات، والجماعات أجزاء من جماعات أشمل، فانفراد الفرد في عزلة مطلقة يقتله، وذوبان الفرد في غيره ذوبانا مطلقا يفنيه، فلا بد له من اتصال وانفصال معا، كالنقطة في الخط، والخلية في الجسم الحي، وكالجملة في الصفحة، والصفحة في الكتاب.
ليس فيما ذكرناه شيء من فكرة «التوحيد» بمعناها الديني، لكنها إشعاعات من تلك الفكرة الجليلة رأيناها في الإنسان وحياته.
جمود الفكر ما معناه؟
وقفت طويلا طويلا عند قول الله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها ؛ إذ قلت لنفسي: ما الذي تعلمه آدم عليه السلام حين تعلم الأسماء؟ إن أول ما يرد على الخاطر جوابا عن هذا السؤال، هو أنه لقن بالوحي بأن هذا الحيوان كبش، وذلك قط، وأن هذا النبات شجرة وذلك عشب وهلم جرا، فمن المفروض المعلوم أن الحيوان والنبات كائنات وجدت قبل أن ينزل آدم عليه السلام إلى الأرض لتبدأ بنزوله أسرة البشر. لكن هذا المعنى المباشر لل «أسماء» التي تعلمها آدم عليه السلام أضيق جدا مما يمكن أن يكون قد تعلمه بالفعل؛ لأن كل اسم من الأسماء في هذه الحالة لم يكن ليزيد عن كونه مشيرا إلى فرد واحد من أفراد نوعه؛ فاسم «كبش» عند تعلمه لأول مرة، يشير إلى «هذا» الكبش الذي أمام المتعلم، واسم «شجرة» يشير إلى «هذه» الشجرة التي يراها بين يديه؟ فماذا لو تحرك الكبش وغاب عن البصر، وماذا لو تحرك المتعلم من مكانه فرأى شجرة غير الشجرة الأولى، أو رأى كبشا آخر غير الكبش الذي غاب؟ إذن فلا بد أن تكون النقطة الأولى التي نلحظها هنا، هي أن «الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام هي أسماء «الأنواع» ولا يقتصر الاسم منها على فرد واحد من أفراد نوعه».
لكن هذه النقطة الأولى - التي قد تبدو يسيرة هينة عند إدراكها - ستدخلنا في عالم فسيح الأرجاء من الفكر، وعن «الفكر» وطبيعته. قد يريد القارئ أن يعلم بأن شطرا كبيرا مما سنذكره فيما يلي عن العالم الفكري الغني، الذي ستكون بوابة الدخول إلى رحابه، وهي تلك النقطة اليسيرة الهينة التي ذكرناها، أقول إن القارئ قد يريد أن يعلم بأن شطرا كبيرا من هذا العالم الفسيح الذي نحن الآن بصدد الدخول فيه، هو من نتاج هذا العصر، ولا أظن أن شيئا منه قد عرفه الآباء الأولون، إلا أنه مع حداثة ظهوره يغوص بنا إلى أعماق بعيدة، تترتب كلها على أن يكون كل اسم من الأسماء التي تعلمها أبو البشر، دال على «نوع» بأسره وليس هو بالاسم الذي يطلق على فرد واحد معين، كاسم «آدم» واسم «حواء» - مثلا - لأن الاسم في هذه الحالة الأخيرة يسمي صاحبه دون غيره من أفراد نوعه.
Página desconocida