Árabes de este tiempo: una nación sin dueño
عرب هذا الزمان: وطن بلا صاحب
Géneros
الإهداء
مقدمة
1 - الواقع العربي الراهن
2 - الدين والثقافة والسياسية
3 - أوروبة وأمريكة وإسرائيل
المراجع
الإهداء
مقدمة
1 - الواقع العربي الراهن
2 - الدين والثقافة والسياسية
Página desconocida
3 - أوروبة وأمريكة وإسرائيل
المراجع
عرب هذا الزمان
عرب هذا الزمان
وطن بلا صاحب
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى المثقفين الوطنيين
وشهداء المقاومة
Página desconocida
في فلسطين والعراق وأفغانستان.
حسن حنفي
مقدمة
هم الفكر والوطن، أو هم الدين والثقافة والسياسة، هم مستمر لجيلنا؛ فالأوطان مستباحة، والدين حنين إلى الماضي، والثقافة عجز عن التعامل مع الحاضر، وتخوف من المستقبل.
ومن دمشق، قلب العروبة النابض، وفي سورية التي لم تستسلم بعد لعصر التبعية والهوان، يظهر هذا الكتاب تحية من الإقليم الجنوبي إلى الإقليم الشمالي، من ذكرى الأيام العطرة، الجمهورية العربية المتحدة، 1958-1961م، وما زال صداها في القلوب.
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (الإسراء: 51).
حسن حنفي
مدينة نصر، 15 يناير 2008م
الفصل الأول
الواقع العربي الراهن
Página desconocida
من المسئول؛ الخارج أم الداخل؟
تتوالى الأحداث، وتشتد الأزمات، وتقع الإهانات في الوطن العربي يوما وراء يوم. ويعلو الصراخ، وتحرر المقالات عن قوى الهيمنة الجديدة، والعالم ذي القطب الواحد، وإمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية، والعولمة، والسوق، والحداثة، والقوة، وثورة الاتصالات. وكلها عوامل خارجية، شماعة لتعليق الأزمات والكروب والبلايا الداخلية عليها. ولما كان من الصعب تغيير العوامل الخارجية إلا على الأمد الطويل، ينتهي الأمر بقبول الأوضاع الحالية، واعتبارها قدرا لا مفر منه. ولا حل إلا الانتظار حتى تتغير الظروف الدولية، وتتبدل موازين القوى العالمية، ويتم الاستسلام للضغوط الخارجية فتصبح نظم الحكم تابعة للخارج. تتحالف معه كي تضمن سلامتها، وتأمن من العدوان عليها. ومصير العراق وأفغانستان وفلسطين والصومال ماثل للعيان، ومشهد تعليق الرئيس العراقي السابق من حبل المشنقة محفور في الذاكرة لعدة أجيال وعند رؤساء الدول.
ولا حل في العاجل إلا الدفاع عن النظم السياسية حماية للأوضاع الداخلية، والحفاظ على الاستقرار السياسي حتى لا يهرب الاستثمار الخارجي، والاعتماد على أجهزة الأمن والشرطة حماية للأمن الداخلي، واستمرار العمل بقانون الطوارئ حماية للجبهة الداخلية، واعتقال مثيري الشغب وقادة المظاهرات والاضطرابات والاتحادات، وتجديد اعتقالهم إذا ما أفرجت عنهم النيابة العامة، وتقديمهم إلى محاكم عسكرية لسرعة الفصل فيها، والحكم بإطالة مدة الحبس، وتحويل الاعتقال المؤقت لبضعة شهور إلى حبس دائم لعدة سنوات لإطالة عمر النظم السياسية، وترحيل المشاكل إلى فيما بعد حتى نهاية الزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وتستمر التبعية للخارج عن طريق التحالف معه، وقبول القواعد العسكرية، والدخول في حروبه، ومؤازرة عدوانه، وتبريره بإيجاد الشرعية له. ويستمر القهر في الداخل، والفساد في الحكم، ونهب ثروات البلاد، وبيع أصولها. فالخارج مطمئن إلى تبعية النظم له، والداخل مغلوب على أمره، يجري وراء لقمة العيش، والمعارضة إما ضعيفة نخبوية لا تستطيع تحريك الشارع، أو قوية ولكنها محظورة أو اضطرابات عمالية مهنية يستجاب لها حتى لا تتحول من مطالب فئوية مثل الأرباح، إلى مطالب سياسية تهدد نظم الحكم. وينتهي الأمر كله إلى الاستكانة وقبول الأمر الواقع لاستحالة البديل، طالما أن قلب السلطان ما زال ينبض بالحياة له ومن بعده،
قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (البقرة: 124).
والخارج لا يعتدي إلا بعد أن يكتشف المناطق القابلة للعدوان، لا يستعمر إلا إذا كان المستعمر قابلا للاستعمار. وكما يتم التنقيب عن النفط بالحفارات الأولى، وكما توجد المجسات على طبيعة التربة قبل حفرها والبناء عليها، كذلك توجد المجسات لدى قوة الهيمنة لمعرفة مدى قابلية الشعوب المستهدفة لتحقيق الأطماع، وهل هي مصمتة أم مفرغة، صلبة أم رخوة؛ لذلك يكثر جمع المعلومات عنها، ومعرفة ما لا يعرفه أهلها. ويعتمد على باحثين أوروبيين معروفين بدقة التحليل وجمع الإحصاءات، وعلى باحثين وطنيين لديهم رؤى حدسية بناء على التجارب المعاشة؛ فالحدود مفتوحة للباحثين الأجانب يجمعون ما يشاءون. ومراكز التصنت والاستخبارات وجمع المعلومات متطورة للغاية من خلال وسائل الاتصالات الحديثة.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فلا يتم العدوان على شعب من الخارج إلا إذا وجد شرعية له في الداخل مثل قهر الحاكم. وتكون الذريعة تخليص الشعب من التسلط والطغيان، وإرساء قواعد الديمقراطية. وهكذا تم غزو العراق وأفغانستان، وأخيرا الصومال، ويتم تهديد سورية والسودان وإيران. ويعلم العدو أن الشعب المعتدى عليه يريد الخلاص من حاكمه القاهر. ويزيد بعض النخبة: حتى ولو كان بيد أجنبي وعلى أسنة الرماح. بينما يفضل المناضلون الوطنيون: «بيدي، لا بيد عمرو.»
وتتعامل قوى الهيمنة مع نظم الحكم التابعة، وجرها إلى أحلاف الدول المعتدلة في مواجهة الدول المتطرفة، وتنسق أجهزة المخابرات أعمالها للطرفين، بل وتسمح بقواعد عسكرية على أراضيها بدعوى حمايتها من العدوان الخارجي من دول الجوار. وهي تعلم أن نظام الحكم هو شخص الحاكم؛ فهو الذي يقرر الحرب والسلام في غياب المؤسسات المستقلة والرأي العام القوي باستثناء فلسطين ولبنان، حيث تفرض المقاومة الشعبية سياستها على أنظمة الحكم؛ فالسلطان بؤرة الدولة وعمادها الأول، وهو صاحب القرار في الحرب والسلم، والمؤسسات التنفيذية والتشريعية تابعة له، والحزب الحاكم له السيطرة على مظاهر الحياة السياسية في البلاد. لم يستعد المثقفون الوطنيون في الداخل لإبراز ثقافة المعارضة، ومواجهة السلطان الجائر، واعتبار الشعب مصدر السلطة، وضرورة الاستشارة؛ فلا خاب من استشار، فتحسب قوى الهيمنة حسابها على أن هناك طرفا آخر في المعادلة غير رأس النظام، وهو الشعب؛ ثقافته وتاريخه وكرامته واستقلاله.
والآن يواجه الوطن العربي خطر التجزئة والتفتيت والتحول إلى فسيفساء عرقي طائفي، دويلات سنية وشيعية وكردية وعربية وبربرية وزنجية وإسلامية وقبطية ونجدية وحجازية، حتى تصبح إسرائيل أقوى دولة طائفية عرقية، وتجد شرعية جديدة لوجودها من طبيعة الجغرافية السياسية للمنطقة، بدلا من أساطير المعاد الأولى التي شرع بها هرتزل وجودها في أواخر القرن التاسع عشر. وتقع المسئولية على الداخل؛ على الثقافة العربية التي تركت مجتمعاتها عرضة للتمزق والتفتيت. ورثت نظام الملة العثماني، وتحويل الأمة إلى ملل وأعراق، ومذاهب وطوائف، سنة وشيعة، زيدية وشوافع، عرب وأكراد، مسلمين وأقباط، عرب وبربر، أرمن وموارنة، تركمان ودروز.
كل طائفة تجد هويتها في عرقها أو مذهبها؛ فغاب مفهوم المواطنة ومفهوم المواطن، والهوية الواحدة للوطن الواحد. وتركت مصطلحات الفقه القديم دون تغيير؛ أهل الكتاب، وأهل الذمة، والعادات الاجتماعية؛ نجدي وحجازي، صعيدي وبحراوي، بدوي وحضري، سود وبيض. ولم تنفع الأيديولوجيات العلمانية للتحديث ، كالليبرالية والقومية والماركسية والإسلامية المحافظة، في تحقيق الهويات الوطنية في العمق. وما زال فقه المواطنة في البداية تحمله نخبة مستنيرة من المفكرين الإسلاميين والأقباط؛ فكان من السهل رسم استراتيجية جديدة للمنطقة بأسمائها المختلفة، الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، والدخول إلى قلب المنطقة لتفتيتها، بداية بالعراق ثم السودان ثم الصومال؛ لأن الأرض تسمح بذلك.
وتركت الثقافة الموروثة تئن تحت عبء الفرقة الناجية، وهي فرقة الحكومة، والفرق الهالكة وهي فرق المعارضة، وأن الحق مع طرف واحد؛ فغابت التعددية السياسية، وعز الحوار الوطني، ووقع فرقاء الوطن الواحد في خصومات سياسية، موالاة ومعارضة، حكومة وشعب، كفار ومؤمنين، أبطال وخونة. فريق يكفر فريقا، وفريق يخون فريقا. يظل الحزب الحاكم في السلطة دون تداولها، ويبقى الرئيس مدى الحياة، ولا يترك الرئاسة إلا بموت طبيعي أو اغتيال سياسي أو انقلاب عسكري، وعرفت قوى الهيمنة ذلك بعد أن جست الأرضية التي تعمل فيها، وأيدت فريقا دون فريق، الموالاة ضد المعارضة، والأقباط دون المسلمين، والحكومة ضد الشعب، والمؤمنين ضد الكفار، أو الكفار ضد المؤمنين طبقا للمصلحة والظرف. وأيدت الجنوب ضد الشمال في السودان، والبربر ضد العرب في المغرب العربي كله، والبوليساريو ضد المغرب من أجل مزيد من تفتيت الأوطان. وجعلت نفسها حامية للأقليات العرقية والطائفية ضد اضطهاد الأغلبية لها. ونسي العرب
Página desconocida
أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29)، وجعلوها أشداء بينهم رحماء على الكفار. ونسوا المثل الشعبي: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.»
استعدت شعوب وثقافات أخرى داخليا لمواجهة المخاطر الخارجية، ومهدت أرضيتها الاجتماعية والثقافية لمقاومة الغزو الأجنبي، وأثبتت المجسات الأجنبية أن هذه الشعوب والثقافات صلبة جامدة لا يمكن اختراقها، مثل الصين واليابان وكوريا الشمالية وكوبا وماليزيا. يحمي الصين وحدتها القومية، وثورتها الاشتراكية، ومشاريعها التنموية، ومعدل زيادة نتاجها القومي بما يقارب 9٪. يخطب الجميع ودها، ويخشى من مستقبلها وفائض إنتاجها، بل ومن قوتها العسكرية. حررت هونج كونج سلميا، وبقيت تايوان. ومهما حاول الغرب الدخول من منطلق الحريات العامة وحقوق الإنسان فإنها تظل صامدة، بل وتطلب الاعتذار من دولة كبرى إذا ما أسقطت طائرتها للتجسس عليها.
واليابان مثل الصين تحافظ على وحدتها الوطنية بالديمقراطية التوافقية وبالإجماع الوطني على القضايا الكبرى. هزمت في الحرب العالمية الثانية، ولكنها انتصرت في النمو الاقتصادي وفي الصناعات الحديثة، وغزت منتجاتها أسواق العالم. وهي تستورد المواد الأولية من الغرب، والطاقة من الخليج، وليس لديها إلا العقل والإرادة.
وكوريا تقف صامدة في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية. تتمسك بحقها في امتلاك الطاقة النووية والصواريخ العابرة للقارات، وتسعى إلى توحيد شطري شبه الجزيرة الكورية بين الشمال والجنوب، وتساعد دول العالم الثالث في تنميتها الاقتصادية وصناعاتها العسكرية. وكوبا أيضا صامدة في مواجهة التدخلات الخارجية، ومحاولة قلب نظامها الوطني الاشتراكي على مدى أكثر من أربعين عاما. تنمية مستقلة، وقضاء على البطالة، وتمسك بالاستقلال الوطني بالرغم من قربها من الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبحت أحد عوامل بلورة اليسار الجديد في أمريكة اللاتينية في فنزويلا وشيلي والبرازيل وبوليفيا. وقد يؤثر ذلك في الوطن العربي عن قريب؛ فقد بدءا معا، ناصر وجيفارا، وقد يعيدا البدء معا من جديد.
ومن البلاد الإسلامية تعطي ماليزيا نموذجا لإعادة بناء الداخل في مواجهة التهديدات الخارجية، وتجهر بمواجهة الغرب الرأسمالي الصهيوني العنصري، وجعلت الإسلام أحد مكونات الدولة والهوية الوطنية. وإيران صامدة في مواجهة المخاطر الخارجية. تدافع عن استقلالها الوطني وحقها في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، أسوة بغيرها التي تجهر بالحرب والتوسع، بل إن تركية التي كانت إلى عهد قريب جزءا من الحلف الغربي أصبحت الآن أكثر استقلالا، وابتعادا عن الغرب وإسرائيل، وأقرب إلى العرب وإيران دفاعا عن حق التعددية القطبية في نظام العالم.
