وهذه العواطف المكظومة تؤثر في سلوكنا وتعين تصرفنا في الحياة من حيث لا ندري؛ أي: إنها تتغلب على وجداننا وترسم لنا اتجاهات وميولا لا نستطيع أن نقف على مأتاها ومصدرها إلا بالتحليل النفسي أو ما يسمى «سيكلوجية الأعماق»؛ لأنها تسير نفوسنا وتحللها، وفي حياتنا - منذ نولد - نصادف مخاوف ووساوس ومخازي وانهزامات تقع بنا في السنوات الخمس أو الست الأولى من العمر، حين لم نكن قد شببنا، وصار لنا وجدان نجابه به الدنيا ونتدبر ونفكر فيها بروية، أو قد تقع بنا حوادث خطيرة رهيبة حتى ونحن كبار قد بلغنا العشرين أو الثلاثين، وهذه الحوادث - كالقتال في الحرب أو انهيار منزل في غارة جوية أو إفلاس لا رجاء فيه، أو شك لا يطاق - تلغي وجداننا وتثير فينا عاطفة الخوف التي نكظمها؛ لأننا مضطرون إلى أن نتخذ موقف الشجاعة والتمالك والتجلد، وعندئذ ينحدر الخوف إلى العقل الكامن ويتخذ أسلوبا معينا يظهر به.
اعتبر الأمثلة التالية: (1)
شاب تشاجر مع آخر وتغلب عليه هذا الآخر، وهو لا يطيق هذه الحالة التي يرى نفسه فيها مهزوما مهانا، فهو يستسلم لأحلام اليقظة حيث يتخيل مواقف يضرب فيها هذا الخصم أو ينتصر عليه بالحجة الدامغة.
ثم اعتبر هنا جميع الخواطر التي تمر برءوسنا في أحلام اليقظة حين يخمد الوجدان فنتخيل مواقف لذيذة نرتاح إليها، فإنها جميعها تدل على عواطف مكظومة وأمان محبوسة، ننفس عنها بهذه الأحلام في اليقظة، وهذه الخواطر تعويضية، أي: تعوضنا من آلام حياتنا. (2)
وأحلام اليقظة لا تكفينا؛ فإننا في النوم نحلم الأحلام التي تجري على مبدأ «الجائع يحلم بالخبز» أي إن الذي كظم عاطفة الجوع في الصحو يتخيل الطعام في النوم، وهذا هو المبدأ العام للأحلام: تفريج عن عاطفة مكظومة. (3)
وأحيانا حين يتردد علينا خوف - أو هم - مكظوم نعمد إلى الهرب منه بالخمر حتى ننساه، بل أحيانا نهرب بألوان مختلفة من السلوك كالنسك والرهبنة، ونشوة الشراب هي في النهاية انتصار للذاتية على الموضوعية؛ أي: انتصار للعاطفة على الوجدان، والرهبنة هي هرب من مجابهة الواقع في الدنيا. (4)
وأحيانا يكون الهرب من الكظم؛ أي: التفريج عنه بالزيغ الأخلاقي كالعادة السرية عند المحروم من التعارف الجنسي السوي، بل قد يلجأ هذا المحروم إلى ألوان من التعارف الجنسي الشاذ. (5)
وأحيانا يؤدي الكظم إلى الإجرام الصريح، بل إن جميع الجرائم تعود إلى كظم؛ لأن الجريمة هي في لبابها تفريج لكظم سابق، ويجب ألا ننسى أن ما نسميه «جرائم» قد لا يكون كذلك في اعتبار آخر؛ فإن الشهداء كانوا مجرمين في أعين قاتليهم، وقد كظموا الإيمان طويلا ثم باحوا. (6)
ولكن هناك ألوانا من السلوك تستتر، كالرجل لا يباشر عملا - أي عمل - إلا ويخيب فيه، وعند التحليل نجد أنه يخيب؛ لأنه في كامنته يكره زوجته ويرغب في الخيبة حتى لا تنتفع هي بنجاحه، وكالشاب المدلل يقدم على الانتحار كي ينتقم من أبويه. (7)
وأحيانا نجد جنديا في الجيش قد شلت ذراعه حتى لتقطع لحمها فلا يحس وهذه هي الهستيريا، وعند التحليل نجد أنه كظم الخوف في المعركة، ولكنه لم يطق حاله فاحتال له عقله الكامن على هذا الشلل، حتى يجد فيه الراحة بترك المعركة؛ لأنه - من حيث لا يدري - كان يتمنى سببا يمنعه من القتال. (8)
Página desconocida