وكانت الأمة العربية بين هؤلاء، بل قد سبقت هؤلاء جميعا في صحوتها الثقافية التي كانت قد بدأتها في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، متأثرة في ذلك بمواجهة مباشرة كانت قد واجهت بها الغرب في حملة نابليون على مصر، وتولد لها من تلك المواجهة فرعان من التوجه الثقافي يتفق كلاهما على ضرورة إحياء التراث الثقافي ليكون لها شريانا حيويا، يتصل به حاضر بماض، ثم اختلف الفرعان بعد هذه النقطة الإحيائية المتفق عليها، فأحدهما يضيف إلى إحياء الموروث نقولا من ثقافة الغرب وعلومه، وأما الثاني فيضيف إلى إحياء الموروث إحياء آخر للموروث.
ودارت مع الأمة العربية عجلات الزمن بأحداثها بعد تلك المواجهة الأولى مع الغرب فشملتها موجهة الاستعمار الأوروبي التي أشرنا إليها، البريطاني منها والفرنسي بصفة خاصة، فانطوت تحت هذه الموجة مع سائر ما انطوى، ورفع معيار الثقافة الواحدة التي هي ثقافة المستعمر بريطانيا هنا فرنسيا هناك، مع أصوات خافتة تأتي منادية بالمضي في إحياء موروثنا، لكنها لم تكن هي الصوت الأعلى، إلا أنها مع ذلك ذات أثر في التوجيه، فرأينا أعلام حياتنا الثقافية في النصف الأول من هذا القرن، يمزجون في وقفتهم بين موروث وغربي، أو بين غربي وموروث، على اختلاف بينهم في درجة ما يأخذه هذا أو ذاك، من موروث ومن مصدر غربي شاءت له الصدفة أن يكون على صلة به؛ فبعض يغترف من معين فرنسي، وبعض آخر لجأ إلى مصدر إنجليزي، حتى ليتميز أعلام حياتنا الثقافية إبان تلك الفترة - إذا قيس إليهم المثقفون في الفترة الراهنة - بتمكنهم من الثقافتين معا؛ فكلهم تقريبا على علم واسع بالموروث، وكلهم تقريبا كذلك على معرفة بتيارات الفكر الأوروبي والأدب الأوروبي، معرفة قد تشتد مع فريق وتضعف مع فريق. وعلى هذه الصورة في حياتنا الثقافية انفتح الستار بعد ختام الحرب العالمية الثانية، وبدأت الشعوب المحكومة بالأجنبي تظفر باستقلالها، ونجحت ثورة الألوان في أن تتعدد المعايير الثقافية ليكون لكل ثقافة إقليمية معيارها، وذلك بعد أن كان اللواء المرفوع، هو واحدية المعيار الثقافي واحدية تجعل الثقافة الأوروبية وحدها مثلا أعلى تقاس عليه سائر الدرجات. ولم يكد يرفع الستار عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى حدث لنا حدثان؛ أولهما هو أن زرعت إسرائيل في أرضنا زرعا قويا مقتدرا. ولست أعني فقط بهذا الزرع إن كان وراءها تلك الدولة القوية من دول الغرب، أو هذه الدولة، بل أعني ما هو أهم من ذلك وأبعد أثرا وهو أن إسرائيل هي، هي نفسها الغرب مختصرا ومكثفا؛ لأنه وإن يكن ما يقرب من نصف شعبها عربيا في نشأته إلا أن النصف الثاني الوافد من أوروبا وأمريكا هو إسرائيل بمعناها الذي نواجهه. أما الحدث الثاني، الذي ربما كان نتيجة مباشرة للوجود الإسرائيلي الطارئ فهو ثورة مصر في يوليو سنة 1952م، وهي ثورة استهدفت عدالة اجتماعية في المقام الأول؛ لأنه إذا كانت الثورة السابقة عليها، وأعني ثورة 1919م قد نجحت نجاحا جزئيا، فإن ذلك النجاح الجزئي نفسه قد انحصر في الجانب السياسي بصفة أساسية بمعنى أن تستقل مصر، وأن تحكمها حكومة يختارها الشعب عن طريق نوابه، وأما الجانب الاجتماعي من حياتنا فلم يكن هدفا مباشرا فبقي جمهور الناس كما كان في حقوقه؛ فالعامل هو هو العامل الذي يتحكم فيه صاحب العمل. وكان أمرا طبيعيا إذا ما اتجهت الثورة الجديدة نحو عدالة اجتماعية أن تسارع إلى إشباع حاجات الجمهور العريض التي لم تكن