فمتى يبدأ العرب بترتيب البيت من الداخل، والقضاء على الفجوات والفراغات في الثقافة والمجتمع، حتى تأمن الغيلة، وتستعد للمقاومة، وتقضي على مواطن الضعف فيها؛ حتى إذا ما جستها قوى الهيمنة الخارجية وجدتها صعبة الاختراق؟
الإهانة والتحدي
1
جرت العادة في فلسفات التاريخ أن يقرن التحدي بالاستجابة؛ فكل تحد له استجابة، ولكن في الوطن العربي يقرن التحدي بالإهانة؛ فالإهانة تبدأ أولا وتتكرر وتتراكم حتى تأتي لحظة التحدي والرفض لها والانتفاضة ضدها والثورة عليها.
وفي هذه اللحظة التاريخية، مفترق الطرق، تتكرر الإهانات واحدة تلو الأخرى، وكأن المواطن أصبح بلا كرامة، والوطن بلا شعب ودولة، وأن الساحة العربية كلها أصبحت بلا صاحب تفعل فيها القوى الخارجية كما تشاء، وتلعب في أحشائها كما تريد، وتجري العمليات الجراحية واستئصال الأعضاء، وتغيير مجرى الشرايين، وزرع الأعضاء الصناعية بما في ذلك القلب كما تهوى وتخطط. والوطن في حالة تخدير، جثة هامدة، تفعل فيه يد كبير الجراحين وفريقه ما يشاء. أصبح صدر المواطن عاريا يصوب إليه من يشاء، وسماء الوطن مفتوحة يخترقها من يريد، وأرضه بلا ثغور ولا حدود، يدهسها كل غاز، مع أن مهمة الإمام في الفقه القديم «الذب عن البيضة» بتقوية الثغور والدفاع عن الحدود؛ فالوطن كالبيضة إن لم يتم الدفاع عنه انكسرت قشرتها؛ أي إرادتها، وسال بياضها بالدموع، وصفارها بالدم.
Página desconocida
تسيل الدماء في العراق بالمئات كل يوم على مدى أربع سنوات، وكأن المواطن لا وطن يحميه، ولا نظام سياسي يدافع عنه، ولا دولة تعطيه الأمان كما أعطته عبر التاريخ؛ «وا معتصماه».
وتثار النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية فيه لتؤجج نار الحرب الداخلية؛ لتهميش المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الأمريكي، وإبعادها عن الأنظار. ويقتل النساء والأطفال والشيوخ بدك المنازل بدعوى البحث عن رجال المقاومة، ويذبح الجرحى في المساجد؛ فلا حياة للمسلمين ما داموا يحبون الموت، ويعشقون الشهادة، وينالون الحياة الأبدية. ويطلق النار على كل مقاوم كما كان يطلق النار على كل شيء يتحرك في فيتنام؛ فلا مكان للأسرى بالرغم من الاتفاقيات الدولية التي تنظم قواعد الحرب ومعاملة المقاتلين والأسرى.
وتسيل الدماء في فلسطين كل يوم. تخترق المدن، وتدهم المنازل، ويحاصر الأحياء، ويؤسر المقاومون ويؤخذون في العربات المصفحة، والأيدي فوق الرءوس أمام الجند المدجج بالسلاح؛ فالوطن بلا كرامة، والسلطة بلا حضور، والمواطن بلا ستار أو غطاء يحميه. وفي نفس الوقت تطالب المقاومة بالتوقف وبنزع السلاح، والاعتراف بالعدو المحتل دون مقابل إلا بوعود كلامية؛ دولتان متعايشتان، جنبا إلى جنب.
ثم جاءت الصومال، والدول الثلاث العراق وفلسطين والصومال أعضاء في جامعة الدول العربية الاثنين وعشرين، لتقع تحت الاحتلال الحبشي بدعوى نصرة فريق على فريق، وتأييد الدولة ضد خصومها السياسيين، والدفاع عن السلم ضد الإرهاب، وعن النظام ضد الفوضى، وعن التحضر والتمدن ضد القاعدة والطالبان. وتتفشى الكوليرا لدى الفقراء بسبب الماء غير الصالح للشرب؛ فالكل يتصارع على السلطة، ولا أحد يدافع عن الشعب مع أن السلطة للشعب.
ما يحدث في دول الجوار الإسلامي، أفغانستان والشيشان وكشمير، هو امتداد لما يحدث في الوطن العربي. ويتم الغزو الأجنبي للدول الثلاث بطريقة القرن التاسع عشر، والاستعمار في أوجه، والغزو العسكري والاحتلال المباشر هو وسيلة التخاطب بين الشعوب؛ فالحق هو القوة، والقوة هي الحق. وتأتي أصوات الاستغاثة عن بعد من المسلمين في بورما وتايلاند، أصوات بعيدة تنضم إلى الأصوات القريبة في فلسطين والعراق.
ويعلق أحد الرؤساء العرب على المشنقة هو ورفاقه حتى انفصال الرأس عن الجسد بمحاكمة غير شرعية، ودفاع منقوص، وأحكام مسبقة صدرت؛ فلا مانع اليوم من اليد الطويلة، والقوة القاهرة. والقاهر للداخل لا يقوى على صد القهر من الخارج حتى لو تحالف معه، والدرس لكل رئيس عربي يخرج على بيت الطاعة.
وتظل الصورة في الذاكرة الوطنية، ولا يتحملها حتى الأطفال، فيشنقون أنفسهم طوعا في اليمن وباكستان، ويتحول الرئيس من ظل الله في الأرض إلى أسطورة في التاريخ مثل المسيح على الصليب، ويتحول الطغاة إلى شهداء.
ويعلن كل يوم عن أن القوات الأمريكية وجدت في الخليج لتبقى، وأن بقاءها ليس مرهونا بما يدور في العراق أو فلسطين أو إيران أو سورية أو لبنان، بل دفاعا عن المصالح الأمريكية في المنطقة؛ النفط وعوائده، والمواقع الاستراتيجية والأسواق ومناطق النفوذ؛ فالحرب الباردة لم تنته بعد، والإمبراطورية الأمريكية للمحافظين الجدد مشروع متواصل، من رئيس إلى رئيس، ومن إدارة إلى إدارة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اندلاع الحرب العالمية الثالثة. ويعلن عن بناء أكبر قاعدة عسكرية في شمال العراق للتنسيق مع قاعدة إنجرليك في تركية لحصار الاتحاد السوفيتي من الشمال والجنوب؛ فالأرض لا صاحب لها. وكما فعلت الصهيونية في فلسطين وبداية الهجرات اليهودية منذ أوائل القرن الماضي، شعب بلا أرض في أرض بلا شعب، وتبني قاعدة ثالثة في قازخستان، أكبر قاعدة في آسيا، حتى يتم حصار آسيا كلها من الجنوب والغرب؛ الشمال جليد، والشرق الصين هي الهدف من الحصار.
ويتم تهديد سورية ولبنان وإيران كل يوم؛ فسورية تؤيد المقاومة في العراق وطريق إيصال الأسلحة إلى حزب الله في جنوب لبنان، وترفض الصلح مع إسرائيل، والجولان محتل، وهي آخر من تبقى من النظام العربي القديم والمشروع القومي العربي في مناهضة الاستعمار والصهيونية في الخارج، وتحقيق الوحدة والاشتراكية في الداخل. والمطلوب من المقاومة في لبنان نزع السلاح وجزء من التراب الوطني ما زال محتلا، ومطلوب أيضا التخلي عن القضية الفلسطينية والهم العربي، وأن تكون جزءا من المشروع الأمريكي الصهيوني للبنان والوطن العربي. وتهدد إيران لأنها تجرأت على الدفاع عن إرادتها الوطنية، وحقها في امتلاك الطاقة النووية حتى للأغراض السلمية، وأربعون دولة تمتلك هذه الطاقة، ومن دول الجوار من حولتها إلى سلاح نووي في إسرائيل والهند وباكستان وكوريا في الشرق، وأمريكة لا تهددها بالعدوان طبقا للمعيار المزدوج الذي يمارسه الغرب في سياساته الداخلية بين البيض والسود، بين المواطنين والمهاجرين، وفي سياساته الخارجية بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية. ويطالب لبنان بقبول محكمة دولية للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء السابق تحقيقا سياسيا، وليس جنائيا، مع تجاوز نظام القضاء اللبناني. وفي نفس الوقت تتم تبرئة دولة صربية من جرائم البوسنة والهرسك، وذبح الآلاف من المسلمين في المناطق الآمنة التي أعلنتها الأمم المتحدة. ولا يتم التحقيق دوليا في اغتيال عالم الذرة المصري المشد، ولا في وقوع الطائرة المصرية المدنية بالقرب من نيويورك، ولا في اغتيال إسرائيل لأبي جهاد في تونس، أو أبي عمار في رام الله، أو في مقتل مئات من المصريين العزل الأسرى في سيناء في عدوان 1967م، أو في العدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان، أو الإسرائيلي على فلسطين، أو الروسي في الشيشان، أو الهندي على كشمير.
تستمر الإهانات بخضوع النظم السياسية لإرادة الأجنبي المحتل، مثل تأييد خطة بوش الأخيرة لتحقيق الأمن في العراق، والمقاومة تزداد كل يوم وتشتد، وتقبل دول عربية مركزية أن تكون طوقا للاعتدال ضد مخاطر نظم عربية أخرى أو مع دول الجوار متهمة بالتطرف؛ فيقسم الوطن العربي إلى محاور ومناطق نفوذ طالما قاومها في تاريخه الحديث قبل الثورات العربية في النصف الأول من القرن العشرين، أو بعدها في النصف الثاني منه. وأخيرا نشأ طوق آخر من دول سنية لإحكام الطوق حول الدول الشيعية لقسمة العالم الإسلامي قسمة داخلية، بدلا من مواجهة العدوان والهيمنة الخارجية. وتحولت دول الطوق من حصار إسرائيل إلى حصار إيران.
Página desconocida
تستمر الإهانات وتزداد يوما وراء يوم، فيتعود عليها المواطن فيقبلها، ويستسلم لها، ويعتبرها القاعدة وليس الاستثناء، وتتأثر نفسية الشعوب وتفقد احترامها لذاتها، وتتعود على الإهانة وهي تصارع من أجل لقمة العيش وغريزة حب البقاء، وتتحول الإهانات المتكررة إلى ذاكرة جماعية، وتخلق وعيا تاريخيا بالرضا والقبول والاستكانة والاستسلام للأمر الواقع، ويصاب بالفتور واللامبالاة كما وصف الكواكبي في «أم القرى»، وينعزل المواطن والشعب عن العالم، وينكمش على ذاته، ويتحول إلى محميات كما حدث للهنود الحمر في الولايات المتحدة، بعد أن تعود على العجز، ووجد مهربا له وخلاصا في الطرق الصوفية وقيم الفقر والصبر والرضا والتوكل والقضاء والقدر والاستسلام.
ومع ذلك فالكرامة الإنسانية والاحترام الذاتي جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني، يحميه من الضياع والاندثار. يتمسك به بالقلب وإن استعصى الكلام باللسان أو التغيير باليد، يظهر في مقاومة المثقفين الوطنيين ومظاهرات الطلاب، ويندلع بين الحين والآخر في الحركات الشعبية للعمال والنقابات والاتحادات، وينفجر في الانتفاضات الشعبية مثل انتفاضة الخبز في يناير 1977م، وانتفاضة الفقر للأمن المركزي في يناير 1986م، ويتفجر في الثورات الوطنية مثل ثورة عرابي في 1882م، وثورة 1919م، وثورة يوليو 1952م.
فكما أن كل تحد له استجابة، فكذلك كل إهانة لها تحد،
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (الإسراء: 51).
الاتجاه المعاكس أم الاتجاه المغاير؟
2
من أهم البرامج الإعلامية الذائعة الصيت في أهم القنوات الفضائية العربية التي أحدثت قفزة إعلامية في الإعلام العربي، والذي يراه الملايين من العرب، برنامج «الاتجاه المعاكس»، وهو من حيث الشهرة والذيوع له كل التقدير، يثير الذهن، ويدفع إلى التفكير، ويحرك المياه الراكدة في ثقافة غلب عليها الرأي الواحد، والفرقة الناجية، والإعلام الحكومي.
يفضح المواقف التي تقبل التطبيع مع إسرائيل، والتي تود تكرار النموذج العراقي، الغزو الأمريكي، تخليصا للوطن العربي من النظم التسلطية، وتحريرا له من القهر والطغيان. ويكشف عن أهداف الليبرالية الجديدة التي تريد وراثة الليبرالية القديمة التي سادت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، والقومية العربية والاشتراكية التي حملتها ثورات الضباط الأحرار في النصف الثاني منه. كما يتمتع بحيوية فائقة تشد الأنظار إليه، وتجعل المواطن العربي يثق بإعلامه بعد أن أشاح بوجهه عنه؛ لأنه تعبير عن النظم السياسية التي يعاني منها الأمرين، والتي تبدأ بأخبار الرئيس وحرم الرئيس وكل رجال الرئيس.
تتمثل فيه القدرة على الهجوم والدفاع والجدل والسجال والتوثيق والاطلاع على آخر التقارير والمقالات لتدعيم وجهتي النظر، ويتعرض للموضوعات التي تختلج في قلب كل عربي، والتي لا يجرؤ الحديث عنها بصوت عال مسموع؛ الغزو الأمريكي للعراق، نفط العراق، المقاومة العراقية، تدمير العراق، فتح وحماس، مؤتمرات القمة العربية، القدس ... إلخ.
أصبح البرنامج الرئة التي يتنفس بها كل عربي في عصر بلغت فيه القلوب الحناجر، والعقل الذي يفكر به كل عربي في زمن ساد فيه الإعلام الرسمي، ورفعت الشعارات في بعض المطارات: «لا تفكر، نحن نفكر لك.» والعين التي يشاهد بها كل عربي في وقت غمضت فيه الأعين، والأذن التي يسمع بها كل عربي بعد أن صمت الآذان بالرغم من علو الضجيج وشدة الصخب، وسيادة الضوضاء.
