وإننا لنقول الحقيقة نفسها بعبارة مختلفة، إذا وضعنا طرفي المقارنة في صورة أخرى، قائلين إنه بينما كانت أوروبا عند خروجها من عصورها الوسطى؛ لتدخل عصرها الحديث الذي هو عصر قوتها، قد جعلت ينبوعها الذي تستلهمه روح نهضتها، أسلافهم اليونان والرومان، إما بطريق الاتصال المباشر بتراثهم، وإما عن طريق العرب؛ ومن ثم فقد عرفت طريقها إلى الرؤية العقلية العلمية، وهي الرؤية التي بنيت عليها حضارة الغرب الحديثة كلها، وأقول إنه بينما كانت تلك هي مصادر إلهامها، فقد كانت الأمة العربية إبان ريادتها خلال القرون التسعة التي أشرنا إليها، تستلهم الدين؛ أي إنها كانت تستلهم وحيا إلهيا أوحي به إلى نبي رسول.
ونضع أمامنا هذه الصورة بجوانبها المختلفة، لننتقل بها إلى حاضر الأمة العربية، فنسأل عن هذا الحاضر نفسه ماذا نعني به في حديثنا هذا؟ وهنا يأتينا الجواب على درجة عالية من الوضوح؛ فحاضر الأمة العربية، من الزاوية التي تهمنا في هذا الحديث، هو أنه موقف قوامه طرفان؛ فهناك حضارة ركيزتها الأساسية هي علم طبيعي بمعنى جديد، وهنا ركيزة أساسية، هي دين وتاريخ، كانت قد قامت عليها حضارة فترت قوتها، ولكن بقيت ركيزتها وستبقى، فكيف يكون سبيلنا إلى مستقبل قوي مزدهر؟ إنه ليبدو للوهلة الأولى «وربما للوهلة الثانية كذلك» أنه لا سبيل إلا إذا عرفنا كيف ننقل حضارة القوة المستندة إلى علم، فنقيمها على أرضنا فوق ركيزتنا نحن، بما تنطوي عليه من دين وتاريخ، ترى هل هو مطلب ممكن التحقيق؟ وكيف يتحقق؟
ولست أريد لنفسي، كلا ولا أريد للقارئ أن يمر على هذه الكلمات مرا سريعا؛ لأننا لو فعلنا، أفلتت بنا المشكلة التي نحن الآن بصدد طرحها، وشرحها، وحلها، مع أنها مشكلة توشك أن تكون أخطر ما صادف الأمة العربية منذ أسدل ستار على مسرح إبداعها في أواخر القرن الخامس عشر، فماذا نعني بقولنا: هل يمكن للعقل العربي أن يقيم العلم الطبيعي الجديد على قوائم من دينه وتاريخه؟ وهو سؤال إذا وفقنا إلى جوابه، استطعنا اقتحام العقبة التي حالت، وما زالت تحول دون دخول العربي عصره الذي يعيش فيه توقيتا، ولا يعيش فيه بانيا، حتى لقد قنع بأن يأخذ من ثمرات عصره ما يتصدق به عليه سادة العصر، وأصبح بهذا الوضع تابعا، ولا يمحو عنه التبعية أن يهتف لنفسه بالحرية! ونعود فنسأل: ماذا نعني بإقامة العلم الطبيعي الجديد «الذي هو سمة العصور الأولى» على ركيزة الدين والتاريخ؟ ولكي نجيب شارحين في حدود علمنا القليل، نقول: إن موضع الجدة في العلم الطبيعي الجديد، هو «الأجهزة التي هي وسيلة البحث العلمي على نطاق واسع، ثم هي في الوقت نفسه نتيجة ينتجها البحث العلمي في صورته الجديدة، فالوسائل البحثية أجهزة، والنواتج أجهزة»، وتلك هي التقنية «التكنولوجيا» بمعناها المنهجي الصحيح، وهو المعنى الذي لم يكن هناك سواه عندما أطلق هذا المصطلح لأول مرة في أواخر القرن الماضي، ثم شاع للكلمة معنى آخر، بحيث أصبح يطلق على الأجهزة المنتجة وحدها. وكان الأولى، إذا أردنا الاقتصار على أحد الطرفين، أن نطلق الكلمة على أجهزة البحث العلمي، من مقاييس، ومناظير وغيرها مما تمتلئ به معامل البحوث العلمية، وكان الأصح بدل أن نقول العبارة الشائعة «العلم بالتكنولوجيا» فعلاقة العلم الطبيعي بمعناه الجديد، علاقته بأجهزة البحث هي من الشدة بحيث إذا سئلنا: ماذا نعني ب «التقدم» في العلم؟ كان الجواب هو أننا نعني التقدم في دقة الأجهزة المستخدمة في البحث، والعكس صحيح أيضا؛ أي إننا إذا سئلنا: ماذا نعني بالتقدم في أجهزة البحث؟ كان الجواب هو : إننا نعني التقدم العلمي. ولم يكن قط لهذه العلاقة المتبادلة بين البحث العلمي وأجهزته وجود في ماضي البشرية بأسره، وكل ما عرفه رجال العلم الطبيعي قبل القرن الماضي من أجهزة وسائل غاية في القلة وفي البساطة في آن واحد. وكان مؤدى هذا التقدم الهائل والسريع في أجهزة البحث العلمي، هو أن استطاع الإنسان المعاصر أن يعلم عن الكون علما لم يكن يجرؤ فيما مضى أن يحلم به. وأضرب مثلين اثنين وأكتفي؛ أولهما هو أن لدى الإنسان الآن منظارا فلكيا يستطيع به أن يتلقى الضوء من مصادر تبعد عن الأرض - كما قرأت أخيرا - عشرين ألف مليون سنة ضوئية، وأذكر القارئ بأن الضوء سرعته في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلومتر، فكم يكون في الساعة؟ وكم يكون في اليوم؟ وكم يكون في السنة؟ ثم كم يكون في عشرين ألف مليون سنة؟ فهذا جهاز يمد آفاق علمنا بالكون إلى هذا المدى. والمثل الثاني هو تلك الأجهزة التي يطلقون عليها اسم «الإنسان الآلي» فيتخيل السامع أنها أجهزة تشبه الإنسان في شكله الجسدي، فيكون لها أذرع وأرجل وجذع ورأس، وحقيقتها أنها أجهزة تؤدي ما يؤديه الإنسان في عملياته الإدراكية، وقد يأخذ الجهاز منها صورة الصندوق؛ فللإنسان - مثلا - قدرة على الإدراك البصري، ولاحظ أن ذلك شيء أكثر من مجرد انطباع صورة شيء خارجي على حاسة البصر، فهذه العملية كانت تقوم بها آلة التصوير «الكاميرا» أما «الإدراك» فهو أن تترجم الصورة المتلقاة من الخارج إلى «معرفة» بما يترتب على تلك الصورة من ردود الفعل ... إلخ ... إلخ.
ذلك هو العلم الطبيعي الجديد، في دقة أجهزته، وفي أبعاد نتائجه، ولعله من الواضح أنه يقتضي دقة بالغة أقصى مداها في «تحليل» الظاهرة المادية التي توضع موضع البحث، مما حدا ببعض رجال الفكر في الغرب أن يطلقوا على هذا القرن العشرين اسم «عصر التحليل» وهي صفة تصدق على عصرنا كل الصدق، وقد انعكس صداها على ظاهر الحياة الإنسانية ذاتها، انعكاسا ظهر أثره واضحا في العلوم الإنسانية كلها؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد وغيرها. وحسبك أن ترى إلى أي حد تلجأ هذه العلوم الآن إلى صياغة قوانينها في صورة رياضية، وإذا قلنا رياضية فقد قلنا آخر درجة من درجات التحليل العقلي. ولا شك في أن كل قارئ يعرف شيئا قل أو كثر، عن مدى ما وصل إليه علماء الطبيعة من تحليل المادة إلى ذرات، والذرة إلى كهارب بعضها سالب، وبعضها موجب، وبعضها محايد. وها هو ذا ضرب جديد يظهر بين مكونات الذرة، كشف عنه ثلاثة علماء، استحقوا من أجله جائزة نوبل لعلوم الفيزياء لعام 1988م، وهو ضرب بلغ من الصغر ومن الخفاء حدا جعل مكتشفيه يسمونه «الشبح» إذ رأوه أدخل في باب الأشباح منه في عالم الأجساد، فانظر كم من دقة التحليل يتطلبها العلم الطبيعي اليوم ليبلغ أصغر الوحدات التي فيها نسجت الظواهر المختلفة في نسيج واحد متصل، هو هذا الكون العظيم، وكلما بلغ العلماء بتحليلهم ما ظنوا أنه آخر المطاف، وجدوا ما هو أصغر. وأما عن القوة الجبارة التي حبست في تلك الكهارب اللامتناهية الصغر، فحدث ولن تجد لحديثك خاتمة يقف عندها.