موضع عناية كافية قبل ذلك. ولقد أسلفنا لك في حديثنا السابق عما يترتب على ذلك الإشباع من مشكلة يصعب حلها، وهي نفسها المشكلة - عندنا وعند سوانا - التي صيغت من أجلها عبارة «المعادلة الصعبة» التي ألاحظ أن استعمالها قد اتسع على ألسنة المتكلمين، حتى لتراهم يشيرون بها إلى مواقف تفقدها معناها؛ فهي تعني في مجال الجماهير المحرومة وإشباع حاجاتها التي حرمت من التمتع بها أمدا طويلا، أن ينفق على ضرورات الحياة لجمهور عامة الناس ما يمكنهم من دخل اقتصادي معقول ومن تعليم إلى آخر درجاته، ومن علاج طبي بالمجان، ومن مساكن تبنى من أجلهم، ومن مواد غذائية بأسعار تدعمها الدولة، إلى آخر تلك الضرورات. وهنا تنشأ المشكلة التي تصوغ نفسها في معادلة يصعب حلها؛ لأن أحد شطريها هو تلك المبالغ الضخمة التي تستنفدها تلك الضرورات والتي تفوق الدخل القومي بمقدار كبير، وأما الشطر الثاني فهو كفاية السلع المنتجة لإشباع تلك الضرورات، مضافا إليها فائض لا بد منه ليستعان به على تنمية الإنتاج ليتكافأ مع سكان يزداد عددهم بمتوالية هندسية. والسؤال الصعب هو: كيف تتعادل العدالة الاجتماعية المشار إليها في الشطر الأول من المعادلة، مع كمية الإنتاج المطلوبة في الشطر الثاني؟
والذي يهمنا من هذا الموقف في سياق حديثنا هذا، هو أن مالت ثورة 1952م، نحو العناية بثقافة الجماهير، ميلا اضطرها إلى التهاون في ثقافة الصفوة من أصحاب المواهب (وهم أيضا أفراد من الشعب)، فكانت النتيجة الحتمية لهذا، هو أن انحدر الخط البياني بدرجة ملحوظة، في نوع المتعلم الذي تخرجه معاهدنا وجامعاتنا، وفي نوع مبدع الثقافة من الموهوبين، وفي نوع المتلقي العام لشتى صنوف المؤثرات، فإذا كان أعلام الحركة الثقافية في الجيل الماضي قد عرف معظمهم بتمكنه من موروثنا الثقافي وبقدر كبير من ثقافة الغرب، بحيث لو كانت بهؤلاء الأعلام ومن يأتي بعدهم على شاكلتهم قد امتدت الفترة الزمنية مع قيام ذلك النموذج ذي الجناحين، لكان لنا أمل كبير في إبداع ثقافي وحضاري يولد من ذينك الجناحين يمكننا من المشاركة الفعالة في موكب العصر.
لكن سرعان ما ملأ الساحة جيل جديد فقد القدرة اللغوية بشعبتيها العربية والأجنبية (بصفة عامة) فلا هو يستطيع قراءة الأصول العربية في عيونها ولا هو يستطيع أن يكون على صلة بما تنتجه ثقافة الغرب، فحتى عملية الترجمة فقدت كثيرا من فاعليتها إذ من أين لنا مترجمون يتقنون اللغة المنقول عنها واللغة المنقول إليها في وقت واحد، وقد قررنا أن المالكين لزمام لغة واحدة أقلية قليلة، فنتج عن هذا الموقف نتيجته الحتمية؛ فأصحاب المواهب طبعا موجودون، لكن الموهبة وحدها قدرة تحتاج إلى ما يعينها على الفعل، فإذا لم تكن هذه المعينات بين أيدي الموهوبين لم يكن أمام الموهوب منهم إلا أن يصب موهبته على ما يملكه، فإذا كان الذي يملكه من اللغة - مثلا - هي العامية التي يتبادل بها الحديث مع مواطنيه، وكان موهوبا في الشعر أو قص الرواية، كتب شعره أو روايته بالعامية الصريحة آنا وبلغة منضبطة افتراضا، ولكنها في واقعها ركيكة ضعيفة مغلوطة آنا آخر. وأما في غير مجال الأدب والفن من مجالات العلم والفكر، فهنالك نرى الغالبية العظمى وهي لا تكاد تجد مجالا لمواهب الموهوبين منها؛ فقد حفظوا جميعا ما حفظوه في معاهدهم وجامعاتهم، وهم في كثير من الحالات قادرون على تطبيقه في مجالاتهم المهنية والحرفية، فأما إذا جد في الحياة جديد أسقط في أيديهم، واستضافوا «الخبراء الأجانب».