Página desconocida
ومع ذلك قد ينتهي «الاتجاه المعاكس» إلى عكس ما يهدف إليه. وبقدر ما يحقق من نجاحات يحقق من إخفاقات، وبقدر ما يعطي الزهو بالإعلام العربي يسبب الإحباطات في النفس العربية بعد أن اختلف الرفاق، وتقاتل المتخاصمون، وتلاعن المختلفون، دون وحدة تجمعهم إلا شد الأيادي من الأخ مقدم البرنامج بعد أن كادا يتشابكان بالأيدي وهو يفرق بين المتقاتلين .
لا توجد نقطة التقاء بين الاتجاهين المتعاكسين، أحدهما ضد الآخر ونقيضه. يهدم الأول ما يبنيه الثاني، ويهدم الثاني ما يبنيه الأول. ويبدو المثقفان العربيان وكأنهما لا ينتسبان إلى وطن عربي واحد، بل وإلى قطر عربي واحد. أحدهما أمريكي غاز، والآخر وطني مقاوم. الأول إسرائيلي تطبيعي، والثاني مناضل يبغي الشهادة. الغاية الهدم المتبادل للشيء ونقيضه، والاستبعاد والإقصاء. وقع في ثنائيات حادة بين البطولة والخيانة، والوطنية والعمالة، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والخير والشر، والملاك والشيطان. ويشتد الاستقطاب بين الفريقين المتنازعين؛ هذا سلفي وذاك علماني، ولا سبيل للالتقاء بينهما في الإسلام المستنير. هذا مقاوم للتطبيع وذاك من أنصاره، ولا سبيل للالتقاء بينهما في مبادرة السلام العربية؛ الأرض مقابل السلام. فيصبح الحوار حوار الطرشان، ويزيد من كب الزيت على النار، ويكون أشبه بنقار الديوك، كل من الفريقين ينقر الآخر في رأسه حتى يسيل دمه.
وتتبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة، بالصدامية والأمريكية، بالقهر والاحتلال. ويصل الأمر إلى التجريح الشخصي، وإعلان السيرة الخفية لكل طرف، والكشف عن سلوكه؛ فالأمر ليس فقط اتجاها معاكسا، بل سلوك نقيض. ويظهر المفكرون والمثقفون كأبطال إعلاميين مثل مشايخ الفضائيات، وينالون من الشهرة الكثير من شهرة البرنامج. ويفسح المجال للصحفيين والكتاب ليزدادوا شهرة بعد أن عزت القراءة لحساب المشاهدة. ويظهر كل طرف قدراته الشخصية في الهجوم على الآخر، والدفاع عن النفس، واتهام الغير، وتبرئة النفس. ويضيع الموضوع لصالح الشخص، ويقضى على الموضوعية لصالح الذاتية، ويتحول الفكر كله إلى ثنائيات متعارضة متضادة كما هو الحال في المانوية القديمة التي لا يلتقي طرفاها؛ النور والظلمة، والفضيلة والرذيلة. وهو عكس ما يهدف إليه التوحيد في لقاء الأطراف؛ الله والعالم في العناية، الدنيا والآخرة في العمل الصالح، الخير والشر في النفس، الأصل والفرع في القياس، الصواب والخطأ في الاجتهاد. وفي المواقف الحدية يلتقي الطرفان في الباطن وإن تناقضا في الظاهر؛ فكلاهما إطلاقي، كل منهما يمثل الفرقة الناجية، والآخر الفرقة الهالكة. وهو ما تعاني منه الثقافة بسيادة الرأي الواحد، وما تعاني منه السياسة بسيادة الحزب الحاكم، والبقاء في السلطة مدى الحياة.
والخطورة تساوي الطرفين، الشيء ونقيضه، لا غالب ولا مغلوب؛ مما يوقع المواطنين في الحيرة. لكل طرف حججه ومنطقه؛ الفلسطيني والإسرائيلي، العراقي الوطني والعراقي الأمريكي؛ مما يصيب المشاهد بالحيرة واليأس، فيتوقف عن التفكير والفعل، أو يأخذ جانبا ضد آخر، فتنشق الأمة إلى فريقين متصارعين، ويزداد تقسيمها وتفتيتها وتفرقها وتشيعها إلى فرق وأحزاب متناحرة.
وتستعمل كل أساليب الإقناع اللغوية والحركية؛ فقد تحول البرنامج إلى مسرحية تشد الانتباه، وأحيانا إلى سيرك بين المتقاتلين المتناطحين، يتفوق فيها البطل على خصومه، ويهزم فيها الخير الشر. ويخشى من ذلك على سؤال: أين المعركة؛ في الذهن أم في الواقع؟ على المسرح أم في الميدان؟ في «التليفزيون» أم على الأرض؟ وقد يشيع ذلك في المشاهدين الرغبة في الانتصار، والتوق إلى النصر؛ تعويضا عن الإحساس بالهزائم المتكررة منذ 1948م؛ احتلال فلسطين، حتى 2003م؛ احتلال العراق، والعجز عن المشاركة وصنع النصر. قد تعطي الإحساس بالطمأنينة بأن العرب أصحاب معارك، وهو يسمع «يا أهلا بالمعارك!» وأنها معارك متساوية بين الأطراف. المهم أن يشد الحيل لمزيد من الكلام والبلاغة وحسن القول وقوة الإقناع؛ مما دفع بأحد المستشرقين المعاصرين إلى الحكم على العرب بأنهم «ظاهرة صوتية».
أليس من الأفضل منطق الحوار، وآداب الحوار دون تكفير طرف لطرف أو تخوين طرف لطرف
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (سبأ: 24)؟ أليس من الأفضل الوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق بين فرقاء الوطن الواحد وهو الوطن؛ فالوطنية هي الحل، وليست الاختيارات السياسية المسبقة، أو المصالح الشخصية غير المعلنة، أو الأهواء والانفعالات التي تخفي الهويات البديلة الطائفية أو العرقية في غياب الهوية الوطنية أو القومية؟ ولصالح من شق الصف الوطني، وضرب الاتجاهات الفكرية والاختيارات السياسية بعضها بالبعض الآخر، وزيادة الفرقة والتشتت وهي سمة الآخرين
بأسهم بينهم شديد (الحشر: 14)، وليس سمة المواطنين
أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29).
إن التعددية السياسية والفكرية لا تعني التضارب والتناقض والتناطح، بل السماح بأكبر قدر ممكن من المداخل النظرية للموضوع العملي الواحد؛ فالحقيقة النظرية وجهة نظر، رأي، منظور ، رؤية، في حين أن الحقيقة العملية، تحقيق المصالح العامة، واحدة. على هذا الأساس أجمع الفقهاء على أن الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد، «كلكم راد وكلكم مردود عليه.» وكان الرسول
Página desconocida
صلى الله عليه وسلم
يقول لأبي بكر: «يا أبا بكر، انزل قليلا. وكان يقول لعمر: يا عمر، اصعد قليلا.» فقد كان أبو بكر يتمسك بالنص والمبدأ، وعمر يدافع عن الواقع والمصلحة.
إن أحد أسباب المواقف الحدية هو الانفعال والهوى، وأحد أسباب المواقف التوحيدية هو العقل والواقع. أيهما أفضل إذن؛ الاتجاه المعاكس أم الاتجاه المغاير؟ فالمعاكس مناقض ونقيض في النظر وفي العمل، والمغاير مجرد خلاف في النظر دون خلاف في العمل.
القهر الاجتماعي
3
تتعدد أنواع القهر كما تتعدد أسباب الموت، والنتيجة واحدة؛ فالموت موت نفسي. وأشهر أنواع القهر هو القهر السياسي، علاقة الحاكم بالمحكوم في نظم الحكم التي تقوم على التسلط وكبت الحريات العامة، والتفرد بالقرار، وهو ما سماه ابن رشد «وحدانية التسلط». كما تقوم على تزييف الانتخابات، وأجهزة الأمن، وقوانين الطوارئ، والاعتقال والسجن بلا محاكمة. وهي النظم الأيديولوجية التي تحكم باسم الحقيقة المطلقة، دينية أو سياسية، الفرقة الناجية الواحدة التي في الحكم في مقابل الفرق الضالة الهالكة التي في المعارضة.
وهناك القهر الديني والثقافي، ويقوم على إجبار الناس على الإيمان بعقائد دينية، سنية أو شيعية، أو سياسية معينة، اشتراكية أو قومية، نازية أو فاشية، كما حدث في التاريخ بإجبار الناس على القول بخلق القرآن، أو انبساط الأرض دون كرويتها، أو مركزيتها ودوران الشمس حولها، وإجبار الناس على اتباع تأويل معين للنص الديني، أو التضييق عليهم في السلوك اليومي باسم تطبيق الشريعة، بل ويحدث ذلك أيضا في الفنون والآداب، وليس فقط في العلوم والديانات، وإجبار صغار المبدعين على اتباع مذهب معين في الفن والأدب.
وهناك أيضا القهر الاقتصادي، قهر الفقر والضنك والعوز والحاجة. يشعر به العامة قبل الخاصة. هو قهر رغيف العيش والقوت اليومي الذي يدعو إليه المسيحيون في الصلاة الربانية : «أعطنا خبزنا اليومي.» والذي من أجله قال عمر بن الخطاب : «والله لو كان الفقر رجلا لقتلته.» وهو ناشئ عن سوء توزيع الثروة في البلاد، ويؤدي إلى الغش والاحتيال لدى الأغنياء ليزدادوا غنى، ولدى الفقراء من أجل غريزة حب البقاء. وبسببه تقوم الهبات الشعبية وثورات الجياع.
والأخطر من ذلك كله القهر الاجتماعي، قهر العرف والعادات والتقاليد الذي نقده القرآن الكريم
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (الزخرف: 23)، وفي آية أخرى
Página desconocida
مهتدون (الزخرف: 22)، وعلى هذا الأساس لم يعتبر الأصوليون القدماء التقليد مصدرا من مصادر العلم مثل الحس والعقل والخبر الصحيح، وثار المصلحون الدينيون المعاصرون كالشوكاني والأفغاني ومحمد عبده، أو الليبراليون مثل الطهطاوي، على التقليد، وجعلوه أحد أسباب التخلف الاجتماعي والانحطاط الحضاري.
اتباع التقاليد هو اتباع القدماء بالرغم من القول المأثور الذي يعزى إلى أفلاطون، كما ينسب إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم : «لا تؤدبوا أولادكم بآدابكم؛ فقد خلقوا لغير زمانكم.» القدماء هم الأوائل، عاشوا في الماضي، وتغير الزمن، ولكل زمن عاداته وتقاليده وأعرافه.
كثيرا ما كتب علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا عن تطور العادات الاجتماعية، وتغير التقاليد. هي تعبير عن سلوك الناس في كل وقت، والزمان متغير، والتقاليد تتغير بتغيره. التقليد اشتقاقا يعني الاتباع، في حين أن التجديد يعني الإبداع. ويتهم أنصار التقليد أنصار التجديد بالابتداع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ فيؤثر الناس السلامة والاتباع عن غير اقتناع.
ويتبع الناس العرف، وهي العادات الشعبية السائدة، وتسود الأعراف الطبقات الشعبية مثل طهارة الإناث، وما تسببه من قهر نفسي للأنثى منذ الطفولة حتى البلوغ. ويتبع الناس العادات الاستهلاكية في الأعياد، مثل مأكولات رمضان ومشروباته وكعك العيد، بما لا تطيقه ميزانية الأسر، وضرورات التباهي والتفاخر بين الناس. وقد يؤدي ذلك إلى جرائم بين الرجل وزوجته. وهي عادات وأعراف من وضع المجتمع وتطوره عبر التاريخ لتوظيفها اجتماعيا لخلق دين شعبي مواز للدين الشرعي، يلهي الناس ويبعدهم عن ظلم الحكام.
وتحول التيارات المحافظة في المجتمع هذه العادات والأعراف إلى ثوابت، مع أنها متغيرة بتغير المجتمع. ومنها عادات ترجع إلى عصر الصحابة والفتنة الأولى مثل التلاعن، وأقوال مأثورة مثل: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» وأدبيات طاعة الحكام وعدم الخروج عليهم، وإلا كان الجزاء القتل. الثوابت هي القيم الإنسانية العامة التي لا تتغير بتغير الزمان، مثل حقوق الإنسان، واحترام النفس، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، والحريات العامة، والشورى، والمصالح العامة. وهي المقاصد العامة التي تقوم عليها الشريعة؛ الحفاظ على الحياة والعقل والدين والعرض والمال. الحياة هي الحاجات الأساسية للناس من طعام وشراب ولباس وسكن وتعليم وعلاج، والعقل هو حق الإنسان الطبيعي في المعرفة والفكر والنظر، والدين هو الثوابت العامة التي يجتمع عليها الفقهاء، والعرض هو الكرامة الشخصية والوطنية، والمال هو الثروة الفردية والثروة العامة.
وقد وضعت بعض المجتمعات التقليدية عدة قوانين للضبط الاجتماعي لمنع تحركه، مثل قانون العيب، وقانون الاشتباه؛ وقوانين حماية المجتمع والأمن والاستقرار السياسي، مثل قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب، مهمتها إرهاب الناس وتخويفهم، ومنعهم من السلوك الطبيعي التلقائي القائم على الثقة بالنفس واحترام الآخرين، ثم تحولت هذه القوانين إلى عادات وتعبيرات، مثل: «عيب عليك»، «يا عيب الشوم»، «حشومة»، «اختشي»، «يا نهار أسود»، «يا دهوتي»، «يا مصيبتي». وأصبح كل خروج على هذه القوانين انحرافا وشذوذا.