وما علاقة هذا كله بسؤالنا الذي طرحناه أخيرا، وهو: هل يمكن للعربي أن يشارك في هذا الجهاد العلمي، شريطة ألا يتنافر مع جذور في حياته ولا تكتمل له تلك الحياة إلا بها، ألا وهي دينه وتاريخه؟ وقد يتعجب القارئ من سؤالي هذا، قائلا لنفسه: وما الذي يمنع الجمع بين الجانبين في شخص واحد؟ على أن هذا المتعجب يرجح له أن يكون على تصور للمشاركة العلمية المطلوبة هو التصور السائد فينا جميعا؛ أي أن تكون تلك المشاركة مقصورة على دراسة ما قد أنتجه آخرون وكان الله يحب المحسنين. أما أن يتصور بأن المشاركة المطلوبة مختلفة كل الاختلاف عن حفظ ما بين يديه؛ إذ تعني - أولا - أن نحيا حياة اجتماعية من شأنها أن تفرز لنا وجوب البحث العلمي الذي نواجه به تلك المشكلات. و- ثانيا - أن تنشأ في جوف تلك الحياة العلمية، اهتمامات على مستوى أعلى يرتبط بها رجال الاختصاص العلمي بمن يقابلهم في أنحاء العالم المتقدم، ليكون لنا نصيبنا المعقول في بحث أمهات المسائل العلمية التي تستهدف سد الثغرات الموجودة، والمتعلقة بأسئلة كبرى لم تجد أجوبتها بعد. و- ثالثا - أن يكون منا من يبادر الدنيا بلفتة علمية جديدة في أي ميدان من ميادين الطبيعة، فهذا كله لا يطوف للدارس العربي ببال، إلا إذا حفزته موهبته المحبطة في وطنه، إلى هجرة تضعه في مكان يقدره ويشجعه ويفسح له مجال المشاركة العلمية بهذا المعنى الكبير.
إنه لا عجب في أن يكون الوطن العربي قد انفتحت أبوابه على الغرب منذ ما يقرب من قرنين كاملين، ومع ذلك فهو يعد بمنزلة من رفض، ويرفض تقبل هذه الحضارة العلمية، اللهم إلا مستهلكا لثمارها، ودارسا في معاهده وجامعاته دراسة التلاميذ، فيحصلون ما بين أيديهم، وعلى أساسه يكون منهم المهنيون والمحترفون في ميادين الحياة العملية، حتى إذا ما واجهتهم تلك الحياة بمفاجآت لم تكن مذكورة في المادة العلمية المدروسة، استدعينا لمعالجتها خبراء من خارج بلادنا!
فإلى المتعجب الذي يسأل قائلا: وما هو وجه الصعوبة في أن ندرس علوم العصر لنضيفها إلى دين عندنا وتاريخ لنا؟ نقول: إن الصعوبة قد نشأت من الطريقة التي ربينا عليها، وتعلمنا في جوها، وهي طريقة من شأنها أن يؤخذ الدين وأن يفهم التاريخ على نحو يظهرهما وكأنما يتنافران مع العلم الطبيعي الجديد ونتائجه؛ ومن هنا نرى دارس العلم عندنا - ودع عنك أفراد الجمهور العام - يتناول ذلك العلم على حذر، خشية أن يكون الأخذ به أخذا كاملا، يصدر عن قلبه حبا وإقبالا، صدوره عن عقله دراسة وفهما، قد يتنافى مع الإيمان الديني أو مع أي شعور مما توارثناه عن ماضينا جيلا بعد جيل؛ إذ قد يتنافى - مثلا - مع خوارق الأولياء، أو مع الاعتقاد في عجز الإنسان وقصوره بالقياس إلى علم الله وقدرته سبحانه وتعالى.
فما الذي ألقى في روع العربي الجديد هذا الفزع كله من العلم الطبيعي في صورته الحديثة؟ ولكي تدرك إلى أي حد قد بلغ منه الحذر الفازع تجاه هذا العلم ، قارن بين موقف العربي في هذا الصدد، وموقف الشعوب الصفراء، كاليابان، والصين، وكوريا، وتايوان؛ لترى الفرق البعيد بينهما في الجرأة على تشرب الروح العلمية الجديدة في عالم الصناعة، حتى لترى إنتاجها الصناعي يقتحم على بلاد الغرب أبوابها لينافسها في عقر ديارها، مع أننا وشعوب البلاد الصفراء نلتقي إلى حد ما في أن لكل منا تقاليده التي انحدرت إليه عبر تاريخه الطويل، ويرفض أن يلقي بها في البحر ليستقبل الغرب الحديث بكل كيانه. إنني إذ أتأمل موقف العربي من علم عصره، وهو موقف حذر رافض بوجه عام، ولا يخدعنا أن تمتلئ أرضنا وسماؤنا بثمرات ذلك العلم، وأن تتجاوب القاعات في جامعاتنا بأصداء المقررات العلمية والمعامل وغيرها؛ لأن ذلك كله - كما ذكرت فيما أسلفته - إنما هو قطف لنتاج غيرنا، نأخذه ونحفظه ونستخدمه، وحتى إذا صنعنا شيئا مثله، جاءت صناعتنا في أغلب الحالات نسخة منقولة عن أصل أنتجه غيرنا، أقول إنني إذ أتأمل هذا الموقف الرافض لحضارة العصر متمثلة في روحه العلمية، أجدني متجها بفكري في اتجاهين؛ في اتجاه منهما أحاول مقارنة هذا الرفض بما كان للعربي من ريادة علمية خلال ما يقرب من تسعة قرون، فأسأل لماذا؟ ثم أحاول الجواب. وفي الاتجاه الثاني أحاول أن أتلمس في روح العلم الجديد معالم قد تبدو وكأنها تناقض روح الدين وروح الحياة كما مارسناها عبر عصور التاريخ.