ضع هذه الصورة جنبا إلى جنب مع أول الحدثين الكبيرين اللذين ظهرا عقب الحرب العالمية الثانية وهو أن زرعت إسرائيل في أرضنا، وإسرائيل كما أشرنا ليست فقط مدعومة بقوى الغرب، بل هي الغرب ذاته في خلاصة مكثفة تفهم أبعاد الأزمة الحقيقية التي تواجه الأمة العربية؛ فقد نستطيع أن نحلل هذه المواجهة إلى عناصر مختلفة كمنت فيها، إلا أن عنصرا من هذه العناصر يجب إبرازه في سياق حديثنا هذا لنرى حقيقة الموقف في وضوح، وهو أن المواجهة بين الأمة العربية وإسرائيل هي مواجهة بين ثقافتين نستطيع على سبيل التجريد والتبسيط أن نقول إنهما الثقافة العربية الخالصة من جهة، وثقافة الغرب المعاصر من جهة أخرى. الأولى تكاد تخلو خلوا تاما من العلم الطبيعي وما قد ترتب في مرحلته الأخيرة من صناعة تقنية في طرازها الجديد. والثانية تكاد تجعل ذلك العلم الطبيعي وما يترتب عليه مدارها. وفي هذا القول تجريد وتبسيط كما ذكرنا لنرى حقيقة الموقف رؤية أيسر وأوضح، وإلا فكل من الثقافتين قد أضافت إلى جوهرها إضافات أدخلتها في نسيجها لتكتسب منها مزيدا من قوة الدفع والحركة؛ فالجانب الإسرائيلي قد أضاف إلى علمية العصر وتقنياته، أسطورة رأوا فيها ما يحفز اليهود في أنحاء العالم إلى التجمع حول هدف موحد. وأما الجانب العربي فقد لجأ إلى «التاريخ» ليستشهد به، وكان منطق العقل يقتضي أن يكون التاريخ أقوى سندا لصاحبه من «الأسطورة» لصاحبها، وذلك فضلا عن الجسور الكثيرة التي عبرتها الأمة العربية لتأخذ نصيبها من روح العصر متمثلة في علومه وتقنياته، لولا أنه قد فاتها في ذلك العبور عامل جوهري أحدث لها نتائج أضعفتها إذا ما قيس الأمر بمقاييس القوة في هذا العصر. وسنرجئ ذكر الجانب الذي أفلت منها إلى نهاية الحديث لنبين - أولا - كم كانت جسور الصلة بين الأمة العربية وعصرها.
فمن ناحية الاتصال الفكري بالغرب الحديث، أقامت الأمة العربية جسرين لم ينقطع العبور عليهما بينها وبين فكر الغرب منذ الثلث الأول للقرن الماضي وإلى يومنا هذا؛ أحدهما النقل عن طريق الترجمة أو العرض والتلخيص، والآخر هو الصلة المباشرة بين عرب يعبرون إلى بلاد الغرب للدراسة أو للتجارة أو للسياسة أو غير ذلك من أهداف، وغربيين يعبرون من الغرب إلينا لتلك الأسباب المختلفة. ومن اللقاء الحي يحدث التفاعل بين الثقافتين أخذا وعطاء. ولك أن تراجع ألمع الأسماء التي سطعت في سماء الفكر العربي لترى كم منها قد استمد النور من هذا اللقاء الفكري. وليس بالضرورة أن يكون النور صادرا عن أخذ أفكار الفريق الآخر كما هي، بل قد يصدر النور من النقد والمعارضة؛ فالناقد لا ينقد والمعارض لا يعارض إلا شيئا قرأه أو قرأ عنه فعرفه. لقد سادت الفكر الأوروبي في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي موجة مادية لا ترى في العالم إلا كونا من مادة تظهر ظواهرها وتتفاعل عناصرها، وحتى «العقل» نفسه في الإنسان حاولوا رده إلى تفاعلات عضوية في الجهاز العصبي. وكانت تلك الموجة المادية التي لم يطل أمدها هي التي أطلق عليها الأفغاني اسم «الدهرية» ورد عليها بكتابه المعروف «الرد على الدهريين» وكذلك كانت للشيخ محمد عبده ردود ومعارضات لما ينشر في الغرب عن الإسلام، مثل «الرد على هانوتو». ولولا علم بما نشر هناك لما كان نقد هنا، والتلقي الناقد هو كالأخذ المقبول من حيث انقداح الشرارة التي يتوهج بها النور.