ولما كان المجتمع يتقدم بصرف النظر عن أساليب الضبط الاجتماعي، تنقسم الحياة إلى ظاهر يتبع التقاليد والأعراف والعادات، وباطن يتبع تطور الحياة وتغير قواعد السلوك الاجتماعي، فتنشأ مظاهر النفاق والرياء والتظاهر والكذب. قول باللسان لا يقتنع به القلب، وسلوك في الظاهر لا ينم عن إيمان بالباطن. وتصبح الحياة كلها حجابا في الظاهر، وسفورا في الباطن. كما تنشأ ظواهر الكبت وأمراض القهر النفسي وقمع الرغبات، ويعيش الإنسان بشخصيتين، ويقابل المجتمع بوجهين؛ وجه يرضاه المجتمع، ووجه آخر يرضاه الفرد، لا يجرؤ على التعبير عنه صراحة. ويكون له سلوكان:
سلوك اجتماعي علني، وسلوك آخر فردي سري. الأول كاذب، والثاني صادق. فإذا ما تجرأ أحد على الإعلان والتمسك بالوجه الواحد والسلوك الواحد والشخصية الواحدة تم إقصاؤه واستبعاده واتهامه بالردة والكفر، وكان جزاؤه القتل الصريح. ويؤثر البعض السلامة والرضا بالسلوك الاجتماعي، وينغمس في الدنيا ينهل منها بالحلال، والأرزاق مقدرة مسبقا.
ومع ذلك ظهرت نماذج ثائرة على هذا القهر الاجتماعي في التاريخ، في كل عصر، وفي كل ثقافة، ولدى كل شعب. ثار سقراط على تعدد الآلهة عند الأثينيين، فاتهم بإفساد الشباب، وحكم عليه بالموت سما، ورفض الهرب درءا للظلم، وهو رذيلة، طاعة لقوانين البلاد، وهي فضيلة. وثار ديكارت على عادات العصر الوسيط في التفكير والتعلم. وثار اسبينوزا على العقائد اليهودية، مثل شعب الله المختار وأرض المعاد. وحرق جيوردانو برونو حيا في روما لأنه قال بعقيدة مخالفة للفلك السائد ولتصور الإنسان. وثار مارتن لوثر على الكنيسة رافضا توسطها بين الإنسان والله، واحتكارها لتفسير الكتاب المقدس، وتبعيتها لسلطة الآباء الأولين. قدم المفكرون الأحرار الذين رفضوا عادات وتقاليد وأعراف القدماء أمام محاكم التفتيش في أواخر العصر الوسيط الأوروبي، وكان جزاؤهم القتل أو الحرق أو التعذيب أو النفي أو السجن.
Página desconocida
وفي تاريخنا القديم حدث نفس الشيء؛ فقد ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أسفل المنبر لأنه كان معارضا للحكم الأموي، ويقول بقدرة الإنسان على الاختيار. وقتل أبو نواس بتهمة الزندقة. وصلب الحلاج بتهمة الخروج على العقائد. وذبح السهروردي لقوله بحكمة الإشراق.
كانت كل حركات التجديد والتحديث والنهضة والإصلاح والتغير الاجتماعي والنهضة الحضارية والثورة ضد القهر الاجتماعي بالرغم من سطوته، وكان الاستسلام للقهر الاجتماعي أحد أسباب الركون والخمول والتأخر والانحطاط. لا تقوم نهضة على قهر، ولا تقدم على تقليد، ولا ثورة على تسليم. في لحظات الانتصار يتم تغيير التقاليد، وفي لحظات الانكسار تتم المحافظة عليها حماية للمجتمعات. وهي حماية وقتية بالانكفاء على الداخل لحماية النفس بعد أن ضاع العالم. ولما كان المجتمع العربي يمر الآن بمرحلة انكسار، باستثناء المقاومة في العراق وفلسطين، اشتد القهر الاجتماعي. ولما كان أيضا يتوق إلى الانتصار، يكون تحرره من القهر الاجتماعي قريبا.
التناقضات الهدامة
ما زال الغرب هو الذي ينتج المفاهيم ونحن نشرحها. ما زال الغرب يزهو عليها بأنه وحده القادر على التنظير المباشر للواقع وإنتاج المفاهيم والنظريات، في حين أننا ما زلنا نعتمد على النصوص القديمة كحجة سلطة نفسر بها أوضاع العالم، وتحدد لنا موجهات السلوك. ما زلنا نعتمد على الأيديولوجيات الجاهزة، الإسلامية أو القومية أو الليبرالية أو الماركسية، لتفسر لنا العالم، وتحدد لنا اتجاهات التحرك فيه.
فقد أنتجت أمريكة مفهوم «الفوضى الخلاقة»، وتعني بها تفجير التناقضات في الوطن العربي والعالم الإسلامي بحيث يتفتت الكل، ويصبح كل جزء نقيض كل جزء كما هو الحال في القنابل العنقودية، فتتناثر الأجزاء وتتباعد بعد أن يصطدم بعضها بالبعض الآخر في اتجاهات عشوائية لا يمكن ضبطها مهما بلغت ضربات العصا للاعب الماهر، ويتحول الجسد العربي الإسلامي إلى شظايا يصعب جمعها من جديد في جسد واحد بعد أن تبتلع القوى النشطة في المنطقة، مثل إيران أو تركية أو إسرائيل، بعضا منها إلى غير رجعة، كما ابتلعت القوى الكبرى ممتلكات الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وابتلعت روسية القيصرية في القرن التاسع عشر، ثم روسية الاشتراكية للجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا بعد ثورة أكتوبر 1917م. وما زالت ظواهر التفتيت والتقسيم للإمبراطورية العثمانية قائما.
ظن العرب أن القومية العربية هي البديل عن دولة الخلافة تحميهم من التقسيم، فاحتلت بلاد العرب، واستبدل العرب بالسيد الإسلامي السيد الغربي، ولم تستطع الجامعة العربية إعادة جمع الأقسام إلا على مستوى النظم السياسية المتناقضة فيما بينها، ولم تستطع القومية العربية كحركة تحرر وطني إلا تحرير الأوطان بمساعدة الشقيقة الكبرى. وبعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م، لم تستطع القومية العربية حماية الشقيقة الكبرى ولا فلسطين ولا روسية ولا لبنان. واحتلت فلسطين كلها؛ نصفها في العصر الليبرالي في 1948م، والنصف الآخر في المد القومي في 1967م، ثم وقعت حرب الخليج الأولى، وظهر التناقض المفتعل بين القومية العربية التي احتجت بها العراق والثورة الإسلامية في إيران، ثم وقعت حرب الخليج الثانية، وتحولت القومية العربية من مدافع عن الأوطان إلى محتل لها، وأصبح العدو للكويت هو العراق واقعا، وليست إيران وهما، أو إسرائيل أو الولايات المتحدة فعلا.
بدأت التناقضات الهدامة بالتناقض بين المقاومة الفلسطينية والنظم السياسية العربية كما حدث في أيلول الأسود في الأردن عام 1970م. ظهر التناقض بين المقاومة كحركة شعبية والنظام السياسي كدولة مستقلة تفرض سيادتها على مجموع أراضيها. وهو التناقض الذي ضحى عبد الناصر بحياته من أجل حله والتخلص منه في نفس الشهر عندما أراق العربي دم العربي.
ثم وقع تناقض آخر بعد إنشاء السلطة الفلسطينية إثر اتفاق مدريد وأوسلو بين فصائل المقاومة والسلطة الجديدة، بين الثورة والدولة، وكلاهما شرعيان، ثم وقع التناقض بين أهم فصيلين للمقاومة؛ فتح وحماس. أراق فيها الفلسطيني دم الفلسطيني، وما زال الوضع متفجرا. وتسيل الدماء بعد أن تفشل محاولات إيقاف النزيف في مكة والقاهرة.
وحاول البعض إيقاع التناقض بين حزب الله والدولة اللبنانية، حرب تموز (يوليو) العام الماضي؛ فقد دمرت لبنان بسبب خروج المقاومة على شرعية الدولة، حربها وسلامها ومبادرتها واستقلالها، ولم يشفع لها رصيدها السابق في تحرير الجنوب، ثم يقع تناقض ثان الآن بين فتح الإسلام والجيش اللبناني الذي ظهر بعد طول صمت، وأراق العربي دم العربي من أجل استئصال المقاومة بالرغم من أخطاء بعض عناصرها، كأحد مراحل تصفية المقاومة في لبنان، مرة في الشمال ومرة في الجنوب، ومرة في الشرق، في البقاع وغلق الحدود مع الشقيقة سورية.
وبصرف النظر عن المقاومة في لبنان يقع تناقض أشمل داخل لبنان بين الاستقلال الوطني والتبعية للغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وينزل الفريقان إلى الشارع للاعتصام وللاصطدام، فيسيل الدم اللبناني بيد اللبناني، وتشل الحياة السياسية؛ فريق ضد المحكمة الدولية احتراما لسيادة لبنان، وآخر مع المحكمة الدولية لإدانة سورية كمقدمة للهجوم عليها وتصفية نظامها، الذي ما زال يرفض المخطط الإسرائيلي الأمريكي لتصفية مقاومته؛ فسورية هي الجسر بين إيران ولبنان؛ فقد نجح التهديد الأمريكي بإخراج القوات السورية من لبنان، وما زال التهديد موجها إلى سورية حتى يقل تأثير إيران في الوطن العربي، سورية والعراق ولبنان؛ فسورية راعية الإرهاب في لبنان، وإيران مورد السلاح الرئيسي إلى المقاومة في جنوب لبنان.
Página desconocida
ويقع تناقض آخر بين المقاومة الفلسطينية والعراق عندما أيدت المقاومة حرب الخليج الثانية والعدوان العراقي على الكويت؛ نظرا لوجود خمسة وثلاثين ألفا من المقاومة الفلسطينية في العراق، بناها العراق. والمقاومة الفلسطينية في النهاية تدين بالولاء للقومية العربية بالرغم من انتماءاتها الإسلامية. تجمع بين الوطنية والقومية والإسلام، الدوائر الثلاث، ميادين التحرك للتحرر الوطني العربي. كانت المقاومة الفلسطينية مع الثورة الإسلامية في إيران في بدايتها، وكان من الصعب عليها أن تأخذ موقفا في صف هذا الفريق أو ذاك، وبعد مرحلة الرومانسية الأولى في الثورة الإسلامية والمقاومة الفلسطينية عادت الحسابات السياسية التي قد تخطئ أو تصيب في الانحياز إلى أحد طرفي التناقض، وهو اختيار حر.
وانعكس ذلك على الوجود الفلسطيني في الخليج؛ فشعب فلسطين وعمال فلسطين لا بد أن يعاقبوا بسبب مواقف المقاومة الفلسطينية في حرب الخليج الثانية. ونشأ تناقض فرعي بين الوجود الفلسطيني والوجود المصري والوجود السوري في تولي الوظائف في الخليج، والكل يأكل من خشاش الأرض. وبدأ الترحيل للفلسطينيين إلى الوطن المحتل، أو إلى أوطان بديلة.
وظهر التناقض بين ما تبقى من نظم قومية والوجود الفلسطيني في ليبيا؛ فعلى العمال الفلسطينيين الرحيل إلى الدولة المقاومة التي لم تقم بعد، وما زالت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، وإلى الوهم منها إلى الحقيقة. وموريتانيا تعترف بإسرائيل، وتقيم علاقات دبلوماسية معها، وهي ليست من دول الجوار؛ بناء على ضغوط أمريكية لإيقاع التناقض داخل الشعب الموريتاني بين مقاومة التطبيع وأنصاره كما وقع التناقض في جيش علي بين رفض التحكيم وقبوله، ثم تفتح مكاتب اتصال أو مكاتب تجارية في بعض دول الخليج وفي بعض دول المغرب العربي بحجة التجارة، أو عودة اليهود المغاربة إلى أوطانهم، كما يقع التناقض بين الشقيقة الكبرى والفلسطينيين المقيمين حول صعوبات الإقامة، والحصول على تأشيرات الدخول، وتحديد النشاط الساسي، أسوة بنشاط المعارضة من المصريين.
وتمتد التناقضات الهدامة خارج نطاق فلسطين ودول الجوار إلى تناقضات طائفية ومذهبية وعرقية في شتى أرجاء الوطن العربي، أكراد وتركمان وعرب في العراق، وبداية التطهير العرقي والترحيل، وعرب وبربر في دول المغرب العربي، وسنة وشيعة في العراق وباقي دول الخليج، ومسلمون وأقباط في مصر، ودروز وأكراد وعلويون ونصيريون وسنة في سورية، وموارنة وسنة في لبنان، وشماليون وجنوبيون في اليمن، زيدية وشوافع، وشماليون وجنوبيون وشرق وغرب في السودان حتى يبقى القلب وحيدا بلا أطراف، ونجديون وحجازيون في المملكة العربية السعودية، تقليديون ومجددون، محافظون وليبراليون، وقوميون وإسلاميون وقطريون في الكويت، وإسلاميون وعلمانيون في مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وقبائل متناحرة على الجوع والجفاف في إريتريا والصومال، والحبشة لهما بالمرصاد.
لا يحمي الأوطان من هذه التناقضات الهدامة إلا وحدة الأوطان والولاء الوطني؛ فالوطنية هي الحل بصرف النظر عن تعدديتها العرقية والطائفية والمذهبية. ولما كان حدود الأوطان مصطنعة من بقايا الاستعمار القديم، فإن القومية العربية قد تكون هي الحل للم شمل الوطن العربي، ورفع التناقضات الهدامة فيه كما كان الحال في المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات، وكما جسدته الناصرية؛ أكبر تجربة قومية في تاريخ العرب الحديث قبل الوحدة اليمنية بين شطري اليمن. وقد يكون التجمع الثقافي هو الحل؛ الثقافة الإسلامية التي جعلت الوطن العربي بؤرة عالم إسلامي أوسع يتبرك به، ويسعى إليه لتعلم اللغة والثقافة والتراث المشترك. قد تكون التجمعات الإقليمية هي الوسيلة لحماية الوطن من التفتيت والتمزق، مثل تجمع مصر وإيران وتركية لحماية المنطقة من التجزئة الداخلية والعدوان الخارجي.
وتتطلب هذه البدائل الوحدوية كلها خيالا سياسيا قادرا على تجاوز الواقعية السياسية المرة، التي هي أقرب إلى الاستسلام منها إلى المقاومة. يتطلب نخبة ثورية جديدة بدلا من النخب الحاكمة التي طال عليها الزمن، أو إرادة شعبية قوية تفرض نفسها على مسار الأحداث،
ورحمتي وسعت كل شيء (الأعراف: 156).