فأما في الاتجاه الأول - الذي أقارن فيه بين موقف العربي من علم اليوم وموقفه من علم الأمس - فما أسرع ما تأتيك المقارنة بما تريد؛ فعلم الأمس منذ بدأ عند الإنسان نظر علمي حتى نهضت أوروبا في القرن السادس عشر، كان في أغلب حالاته يدور حول استخراج صيغة من رموز، باستدلالها من صيغة أخرى من رموز. ولقد تعمدت هنا استخدام كلمة «رموز» لتشمل فيما تشمله، قسمين هامين هما: «اللغة» وتراكيبها، و«الرياضة» وما فيها من أعداد أو حروف، فكان مدار الفكر العلمي في معظمه؛ إما علوما لغوية وفقهية وتحليلات شارحة لما قد سبق السلف إلى قوله، وإما علوما رياضية خالصة كالحساب والجبر والهندسة، وإما علوما أخرى تنبني على الرياضة كالفلك، وفي جميع هذه الحالات لم يكن النظر العلمي ينصب على ظاهرة طبيعية انصبابا مباشرا ليستخرج قوانينها، بل كان ينصب - كما قلت - على أقوال، أو مركبات رياضية (ومنهج الاستنباط في كلتا الحالتين واحد في أساسه)؛ ومن هنا وجبت الحيطة حين نذكر «علم» القدماء، لنقارنه بعلم المحدثين؛ فالفرق بعيد بين المعنيين برغم أن كلمة «علم» مشتركة في الحالتين، فعلم السالفين توليد كلام من كلام، أو رموز من رموز، وأما العلم الطبيعي عند المحدثين فموضوعه الطبيعة ذاتها، يتناولها تحليلا ليصل إلى أبسط وحداتها التي هي بمنزلة الخامة الأولية التي هي قوام الكائنات، واستخلاص القوانين التي على نسقها تجري الظواهر الطبيعية كما تجري. وفي هذا الميدان برع العرب الأقدمون براعة تفوقوا بها على معاصريهم في الغرب، مع ملاحظة أن القرون التسعة التي جعلناها فترة الإبداع العربي كانت هي نفسها عصور أوروبا الوسطى التي كثيرا ما توصف بأنها «العصور المظلمة» وتبدل الموقف حين نهضت أوروبا في القرن الخامس عشر؛ إذ وجهت نظرها العلمي إلى الطبيعة، بعد أن كان ذلك النظر موجها إلى صحف خلفها السابقون. وفي تغيير الاتجاه من الصحف وكلماتها إلى الطبيعة وظواهرها وكائناتها، اقتضى الأمر منهجا جديدا غير منهج التوليد الذي كان مستخدما في استخراج كلام من كلام، أو رموز من رموز، وعندئذ وقف العرب حيث كانوا؛ فبينما زاوج الغرب في حياته العلمية، فجمع فيها قديما مقروءا إلى جديد مرئي ومسموع؛ مضى العربي في طريقه يستأنف قديمه في جديده. على أننا لا نريد للقارئ أن يتجاهل جانبا في مرحلة الإبداع العربي، كان فيه النشاط العلمي منصبا على «موضوع خارجي» وليس على صيغ كلامية ليستولدها صيغا كلامية أخرى تنتج منها.
فإذا أقبل العربي المعاصر على حياة علمية، حاملا معه نظرة القدماء إلى العلم مادة ومنهجا، وجد الهوة عميقة بينه وبين ما يتطلبه العلم التقني «التكنولوجي» المعاصر بأجهزته التي يتوسل بها في عملية البحث العلمي، ثم بأجهزته وآلاته التي هي بدورها ثمرات صناعية ينتجها ذلك العلم. ومن هذه المسافة البعيدة بينه وبين عصره في الرؤية العلمية، يشعر بالغربة التي تؤدي به إلى النفور الرافض أو إلى القبول الحذر الخائف.
Página desconocida