وإذا انتقلنا بأبصارنا من عالم «الفكر» في عمومه إلى دنيا «العلم» والتعليم لم تستطع تلك الأبصار أن تخطئ نقل «العلوم» إلى العربية على صور مختلفة؛ فإما هي ترجمة لكتب علمية بذاتها، وإما - وهذا هو الأكثر شيوعا والأهم تأثيرا - دارسون يدرسون العلوم الحديثة على اختلافها، ثم يعرضون مادته العلمية عرضا نستبين به مضموناتها. وفي إيجاز هذه العملية بوجهيها حدث أن اختيرت مقابلات عربية للمصطلح العلمي في شتى ميادينه وما لم يوجد له مقابل عربي نحتت له صورة عربية. وقد لا يتنبه القارئ إلى أن علوما بأسرها في مجال العلوم الإنسانية أو الاجتماعية كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد قد أنشئت لها صورة حديثة، وأصبح لكل منها لغته العلمية الخاصة، مما جعل هذه المواد تكتسي ثوبا عربيا جديدا. وحتى علوم كالتاريخ والجغرافيا والقانون، مما كانت لها في موروثنا العلمي أصول قديمة، قد صيغت في عصرنا الحديث صياغة عربية جديدة جعل لها أسلوبها العلمي الخاص الذي يختلف عما عهدناه في الموروث.
ولما كانت لعصرنا هذا وجوه جديدة للفكر الفلسفي والفكر السياسي، بحكم تميزه بأحداث وتيارات خاصة به، لم يكن لنا بد من نقل ذلك الفكر إلى اللغة العربية على نطاق واسع، حتى لنجد المثقف العادي يستخدم أفكارا ومذاهب مما يقع في هذا المجال وكأنها نبات طبيعي نبت في أرضه. وأما إذا انتقلنا إلى وسائل الحياة العملية من آلات وأجهزة، مما اخترعه الغرب بعلمه الجديد فاشتريناه وأدخلناه في صميم حياتنا بحيث يستحيل عليك أن تجد فردا واحدا منا، أينما كان وفي أية درجة من الحضارة العصرية هو، إلا وتراه قد شارك الحياة العصرية في ناحية من نواحيها؛ فهو يسافر بالطائرة أو السيارة أو القطار، وهو يسمع المذياع ويشاهد التلفاز وهو يحارب بالدبابة والصاروخ وهو يستضيء بمصابيح الكهرباء، إلى آخر هذه التفصيلات التي ليس لها آخر .
فنحن قد عبرنا الجسور إلى عصرنا ولا ينفي ذلك أن نكون قد عبرناه على درجات متفاوتة تفاوتا بعيدا، يكاد يقسمنا عدة شعوب في كل شعب واحد؛ ففي القمة ترى شريحة من أبناء الأمة العربية تحيا عصرها متمثلا في أفكاره وعلومه وتقنياته وكأنهم من أبناء الغرب ذاته الذي صنع تلك العناصر صنعا، وفي الدرجة السفلى تجد شريحة عريضة من أبناء الأمة العربية لم تنفذ إلى أفكار العصر وعلومه وتقنياته إلا بما ليس يرتفع عن درجة الصفر إلا قليلا، وبين الأعلى والأسفل تدريجات ودرجات.
تلك وأمثالها جسور عبرناها إلى حياة العصر والمشاركة فيها، وليس من دقة الصواب أن ننكر على أمتنا ذلك العبور، لكن السؤال الذي نريد له أن يؤخذ مأخذ الجد، هو هذا: أكان هذا العبور منا إلى حياة عصرنا في أوجه كثيرة مما يمس في وجداننا وترا؟ أم كنا نعبر تلك الجسور في شيء من الرفض الذي يجرع به المضطر مر الدواء؟ ونضع السؤال نفسه في صورة أخرى فنقول: إذا فرضنا أن قام في أمتنا العربية صوتان؛ صوت منهما يدعو إلى الإقبال بقلوبنا وعقولنا معا على ثقافة العصر وحياته مشاركين فيها إلى آخر نقطة لا تتعارض فيها مع مقومات الشخصية العربية الأساسية بينما يدعو الصوت الآخر إلى النفور من العصر وأبالسته؟
Página desconocida