غياب الوعي التاريخي
تهيج الذكريات في يونيو (حزيران) من كل عام؛ ذكريات الألم والمرارة والهزيمة من النكبة الثانية. ضاعت نصف فلسطين في العصر الليبرالي في 1948م، وضاع النصف الثاني في العصر القومي الاشتراكي في 1967م. ويقتتل الرفاق، حماس وفتح، في العصر الإسلامي. والماركسيون إما في السجون، أو عند الله، أو ما زالوا يحللون أو ينظرون. وتهيج الذكريات أكثر إذا ما انقضى عقد أو فاتت عقود من الزمان؛ فنحن الآن في الذكرى الأربعين، يونيو 1967م.
الاحتلال ما زال على الأرض فيما تبقى من فلسطين وعلى الجولان وفي جنوب لبنان، وسيناء منزوعة السلاح، وإسرائيل تفعل ما تشاء في فلسطين ضد المقاومة بعد أن قص ريش العرب حول مصر، وحوصرت مصر داخل حدودها من عدو بلا حدود. أمريكة حدودها العالم كله، وإسرائيل حدودها ما يستطيع جيش الدفاع الإسرائيلي أن يصل إليه. والمنقذ، أمريكة، لا ينقذ ولا يبيع إلا الوعود؛ دولتان جنبا إلى جنب يتعايشان في سلام، وإسرائيل تعتدي كل يوم على فلسطين، خارطة الطريق التي قبلها العرب على ضيم، حلم صعب المنال. ومبادرة السلام العربية لا أحد يتعامل معها؛ فإسرائيل تكسب بالعدوان أكثر مما تكسب بالسلام، وأمريكة تستعد للعدوان على سورية وإيران الرافضين لمشاريع التسوية، واللذين ما زالا يدعمان المقاومة، تكسب من السلام ومن العدوان في آن واحد، كالمقامر الخبير الذي يكسب في كل الاحتمالات أمام العرب الذين يخسرون في كل الأحوال.
Página desconocida
بالنسبة لجيلنا، جيل الخمسينيات والستينيات 1967م، ما زال جرحا في القلب وغصة في الحلق. هو جيل الحركة الوطنية في الأربعينيات، جيل لجنة الطلبة والعمال، الجيل الذي تكون فيه الضباط الأحرار الذين فجروا ثورة يوليو 1952م. لم يندمل الجرح بانتصار أكتوبر 1973م بسبب الهزيمة التامة للإرادة الوطنية بعد أن كانت الشعارات: خسرنا معركة ولم نخسر الحرب، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، إزالة آثار العدوان. والأخطر هو الانقلاب على المشروع القومي الاشتراكي الوحدوي في 15 مايو 1971م، والتحالف مع الاستعمار والاعتراف بالصهيونية، وهي أهداف عدوان 1967م؛ فالسياسة هي الحرب بوسائل أخرى طبقا للتعريف الشهير.
وفي استطلاع أخير لرأي الجيل الجديد من الشباب العربي أجرته إحدى قنوات الإعلام الشهيرة عن مدى وعيهم بهزيمة يونيو (حزيران) 1967م، كانت النتيجة صدمة لجيل الخمسينيات والستينيات الذي أفنى عمره في التحرر الوطني، وما زال يقاوم الاحتلال والاستعمار والهيمنة من الخارج، والقهر والفساد والتبعية في الداخل. ظهر التغييب التام للوعي التاريخي، وهو أخطر من تزييف الوعي. التغييب نفي تام في حين أن التزييف وعي بديل. والوعي التاريخي هو أساس الوعي السياسي؛ لذلك يزهو علينا الغرب بأنه هو الذي أعطى العالم فلسفة التاريخ، واكتشف الوعي التاريخي بالرغم من اعتراف فيكو مؤسس فلسفة التاريخ مع هردر أنه استمد قانونه الثلاثي لتطور التاريخ، من مرحلة الآلهة إلى مرحلة الأبطال إلى مرحلة البشر، من مصر القديمة. وضعف أمريكة في غياب وعيها التاريخي وتأسيس وعيها السياسي على المصالح والهيمنة، وربما على العنصرية، وسيادة الجنس الأبيض على الأجناس الأخرى، السوداء والسمراء والصفراء، والنازية والصهيونية والمحافظون الجدد بعض صياغاتها. والأخطر هو تغييب الوعي التاريخي العربي الذي يمتد إلى سبعة آلاف عام في مصر القديمة وحضارات ما بين النهرين وفي كنعان؛ فلسطين القديمة.
انتهى استطلاع الرأي إلى ستة مستويات للوعي التاريخي:
الأول غيابه التام:
فهذه الشريحة من الشباب لم تسمع عن 1967م، لم يأخذوها في المدرسة، ولم يشاهدوا البرامج السياسية في أجهزة الإعلام. لا يقرءون الصحف، ولا يتحدثون مع الأصدقاء أو داخل الأسرة في الشأن العام. لم تعد هناك مقررات في التربية الوطنية أو التربية القومية في المدارس. ومقرر التربية الدينية عقائد وعبادات دون معاملات وعلاقات دولية، وعي ديني فارغ من أي مضمون اجتماعي سياسي، وطني أو قومي؛ خشية من الحركة الإسلامية، وتسلل الجماعات الجهادية إلى عقول الطلاب، فينشأ وعي ديني جهادي خارج المدارس، في الشارع وتحت الأرض.
والثاني يسخر من السؤال:
عن مدى الوعي التاريخي بهزيمة 1967م؛ فالمعارك لديه، كسبا أم خسارة، في الأسهم والشركات وحسابات البنوك. لا يعرف في الحياة إلا المال، ولا يهدف إلا إلى زيادته أو تبديده. وهو جزء من العولمة الاقتصادية. ورأس المال لا وطن له. وهو ممثل لأحد الشركات المتعددة الجنسيات، وحساباته في البنوك الأجنبية. جسده عربي، وروحه أمريكية. وعقاله عربي، وذهنه عولمي. ولا مانع أن يقرأ
المال والبنون زينة الحياة الدنيا (الكهف: 46)، وينسى
والآخرة خير وأبقى (الأعلى: 17)، ويخشى من قراءة
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال (البقرة: 155)، ولا يعلم أن المال زائل، وأن مدن المال قد اندثرت
Página desconocida
كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا (التوبة: 69).
والثالث وعي غائم:
بأننا هزمنا دون معرفة بالظروف والأسباب والعوامل والنتائج. وعي يأتي من وراء السحب أو من الماضي البعيد مثل استيلاء التتار على بغداد، والصليبيين على القدس، وسقوط غرناطة. لا يمسه في شيء، ولا يؤثر عليه، ولا يتفاعل معه؛ فالتاريخ مصير، والماضي انقضى، والحاضر أبلغ وأوضح وأكثر إشراقا. وغياب الوعي التاريخي هو سبب غياب الوعي السياسي. لا تطلب الهزيمة موقفا، ولا يحدد لفظ «انهزمنا» من الذي انهزم. وعي جماعي غامض، وهوية فارغة، واستسلام للأقدار، ونقص في الحمية والرجولة. ولم يسمع خطاب عبد الناصر في الأزهر يوم العدوان: «سنقاتل.»
والرابع انهزمت مصر:
فالحرب حرب مصر، الشقيقة الكبرى في الذهن وفي الوجدان، لكنه غير متضامن معها في حروبها منذ 1948م حتى 1973م. مصر هو الغريب، المغاير وربما المخالف. هي التي ما زالت تتمسك بمسئوليتها وتتحمل عبء العرب، ولكنها في عالم، وهو في عالم آخر. لا يتماهى معها، له عالمه الخاص المباشر الواقعي، وهي لها عالمها الخاص المثالي. مصر هي البلد الغريب، والتي تطالب العرب بالتضامن والتضحية، وهو يريد راحة البال دون أن يعكر عليه صفو أحد.
والخامس انهزم عبد الناصر:
فله الفضل في أنه ما زال يتذكر الاسم، ولكن الحرب حربه، والنضال نضاله، والمعركة معركته. لا يعلم أن عبد الناصر كان يجسد روح أمة، ويناضل باسم شعب، ويحارب من أجل الحرية والاستقلال. يوحد بين الزعيم والوطن، بين القائد والجيش، بين الخليفة والخلافة، بين الرئيس والدولة، كما يشاهد في واقعه السياسي وثقافته الإعلامية. هي إذن قضية فردية شخصية، وليست صراعا تاريخيا بين قوى التحرر وقوى الاستعمار. وفي حالات أخرى ربما لم يسمع جيل بالاسم. سألني أحد أحفادي مرة: يتكلمون في المدرسة عن عبد الناصر. من هو، هل كان حاكما لمصر؟ اسم بلا مسمى، لفظ بلا مضمون، صورة بلا قضية.
والسادس احتلال الأراضي العربية:
وهو أقصى ما يستطيع الوعي التاريخي إحضاره. وما زالت الإجابة بها نوع من حضور الوعي التاريخي الوحدوي، وهو الاحتلال والأراضي العربية. وهو أقصى ما يصل إليه من وعي سياسي، دون ذكر للمقاومة، أو لطول فترة الاحتلال، أو لمخاطر السلام، أو لكامب ديفيد، أو للاعتراف والصلح والمفاوضة، أو اللاءات الثلاث، أو أي شيء عن المستقبل والمصير.
وعلى النقيض من تغييب التاريخ يحضر لدى العدو الإسرائيلي الوعي التاريخي في أشد صياغاته العنصرية والعدوانية؛ فقد كان الإسرائيلي عندما يقابل إسرائيليا منذ هدم المعبد (العام القادم في أورشليم) تقوم بالحفريات في القدس وأسفل المسجد الأقصى لإثبات وجود المعبد؛ ومن ثم ضرورة إعادة بناء ما انهدم بعد هدم ما انبنى على الأنقاض. وتكثر الدراسات والبحوث التاريخية حول الشعب الأول الذي سكن في فلسطين، وهم اليهود وليسوا الفلسطينيين في أرض كنعان. والاحتلال العربي للقدس مثل الاحتلال الصليبي والروماني والفارسي والبابلي. للعدو رؤية مستقبلية؛ فالوعي التاريخي ليس وعيا بالماضي فحسب، بل هو أيضا وعي بالحاضر وبالمستقبل، إسرائيل من الفرات إلى النيل، من مصر إلى العراق، بل وشبه الجزيرة العربية؛ فقد كان اليهود في مكة والمدينة واليمن، والتي يعيش فيها اليمنيون في المقابل وقت «الساعة السليمانية».
Página desconocida
الخطورة الآن بعد تغييب الوعي التاريخي على الوجود العربي في التاريخ. لم يعد يتحدث أحد عن العرب إلا في مقابل البربر في المغرب العربي، وإلا في السودان في مقابل الأفارقة في الجنوب، أو في مقابل الكرد والترك في العراق، بل الحديث كله طائفي بين السنة والشيعة في الخليج والعراق، أو المسلمين والأقباط في مصر، والموارنة والمسلمين في لبنان، والزيدية والشوافع في اليمن. الخطورة الآن التضييق على مصر، وقص أجنحتها وخناقها من الشرق بتفتيت العراق، ومن الغرب بتفتيت المغرب العربي، ومن الجنوب بتقسيم السودان؛ حتى لا يترك لمصر إلا الشمال الأوروبي الذي ورث الخلافة. وإذا كان الحلم القديم «مصر قطعة من أوروبة»، فلماذا لا يعود من جديد؟
وطن بلا صاحب
لم يعد الوطن العربي قادرا على حماية سمائه والدفاع عن أرضه. تفعل فيه القوى الأجنبية ونظم الحكم ما تشاء وكأنه وطن بلا صاحب، جسم مخدر يفعل فيه الأجنبي ما يشاء بالتقطيع والترقيع ونقل الأعضاء بمساعدة الممرضين المحليين لخلق جسد جديد، فاقد الهوية، عاجز عن الحركة.
تقوم القوى الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالغزو المباشر للعراق وأفغانستان ، وتقبض على زعمائها السياسيين بالغزو المباشر أو بالمحاكمة غير العادلة، وإعدام رموزها الذين كانوا يعتبرون الوطن أيضا بلا صاحب، ملكية خاصة لهم، ودرس لباقي الزعماء الذين ملكوا الأوطان كملوك صغار يأتمرون بأمر ملك الملوك، والسلطان الأعظم. وإسرائيل تقتل من تشاء، وتدمر ما تريد. سماء لبنان وفلسطين مفتوحتان، وأرضهما تجول فيهما مدرعات العدو. وتفعل المقاومة الشعبية ما تستطيع في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان لتبين أن الأوطان لها صاحب، وهي الشعوب القاطنة فيها بعد أن أنكرتها القوى الكبرى من الخارج، واستعبدتها نظم الحكم في الداخل. الأولى بالغزو العسكري المباشر، والثانية بقوات الأمن والشرطة والجيش إن لزم الأمر ضد المعارضة السياسية؛ القلب الذي ما زال ينبض بالحياة. الأولى لنهب ثروات الأوطان؛ النفط وعوائده. والثانية لنهب ثرواته الداخلية، واحتكار مواردها، وتهريب الأموال. وتجتمع السلطة السياسية والثروة الاقتصادية في الحزب الحاكم المسيطر على جميع مظاهر الحياة المدنية. يزور الانتخابات، ويستأثر بالسلطة، ويدافع عن مكاسبه ومصلحته في الحكم والبقاء في السلطة إلى الأبد مثل رئيس النظام.
كما تفرض القوى الأجنبية إرادتها على الأوطان باسم الأمم المتحدة، وقراراتها في السودان لفرض قوات من الأمم المتحدة لحل قضية دارفور، والفلسطينيون منذ أكثر من نصف قرن ضحية دارفور الأولى، نزعهم خارج الأوطان، وتشريد نصف الشعب، ونزوحهم إلى الخارج، في المخيمات في دول الجوار، أو في بلاد النفط، أو في بلاد المهجر. ومن بقي منهم في الداخل يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية تحت الاحتلال. وتفرض الإرادة الدولية إرادتها على لبنان تحت ذريعة المحاكمة الدولية؛ مما يطعن في القضاء الوطني دون فرض إرادة مماثلة على إسرائيل وقد قتلت المئات من قادة المقاومة الفلسطينية.
وتدخلت القوات الأثيوبية ممثلة عن القوى الأجنبية للقضاء على نظام المحاكم الشرعية لصالح فريق آخر بدعوى القضاء على الإرهاب وتنظيم القاعدة. ويتم تهديد سورية وإيران بالغزو المباشر من أمريكة وإسرائيل لوضع حد لإمداد المقاومة اللبنانية بالسلاح من إيران، والتدخل السوري في لبنان، وتأييد المقاومة الفلسطينية، وزرع الإرهاب، ومقاومة مشاريع التسوية في المنطقة. وكما تم ضرب المفاعل النووي العراقي يتم الإعداد للقضاء على المفاعلات النووية الإيرانية حتى لا تمتلك إيران سلاح الردع النووي الذي يهدد أمن إسرائيل، تنفيذا لمخطط التخلص تماما من الجبهة الشرقية في الوطن العربي، سورية والعراق وإيران، بعد أن تم تحييد الجبهة الجنوبية في مصر، والشمالية في تركية، باتفاقات سلام واعتراف وصلح، والأراضي العربية في سورية ولبنان وفلسطين ما زالت محتلة.
والصاحب الأوحد مشغول بالتوريث أو بالحكم باسم الفرقة الناجية، أو الزعامة التاريخية، أو الإلهام السماوي، أو إرث الآباء والأجداد الذي يحافظ عليه الأحفاد. وتقوم الدول الصغرى بلعب دور الدول الكبرى ما دام الوطن بلا صاحب، تمهد لنظام عربي دولي جديد يصبح فيه الوطن العربي مركز خدمات واتصال بين الشرق والغرب، ومجالا للاستثمار مثل هونج كونج وتايوان وكوريا الجنوبية. وإسرائيل جزء فيه كقدرة على الاستثمار ودفع عوائد أكثر، ومرور أنابيب النفط من خلالها، وأداة للتحديث بعد أن تخلت مصر عن دورها التاريخي في الوطن العربي فأصبح بلا صاحب، يأتيه من يشاء لملء الفراغ.
أصحاب الأوطان في السجون والمعتقلات، تحت أهوال التعذيب الجسدي، والنفسي. يخضعون لقوانين الطوارئ أو مكافحة الإرهاب أو حماية الوحدة الوطنية. والأحرار منهم أقلية غير مؤثرة، مجرد صمام أمان للنظم السياسية القاهرة للداخل، والتابعة للخارج. والمثقفون والأدباء منهم يكتبون ويبدعون ثقافة وأدبا للتاريخ، يعبر عن مرحلة القهر والعجز والتبعية والضياع. يجرون عربة محملة بالأثقال بمفردهم ليصعدوا بها مسار التاريخ، يقيلون عثرته، وينهضون بكبوته حتى يأتي الزلزال فيغير الأوضاع، ويظهر التفاعلات الجديدة، وتنبثق منه المياه الجوفية السارية تحت الأرض في حمم البراكين بعد طول غليان.
وليست السماء والأرض وحدهما هما المفتوحتان للغزو العسكري المباشر، بل أيضا العقول ونظم التعليم والمؤسسات الثقافية والإعلامية للتبشير بالوطن البديل؛ التعليم للسوق باسم الجودة والحداثة، والثقافة العالمية لنشر قيم الاستهلاك، والإعلام لنشر قيم العولمة، وأن العالم قرية واحدة، قضت ثورة الاتصالات فيه على الخصوصيات الثقافية التي ما زالت تسبح ضد التيار.
وأصحاب الأوطان الشرعيين في أغلبيتهم مشغولون بلقمة العيش، أو البحث عن مصادر للرزق في الداخل أو في الخارج، بالكسب السريع أو الهجرة؛ فضعف الولاء، وعز الانتماء، وضاعت القضية التي طالما حلم بها الناس في الخمسينيات والستينيات. انتهى هذا الجيل الذي قاوم الاستعمار والصهيونية، وساهم في بناء الدولة الوطنية، وتحقيق المشروع القومي في الاستقلال الوطني والتصنيع، لحساب جيل جديد يوهم نفسه بالسعادة والخلاص عن طريق الدين أو «الشيشة»، أو السعي وراء ملذات الحياة في المأكل والمشرب والمسكن التي ملأت الحياة العامة في الطرقات والمنتديات، وتحزب الناس للنوادي الرياضية بعد أن انعزلوا عن الأحزاب السياسية.
Página desconocida
فإذا ما كان للوطن صاحب وهو المقاومة الشعبية، فالكل صاحبه. يتنازعون فيما بينهم دون إمكانية للوفاق الوطني في لبنان وفلسطين والعراق. يقتتلون فيما بينهم على السلطة في الداخل، والسلطة الفعلية في الخارج. نسوا مرحلة التحرر الوطني التي قامت فيها الجبهة الوطنية بتحقيق الاستقلال ودحر المحتل.
طالما أن الوطن بلا صاحب فإن التطرف سيزداد، والعنف سيشتد لمن يريد تحويل العجز إلى قوة، واليأس إلى أمل، ويوقف الانهيار المستمر. ستنشط الحركات السرية بكل طوائفها، تنتظر لحظة الوثوب على السلطة كما حدث في الثورات العربية في أوائل الخمسينيات بقيادة الضباط الأحرار؛ فما زال يتراءى في الخيال البعيد صور أحمس ورمسيس وصلاح الدين وقطز ومحمد علي وعبد الناصر في مصر، وعمر المختار وصالح بن يوسف وبن بللا وعلال الفاسي بالمغرب، والمهدي بالسودان، وعز الدين القسام في فلسطين، وحزب الله في لبنان. فالأوطان لها صاحب؛ شعوبها، وقادتها الوطنيون، ومسارها عبر التاريخ.
ممنوع من الدخول
إذا أمكن منع الأجساد من الحركة بالاعتقال، والإقامة الجبرية، والترحيل في المطارات والمنع من الدخول بناء على القوائم السوداء في الأجهزة الإلكترونية وملفات الأمن، فإنه لا يمكن منع الأفكار من الانتشار. وطالما انتشرت أفكار المعتقلين بل والشهداء؛ فلا حدود أمامها، ولا مانع من انتشارها؛ فهي كالطاقة في الطبيعة، والكهرباء في الأسلاك. ولو أمكن منع الأجساد على الأمد القصير فإنه لا يمكن منع الأفكار على الأمد الطويل. ومنع الكتب ومصادرتها لا يمنع من انتشار الأفكار؛ فوسائل نقلها الآن مقامة عبر شبكات الاتصال (الانترنت)، وموجودة في القصور مثل الخمور ؛ فكل ممنوع مرغوب فيه. ولو تم وضع الحواجز على الأرض فإنه لا يمكن وضعها في السماء، ولو أمكن وضع الحدود الجغرافية فإنه لا يمكن وضعها في التاريخ، وإن أمكن تقطيع المكان إلى أجزاء فإنه لا يمكن تقطيع الزمان المتصل. وقد كان نيلسون مانديلا في السجن ربع قرن وهو يحكم جنوب أفريقية، وكان غاندي في السجون البريطانية والمقاومة السلمية تنتشر في ربوع الهند.
ولا فرق في منع المفكرين من الدخول إلى الدول بعد الوصول إلى المطارات بتأشيرات رسمية؛ فالأمن فوق الخارجية، والشرطة فوق السفارة. ولا فرق أيضا بين نظام عسكري باسم الجمهورية ونظام ملكي باسم العائلة؛ فمهما اختلفت النظم السياسية إلا أنها متفقة فيما بينها على التسلط والقهر. الدفاع عن النظام في كلتا الحالتين هو الهدف الرئيسي، وأمن النظام في كلتا الحالتين هو العامل الموجه. مع أن الأفكار الممنوعة قد تكون في صالح النظام إذا أراد الأمن على الأمد الطويل عن طريق الحوار مع الخصوم، وليس على الأمد القصير عن طريق المصادرة والمنع بأجهزة الرقابة والشرطة. قد يكون أثرها طيبا وليس سيئا، لصالح النظام وليس ضده، ولصالح الوطن الأبقى بعد تغير النظام.
وأثر الحركات الإسلامية على بعضها البعض شيء مشهود، يدل على وحدة فكر الأمة ومصدرها؛ فطالما تأثرت هذه الحركات بالأموات مثل ابن حنبل وابن تيمية وسيد قطب، وبالأحياء، متطرفين منهم ومعتدلين، محافظين وتقدميين، تقليديين ومجتهدين. ولا يستطيع نظام سياسي معاداة كل أطياف الفكر الإسلامي؛ فلو كان يظن أن المتطرفين خصومه فعليه الاعتماد على المعتدلين، وإذا ظن أن التقليديين والمحافظين أعداؤه فيعتمد على المجددين والتقدميين؛ فالحركة الإسلامية ليست نوعا واحدا ولا اتجاها واحدا. وقد أجادت النظم السياسية هذه اللعبة بالاعتماد على اليسار لضرب اليمين مرة إذا كان الخطر منه، وبالاعتماد على اليمين مرة أخرى لضرب اليسار إذا كان الخطر منه؛ وبالتالي يضعف الجناحان الرئيسيان في الفكر السياسي لصالح القلب. ولا يعادي نظام سياسي الإسلام الديمقراطي الذي يؤمن بالتعددية الحزبية وبالانتخابات البرلمانية إلا إذا كان معاديا للديمقراطية والتعددية السياسية، مزورا للانتخابات لصالح الحزب الحاكم الأوحد، أو ضد الفرق الضالة لصالح الفرقة الناجية. ولا يعادي نظام الإسلام الليبرالي الذي يعترف بحريات التعبير لكل الناس؛ فالكل راد والكل مردود عليه إلا كان معاديا للحرية والليبرالية.
يقوم على القهر والتسلط على المؤسسات السياسية الدستورية والتعليمية والثقافية والإعلامية، ولا يعادي الإسلام العقلاني المستنير الذي يدعو إلى الحوار العقلاني الهادئ إلا إذا كان معاديا للعقل لصالح الخرافة، وضد الاستنارة لصالح الأسطورة، مثل الحكم مدى الحياة والتوريث والزعامة في التاريخ.
وقد يسمح النظام السياسي للمفكر الإسلامي بالدخول بعد طول انتظار منعا للإحراج المحلي والإقليمي والدولي، وكدليل على بعض الحريات العامة في النظام وكرم شيخ القبيلة وأريحية كبير العائلة، أو اختبار المفكر وحسن سلوكه ومدى اتصالاته؛ فعين الدولة في كل مكان، وأجهزة أمنها وشرطتها السرية تحيط بالأماكن التي يتواجد بها الفكر لاستيفاء ملفه وكتابة التقارير عنه وعن نشاطه في محيطه، بعد أن استعصى شراؤه للعمل مع النظام ضد خصومه السياسيين. وقد يسمح نظام سياسي آخر بدخول الكتب ثم بدخول أصحابها طبقا للقاعدة الفقهية؛ اختيار أخف الضررين؛ تفجير العقول أم تفجير المباني، استنارة العقول أم إشعال النار في المؤسسات، حرية الفكر أم الفوضى العارمة، تغيير النظام أم هدم الدولة، الإصلاح التدريجي أم الثورة العارمة؟
وقد يمنع نظام ثالث المفكر من الدخول منذ البداية، ورفض الرد حتى على طلب تأشيرة الدخول لحضوره ندوة أو لقاء أو مؤتمرا علميا؛ عقابا له على مواقفه، ومنعا لتأثيره في عدة قضايا اختارت الدولة أحد الحلول التي تتفق مع الهيمنة والسيطرة، واستبعدت كل الحلول الأخرى التي تقوم على حرية الشعوب وحق تقرير المصير. ففي عام 1948م خلقت بريطانية ثلاث مشاكل طبقا لسياسة «فرق تسد» في فلسطين بتقسيمها، وفي جنوب أفريقية بتأييد الحكم العنصري الأبيض للأقلية ضد الأغلبية الأفريقية، وفي الهند بتقسيمها إلى الهند وباكستان، وخلق منطقة توتر بينهما في كشمير التي من المفروض أن تنضم إلى باكستان طبقا لقرار الأمم المتحدة، الأغلبية الهندوسية في الهند، والأغلبية الإسلامية في باكستان. وكانت الأغلبية في كشمير إسلامية، ومع ذلك ضمتها الهند لثرواتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي.
ورفضت كل قرارات الأمم المتحدة الخاصة بحق تقرير المصير، ورفضت إجراء استفتاء عام في كشمير لمعرفة رأي شعبها إذا أراد الانضمام إلى الهند أو إلى باكستان، أو الاستقلال التام عن الجارتين. وماذا يضير الهند في استقلال كشمير وضم ما يقرب من ثمانين مليونا من المسلمين وقد فاق سكانها المليار، وهي أكبر دولة من حيث تعداد السكان بعد الصين، وتزيد نسبة المسلمين في الهند إلى الضعف، وتضع قنبلة سكانية موقوتة قد تنفجر في المستقبل، خاصة وأن النزاع الطائفي بين الهندوس والمسلمين لم يتوقف بعد؟ وماذا عن الهند ونظامها الديمقراطي الذي تفخر به، ومن مآثر بريطانية العريقة في الديمقراطية؟ انتخاباتها الحرة مشهود لها. وهي دليل على أن الديمقراطية ليست ميراثا غربيا فقط، بل هو تجربة آسيوية أيضا بدليل الهند. وهل تطبق الهند المعيار المزدوج الذي طالما كان نقدا رئيسيا للديمقراطية الغربية؛ الديمقراطية في الهند، واحتلال كشمير، ورفض سؤال أهلها عن مستقبلهم وحقهم في تقرير المصير؟
Página desconocida
لقد كان حق تقرير المصير من مكتسبات حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، والهند جزء منه، وأصبح قرارا من قرارات الأمم المتحدة، وتم إعلانه في الجزائر في 1973م في «الإعلان العالمي لحقوق الشعوب»، في مقابل «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». وماذا عن تاريخ الهند ونضالها منذ غاندي ونهرو لحق تقرير المصير؟ هل تتكرر مأساة الاستقلال الوطني مرة ثانية في كشمير بعد أن بدأت في حيدر آباد-الدكن في جنوب وسط الهند التي كانت الأغلبية فيها مسلمة، ثم ضمتها الهند عنوة باسم وحدة الدولة واتصالها؟ وكشمير متصلة مع باكستان، ومع ذلك ضمتها الهند عنوة كما فعلت في الدكن. وماذا عن صداقة غاندي وسعد زغلول، ونهرو وعبد الناصر، وباندونج وبلجراد؟ وأيهما أفضل؛ كشمير صديقة للهند، وباكستان جارة للهند، أم جارتان عدوتان وحرب طاحنة بين المقاومة في كشمير وتأييد شعب باكستان لها، ودماء الشهداء تسيل من الطرفين؟
إن الهند وسط العالم الإسلامي، لم تنعم بوحدتها إلا أثناء الحكم الإسلامي. وإمبراطوريتها، إمبراطورية المغول، من عمل المسلمين. وآثارها، تاج محل، من فن المسلمين. وثقافتها وعلمها وحضارتها من آثار المسلمين. وموقعها الجغرافي في داخل المحيط الإسلامي غربا في إيران، وشرقا في ماليزيا وأندونيسية، وشمالا في أفغانستان وأواسط آسيا، وجنوبا في بحر العرب. وأي سياسية تقوم على الجغرافية والتاريخ تجعل الهند صديقة العرب والمسلمين وليست صديقة لإسرائيل. تلك كانت سياستها في الخمسينيات والستينيات أثناء حركات التحرر الوطني، يكفيها ما يحدث في سيريلانكا والصراع الطائفي هناك. وإذا كانت الهند تخشى من السلاح النووي الباكستاني، فالأولى التحالف مع دول الجوار ونزع أي فتيل للتوتر. ولا تخاف الهند من السلاح النووي الإسرائيلي وبها مائة مليون من المسلمين قادرون على الزحف على القدس لتحرير المسجد الأقصى. وآلاف الهنود المهاجرين في دول الخليج يسعون للرزق، ويعيلون الملايين من فقراء الهنود. مصالح الهند مع العرب والمسلمين، والسلام مع جيرانها أكسب لها من الحرب. يكفيها أنها فصلت باكستان الشرقية عن الغربية في 1971م بالحرب لإضعاف جارتها. وبالهند أكثر من أربعمائة قومية، وتهدد بالتقسيم للقضاء على وحدتها وقوتها بعد تفتيت يوغوسلافية، وتقسيم الوطن العربي بداية بالعراق ثم السودان ثم الخليج ثم المغرب العربي.
إن تجمع الصين والهند والعرب وأندونيسية وباكستان يمثل نصف سكان العالم في عالم التكتلات. وإذا انتهى المنع من الدخول في بلدين إسلاميين، فالأولى إلغاء المنع من الدخول في الهند؛ فكشمير الإسلامية هو رأي مليار وربع من المسلمين. وإذا انتهى النظام العنصري من جنوب أفريقية بقيت فلسطين وكشمير. ويعترف العالم كله بحق تقرير المصير للفلسطينيين وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، فماذا عن كشمير؟
بيع نفس عربية
على وزن «بيع نفس بشرية»، الرواية الشهيرة عن الاستغلال الجنسي للخادمات الفلبينيات في الخليج في المشرق العربي، شرق مصر، يحدث أيضا «بيع نفس عربية» في جريمة حقن الممرضات البلغاريات مع طبيبين فلسطيني وبلغاري، حوالي خمسمائة طفل ليبي، بمرض «الإيدز» في المغرب العربي ، غرب مصر. والفرق أنه في الشرق، الشاري عربي، والبضاعة آسيوية. وفي المغرب، البائع عربي، والبضاعة عربية.
ليس هذا تحليلا لأحكام القضاء الذي يبدو أنه قام بدوره، ولا تدخلا في شئون الدول وسياساتها المتقلبة؛ فذاك ما يخص شعوبها ومثقفيها الوطنيين ومفكريها الأحرار، بل الأمر يتعلق بما كثر الحديث عنه منذ أكثر من عشر سنوات باسم «حوار الحضارات»، أو حوار الثقافات، أو حوار «الشمال والجنوب»، أو «أوروبة والإسلام». وهو أيضا دفاع عن الثقافة العربية، واحترام الحياة فيها من أجل تغيير الصورة النمطية في الغرب عن العرب؛ أنهم أجساد بلا أرواح، أبدان بلا عقول، قبائل وطوائف بلا إنسان. قد يهزم العرب عسكريا، وقد يعجزون سياسيا، ولكنهم يظلون حاملين لثقافة أثرت في ثقافات العالم، وما زالت موضع عزة وافتخار.
وإن من مظاهر الأزمة العربية الراهنة اختلاط كل شيء بكل شيء؛ النصر والهزيمة، المقاومة والإرهاب، الواقعية والاستسلام، الشرعية والصورية، الحق والباطل، الاستقلال والتبعية، الاستقرار والطوارئ، الأمن والشرطة، القيمة والتجارة، المبدأ والسياسة. وكانت أحد مقومات النهضة توضيح هذا الخلط، والكشف عما يدور في الواقع من تداخل واختلاط الحابل بالنابل، حتى لم يعد يعرف العربي من الصديق ومن العدو، أين المنفعة وأين الضرر.
إن ما حدث من حقن أطفال بمرض «الإيدز» من ممرضات بلغاريات وطبيب بلغاري، ليس فقط جريمة في حق الأطفال أو في حق البشرية، بل هي جريمة ثقافية في رؤية الأوروبيين في شمال البحر الأبيض المتوسط لغيرهم، خاصة العرب والمسلمين في جنوبه، استمرارا لرؤيتهم للأتراك في العصر العثماني، القسوة والتعصب والقهر. وما زالت الرؤية مستمرة حتى الآن في الإرهاب والعنف والتخلف والتسلط، وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشيخ والأقليات. وطالما استمرت العنصرية العرقية والمركزية الثقافية داء دفينا في الوعي الغربي، سيظل مستعمرا غيره، كارها ثقافته، نافيا وجوده الجسدي والحضاري؛ لذلك يناصب الغرب الإسلام العداء في أوروبة الشرقية. أوروبة مسلمة! ويعارض دخول تركية إلى الاتحاد الأوروبي بذرائع واهية اقتصادية وسياسية، والحقيقة برفض حضاري لثقافة مغايرة، وقد كانت يوما تسيطر على أوروبة الشرقية على مدى خمسة قرون . وهو موقف عام يظهر في نتوءات فاقعة بين الحين والآخر، خاصة في اليمين الأوروبي؛ برلسكوني وفالاتشي في إيطاليا، برنار لويس في إنكلترة وأمريكة، لوبين في فرنسة، بوش والمحافظون الجدد في الولايات المتحدة. لا فرق في ذلك بين ممرض وطبيب، بين ثقافة العامة وثقافة الخاصة اللتين تجمعهما الثقافة الإعلامية الحديثة، والإرث التاريخي الطويل. وقد يجمع البلغاري والفلسطيني هم الرزق، ولقمة العيش، وجمع المال، والعمل في بلاد النفط، والتضحية بكل ما هو إنساني في سبيل المال. وقد تعود الفلسطيني المهاجر على ذلك؛ غدرا بأخيه من أجل سوق العمل بعد أن هجر وطنه، وأخذ جنسية بديلة تحميه من غائلة العرب وهوس الحاضر وذاكرة التاريخ.
الآخر شيء للبيع والشراء كما بيع الرقيق الأفريقي في أسواق الولايات المتحدة، منذ خمسة قرون وما زال مستمرا حتى الآن. استضعاف طفل من ثقافة تفخر بأنها هي التي صاغت «الإعلان العالمي لحقوق الطفل»، تهبه الموت كما وهبته قوى الاستعمار لشعوب بأكملها استئصالا في أمريكة واستراليا، واستعبادا لكل الشعوب التاريخية القديمة في كل أرجاء أفريقية وآسيا وأمريكة اللاتينية، والوسيلة الحقن بفيروس «الإيدز» الذي لا علاج له حتى يصبح الموت قدرا محققا لخمسمائة طفل، جيلا بأكمله يورث من بقي منهم على قيد الحياة المرض لجيل لاحق. وينتشر المرض بوسائل أخرى من الأوروبيين الشاذين جنسيا عن طريق اتصالهم بالأطفال، وإغراء الفقراء منهم بالمال والحلوى أو المبيدات المسرطنة، وهو ما تفعله إسرائيل في الزراعة المصرية.
ودون افتراض أن يكون القضاء تمثيلية احتراما لسلطته واستقلاله، فقد أحسن القضاة صنعا بإصدار حكم الإعدام على الممرضات البلغاريات والطبيبين البلغاري والفلسطيني بدرجتيه، الأولى والثانية، العادي والاستئناف، تطبيقا للقصاص؛ فمن قتل نفسا واحدة فكأنما قتل الناس جميعا في كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية. ولا سلطة أعلى من سلطة القضاء، إلا أن لجنة أخرى موجهة سياسيا تعمل الإرادة السياسية من ورائها، والقضاء مجرد غطاء شرعي، خففت الحكم إلى السجن المؤبد، خمسة وعشرين عاما. ولو أن ذلك قد تم في بلد لا يسن به قانون القصاص مثل بعض البلاد الأوروبية التي تعتبر «الإعدام» ليس حلا، ولا يحيي الموتى، وخرقا لحقوق الإنسان، فالحياة حق طبيعي، ولا يمكن تصحيح خطأ وهو القتل بخطأ آخر وهو الإعدام، فمجموع الخطأين لا يكون صوابا، لكان الأمر مفهوما، ولكن إلغاء عقوبة الإعدام تم في ثقافة بها القصاص
Página desconocida
ولكم في القصاص حياة (البقرة: 179)، وقد توفي ما يقرب من خمسين طفلا، بل في نظام سياسي يبيح التصفية الجسدية لخصومه السياسيين. واكتملت التمثيلية بدخول أهالي الأطفال الشهداء على الخطأ، وقيامهم بمظاهرات تطالب بالقصاص، وعبروا عن فرحتهم بإعدام القتلة، وهم أنفسهم الذين عبروا عن الفرحة بقبول التعويض وإنهاء الموضوع سلميا بعد تدخل مؤسسة خيرية على الخط، تقوم بدور الوسيط بين الضحية والجلاد لتعظيم دورها، واستعدادا للتوريث على الصعيدين الداخلي والخارجي.
كانت قيمة صفقة بيع النفس العربية مليون دولار لكل طفل، ومجموعها أربعمائة وخمسين مليونا لخمسين طفلا، وهو أقل من ضخة نفط في يوم واحد. وفرحت الأسرة ببيع طفلها، تنعم برغد العيش بثمن دمه، وفرحت أسرة أخرى بعلاج طفلها على نفقة القاتل مدى الحياة، وكسبت الدولة تحديث مستشفياتها بأطباء أوروبيين، وكأن الطب العربي المشهود له قديما وحديثا عاجز عن القيام بواجبه. ونجح النظام السياسي في فك الحصار عنه، وشطبه من قائمة الإرهاب، وزيادة التبادل التجاري بينه وبين الاتحاد الأوروبي، وتسهيلات تأشيرات الدخول لكل من الطرفين لدى الطرف الآخر، وزيادة البعثات الطلابية للدراسة في الغرب، وعودة العلاقات مع الغرب إلى مستواها الطبيعي، بدلا من تكرار غزوها في 1986م من القوات الأمريكية، وبدلا من الترصد لباقي القادة العرب أسوة بصدام وحبل المشنقة حول عنق رئيس عربي. وكلها في النهاية وعود قد لا تتحقق بمجرد الإفراج عن الرعايا البلغار.
وكسبت فرنسة، ورئيسها الجديد في حاجة إلى دور يلعبه في الحوار الوطني بين الخصماء في الوطن في لبنان، وفي الإفراج عن الممرضات البلغاريات ورفيقهن، وفرنسة هي التي صاغت «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن» أثناء الثورة الفرنسية. والسيدة حرمه تقوم بدور السيدة الأولى في رعاية الشئون الاجتماعية والخدمات الإنسانية والمشروعات الثقافية، كما هو الحال في معظم البلدان العربية. وفرنسة هي التي رفضت حتى الآن الاعتذار للجزائر عن جرائم الحقبة الاستعمارية الفرنسية والمليون شهيد، وهي التي تسعى إلى إقامة محكمة دولية لقتلة رفيق الحريري، وتترك عشرات الآلاف من السجناء الفلسطينيين في سجون إسرائيل. ودخلت دولة عربية صغرى على الخط لتساعد دولة عظمى، وتقوم بدور مصر المستمر في لم الشمل العربي محليا ودوليا.
ووصل الجناة الأبطال إلى صوفية، واستقبلوا بالورود والرياحين والدموع الإنسانية تنهمر من عيون القادمين والمستقبلين، وكأنهم أبطال عادوا منتصرين في الحرب ضد العرب. وفي نفس اللحظة، وبدلا من أن يقضوا الحكم المؤبد بسجون وطن الشهداء، وهو لا تنقصه السجون ولا المسجونون ولا السجانون، وبدلا من أن يقضوا المدة في أوطانهم وقد عرفت يوما بأنها أيضا تغص بالمسجونين السياسيين، واحتراما لأحكام القضاء، فإن الرئيس البلغاري أصدر حكما بالعفو عن القتلة، فيضيع دم الأطفال هباء، وتنتهي التمثيلية التي دامت تسع سنوات؛ فالغرب هو الغرب، والشرق هو الشرق. أوروبة هي أوروبة، والعرب هم العرب؛ تأكيدا على الصور النمطية التي تراكمت عبر التاريخ، وما زالت مستمرة في الحاضر والمستقبل.
ويظهر المعيار المزدوج الشهير في سلوك الغرب. يقيم الدنيا ويقعدها من أجل الممرضات البلغار والطبيب البلغاري وآلاف المعتقلين السياسيين في سجون إسرائيل، ومئات الشهداء من القصف الإسرائيلي، وملايين الأطفال العراقيين استشهدوا من جراء الحصار والقصف الأمريكي دون أن يحرك الغرب ساكنا، لا رئيس الجمهورية الفرنسية ولا أحد من المؤسسات الخيرية العربية أو الغربية، ولا دولة عربية صغرى أم كبرى. ولو قامت ممرضات وأطباء عرب بالقيام بنفس الجريمة التي قامت بها الممرضات البلغار في أطفال غربيين أو إسرائيليين انتقاما من حقبة استعمارية ما زالت مستمرة، لقامت الدنيا وقعدت ضد المجرمين العرب وثقافتهم اللاإنسانية. وقد غزت إسرائيل دولة بأكملها، لبنان، لتحرير ستة من أسرى الحرب الإسرائيليين، ولديها عشرة آلاف من السجناء الفلسطينيين.
دولة تبيع مواطنيها، وتتاجر بأطفالها لتحمي نظامها، وهي دولة مبادئ وأيديولوجيات قومية أولا وأفريقية ثانيا. اشتراكية أولا، وتعطي إشارات بالخصخصة والعولمة والرأسمالية ثانيا أسوة بغيرها. ولماذا تختلف الشقيقة الصغرى عن الشقيقة الكبرى؟ وبيع نفس عربية بالعشرات أقل بكثير من بيع نفس عربية أو إسلامية بالآلاف في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان وتشاد ومالي أو في باكستان.
قد يغضب الإخوة الليبيون، ولكن ليبيا بالنسبة لجيلي هي السنوسية وعمر المختار. ليبيا ثورة الفاتح في 1969م لا الثورة المضادة. ليبيا القومية العربية لا المهادنة للغرب. ليبيا المبدأ لا المساومة. ليبيا التاريخ لا خارج التاريخ.
السلاح أم الحوار؟
4
إن حالة الاستقطاب الشديد لا تميز فقط الوطن العربي بين إسلاميين وعلمانيين، في فلسطين بين حماس وفتح، وفي الجزائر بين جبهة الإنقاذ الوطني والدولة، وفي الصومال بين المحاكم الشرعية والنظام السياسي المستعاد باسم الدولة، وفي السودان بين الشمال والجنوب، وبين الشمال والغرب، وفي اليمن بين الحوثيين والدولة، بل أيضا في العالم الإسلامي خاصة في باكستان كما دل على ذلك المواجهة الأخيرة بين قوات الجيش وطلاب الجامع الأحمر في إسلام آباد هذا الشهر. وتسيل دماء العرب والمسلمين كل يوم، مقاتلين وأبرياء، دينيين ومدنيين، حتى أصبح الدم العربي الإسلامي رخيصا يسفكه أعداء الأمة في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير. وخطورة الاستقطاب هو الوقوع في ثنائية متعارضة بين طرفين، يستبعد كل منهما الآخر، ثنائية الحق والباطل، والصواب والخطأ، والإيمان والكفر. لا يبقى طرف إلا بالقضاء على الآخر، في الفكر وفي الواقع، في الذهن وفي السلطة؛ فالفرقة الناجية واحدة بالرغم من تعدد الفرق، وأن اختلاف الأئمة رحمة بينهم، وأهمية التعددية الفكرية والسياسية.
Página desconocida
ولكل فريق من المتخاصمين المتحاربين من الإخوة الأعداء أخطاؤه، ومجموع الخطأين لا يكون صوابا، والاختيار بينهما يزيد من كب الزيت على النار، وشق الصف الوطني، وسفك الدماء، وشبح الحرب الأهلية. وهو منطق «إما ... أو ...» الذي ساد معظم الديانات الآسيوية، المانوية والهندوكية والزرادشتية، ودين الصين القديم قبل كونفوشيوس، وأصلتها الغنوصية التي دخلت معظم ديانات الوحي، خاصة المسيحية في التقابل بين ملكوت السموات وملكوت الأرض، ومقتضيات الروح ومتطلبات البدن، وفي الإسلام في تقابل مشابه بين الدنيا والآخرة، بين الملاك والشيطان.
والتعارض بين الفريقين ليس فقط كما يبدو في الظاهر صراع سلطة ، بل هو صراع ثقافي بين رؤيتين متباينتين «إما ... أو ...» بين منهجين وأسلوبين في الحياة، لا حل له إلا بالحوار والتكامل، وتصحيح أخطاء كل فريق بمميزات الفريق الآخر من أجل الوصول إلى الطريق الثالث الذي اشتقته تركية ممثلة في «حزب العدالة والتنمية»، وماليزيا ممثلة في حزب «الآمنو». وهو ما تسعى إليه جميع حركات التجديد والإصلاح في المغرب في حزب العدالة والتنمية، وليس بإقصاء الإسلاميين كما هو الحال في مصر وليبيا وتونس والجزائر، أو بإقصاء العلمانيين كما هو الحال في السعودية والإمارات وعمان. وما زال الوضع متوترا في اليمن والكويت والأردن.
ويتمثل خطأ الإسلاميين في الآتي: (1)
جعل المسجد دولة داخل دولة، وسلطة داخل سلطة، وحكومة داخل حكومة، وهو ما لا يقبله أي نظام سياسي، دكتاتوري أو ديمقراطي، رأسمالي أو اشتراكي. صحيح أن هناك سلطات عديدة داخل الدول قد تتناحر فيما بينها؛ بين السلطة القضائية من ناحية، والسلطتين التشريعية والتنفيذية من ناحية أخرى كما هو الحال في مصر. وقد تكون هناك سلطتان في الدولة؛ السلطة العسكرية والسلطة المدنية كما هو الحال في تركية، ولكن هذه الازدواجية في السلطة لا تصل إلى حد الصراع العلني المفتوح وشق الصف الوطني. (2)
صحيح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي على العلماء؛ فالدين النصيحة. وهي الحسبة؛ الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية كما قرر ابن تيمية وابن القيم، وهي وظيفة مشروطة بأن تكون من العلماء وليس من الطلاب، متفقا عليها بينهم وليس عليها اختلاف، وبالحسنى وليس بالعنف، ودون أن تأتي بمنكر أعظم من المنكر الذي تنهى عنه، ودون ملء المسجد بالسلاح، ووضع النساء والأطفال والشيوخ في أتون المعركة. ومن الأفضل أن يكون النصح جماعيا
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (آل عمران: 104)، وليس نصحا فرديا أو لمجموعة صغيرة مذهبية أو عرقية مثل «جبهة علماء المسلمين».
لذلك قدم الإجماع على الاجتهاد في ترتيب مصادر الشرع الأربعة. وهناك عشرات الآلاف من المساجد مثل «المسجد الأحمر»، والحركة الإسلامية ممثلة في البرلمان. وكان يمكن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلاله، وبالوسائل الديمقراطية الشرعية، والكتابة بالصحف، وحشد الرأي العام، وليس بالسلاح، بصرف النظر عن البادئ بالعنف؛ لذلك اقترح بعض علماء الأمة، ومنهم الإمام الخميني، وكرد فعل على استعمال العنف ، إعادة ترتيب الوسائل الثلاثة للتغيير في الحديث الشهير، بالقلب ثم باللسان ثم باليد. وهي الطرق المتبعة في مقاومة الحاكم الظالم، بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في خطب المساجد أولا؛ فإن لم يرعو الحاكم يتم اللجوء إلى قاضي القضاة الذي يعينه الحاكم ولكنه لا يستطيع أن يعزله حرصا على استقلاله؛ فإن لم يسمع لحكم القضاء ثار الناس عليه بقيادة العلماء وقاضي القضاة لعزله. ولا يمكن اختزال المراحل التدريجية الثلاث في مرحلة واحدة، وهي المرحلة الأخيرة، والقفز فوق المرحلتين الأولى والثانية. (3)
وفي المجتمعات الإسلامية في جنوب شرق آسيا تتنوع التركيبة السكانية والقبلية، وتتعدد المعتقدات الدينية والطوائف والمذاهب؛ فهناك البلوشي والباشتون، والسنة والشيعة، والهنود والصينيون والملاويون. وطبقا للشريعة الإسلامية، كل طائفة تحكم بشريعتها مثل أهل الذمة، النصارى واليهود، وأضاف الفقهاء المجوس والصابئة، بل وعبدة الأوثان. وإذا أراق المسلم خمر الذمي وجبت عليه الدية أو التعويض؛ فلا تطبق الشريعة الإسلامية إلا على المسلمين. والحفاظ على وحدة الأوطان، مثل السودان، مقدم على تطبيق الشريعة الإسلامية على الجنوب؛ ومن ثم يخطئ من يمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا ما طبقه على غير المسلمين، مثل الصينيين الذين يقومون بالحمامات التركية والتدليك، أو ما يسمى بالحمام التركي المنتشر في جنوب شرق آسيا. واحترام العادات والتقاليد والأعراف لغير المسلمين جزء من الشريعة الإسلامية، «من آذى ذميا فقد آذاني.» (4)
والخطورة أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرد ذريعة للصراع على السلطة، وممارسة المعارضة السياسية، والمسجد ليس مكانها. المسجد للحوار وليس للصراع، للنصيحة
وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل: 125) وليس للقتال. المسجد سلطة معنوية وليس سلطة سياسية، حام للقيم الإسلامية وليس منفذا لها بالقوة كما يفعل المطوفون بالعصي لستر الأعقاب بعد النظر إلى السيقان. الصراع السياسي مكانه صناديق الاقتراع وأجهزة الإعلام والانتخابات الديمقراطية.
Página desconocida
ويخطئ الفريق الآخر ، الدولة بأجهزتها، الرياسة والجيش والشرطة وكل أجهزة الأمن للآتي:
عدم الاستماع للنصيحة، والاستجابة لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواجهة الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وليس بالسلاح والحصار والمواجهة والقتل ورفض الحوار والوساطة وإظهار حق الدولة على حساب قوة المجتمع؛ فالمسجد في الإسلام له مكانته ودوره التعليمي والرقابي على المجتمع. ومواجهة الدولة مع المسجد هو السيطرة الكاملة للدولة على المجتمع المدني.
استعمال الجيش في المعارك الداخلية مع الشرطة وأجهزة الأمن. وظيفة الجيش الدفاع عن أمن البلاد ضد المخاطر الخارجية، وليس الدفاع عن النظام السياسي ضد معارضيه. الجيش مؤسسة مستقلة في البلاد، وليست أداة للنظام السياسي لاستتباب الأمن وإقرار النظام؛ فإذا ما تحول الجيش عن وظيفته، وأصبح أداة قمع في الداخل، قتل الأب ابنه والابن أبيه، والأخ أخاه وأخته في ثقافة قبلية ما زال الثأر فيها ممارسة شعبية، فيقتل الأبرياء من الطرفين. وكلاهما ضحايا النظام السياسي الذي يجعل المواطن يقتل المواطن، ويؤجج الاقتتال بين المواطنين. وقد يصل الأمر إلى الحرب الأهلية عندما ينقسم الشعب، كل قسم مع أحد الفريقين المتحاربين.
جعل رئيس الدولة نفسه رئيسا للسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ فهو رئيس الجيش، ورئيس الشرطة، ورئيس أجهزة الأمن، وهو الذي يشرع ويسمح بمرور الطائرات الأمريكية فوق أراضيها للعدوان على أفغانستان وضربها من بحارها كما تفعل بعض البلدان العربية. له سلطات مطلقة في الحرب والسلم بالرغم من البرلمان المنتخب وممثلي الشعب. يتبع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وما تمليه عليه بحجة محاربة الإرهاب، ومقاومة طالبان باكستان، والوقوف في مواجهة الحركات الإسلامية. وهو أعلى من السلطة القضائية بطرده رئيس المحكمة العليا، ثم إعادته لتخفيف التوتر بينه وبين المعارضة، وكسب ود الليبراليين ضد الإسلاميين.
التحرش بالقبائل على الحدود الطويلة الممتدة بين باكستان وأفغانستان، وهي قبائل واحدة على الحدود المصطنعة التي وضعها الاستعمار. وقد كانت القبائل عبر تاريخها هي الجانب المعنوي في حياة الأفغان والباكستانيين، ومعاداة الداخل وموالاة الخارج. والإسلام هو القوة السياسية الأولى في باكستان، وتيار شعبي عارم. لا يعاديه أحد، بل يحاوره بجوار التيارات الليبرالية النخبوية الضعيفة. كان يمكن تكوين جبهة وطنية عريضة حول حقوق شعب كشمير، والنووي الباكستاني في مواجهة الخطر النووي الإسرائيلي، وتحييد النووي الهندي، وتكوين كومنولث إسلامي آسيوي إقليمي يضم كل الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى مع إيران وماليزيا وأندونيسية لمواجهة قوى الاستعمار الجديد والهيمنة الأمريكية. الحوار مع الشعب وليس المواجهة معه، وفي الداخل ضد الخارج
أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29)؛ دفاعا عن التعددية السياسية والحوار الوطني للوصول إلى برنامج وطني عام يوافق عليه الجميع.
الحوار وليس السلاح هو الحل بين الدولة وخصومها، بين النظام السياسي والحركات الإسلامية من أجل إيجاد طريق ثالث يجمع بين القديم والجديد، بين الدولة والشعب، بين الجيش والأمة؛ حتى تتحول الدولة والنظام السياسي من القهر إلى الحرية، وحتى تتحول الحركات الإسلامية من المحافظة إلى التجديد. وطريق تركية وماليزيا وأندونيسية وموريتانية ممهد للجميع.
الأقوال والأفعال
5
تاريخ القضية الفلسطينية هو تاريخ الأقوال والأفعال. الأقوال من العرب عن العدوان والاستيطان الإسرائيلي والتأييد الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني. أما الأفعال فهو الاعتراف والمفاوضة والصلح (وداوني بالتي كانت هي الداء). والأفعال من العدو الإسرائيلي، العدوان اليومي منذ نشأته حتى احتلال كل فلسطين وإقامة الجدار العازل. أما الأقوال فحديث عن السلام والأمن وإقامة دولتين تعيشان جنبا إلى جنب، والتفاوض مع المعتدلين، واستبعاد الإرهابيين.
Página desconocida