ونحن نعيش في مجتمع يغرس فينا عادات نفسية وذهنية تجعلنا نخطئ التفسير لكثير من دوافعنا (= عواطفنا) التي قد تكون أحيانا اجتماعية، ولكنا - لأن لها حرمة كبيرة أو ممارسات مكررة - نحسبها طبيعية، ثم هناك أيضا من النظم الاجتماعية ما يحرمنا ممارسة نشاط نفسي معين، أو يجعل هذه الممارسة شاقة، فنجد أثر هذا الحرمان في صعوبات نفسية مختلفة، فتبرز قيمة هذا النشاط في وجداننا أكثر مما كان يجب، ففي عصر فرويد مثلا، حين تمخض بنظريته عن الغريزة الجنسية، كان القحط الجنسي عاما في جميع الأمم تقريبا، وكان كثير من الأمراض النفسية يعزى إليه ويعالج في ضوئه، ولكنا لا نجد هذا القحط الجنسي الآن في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، ومع ذلك نجد الأمراض النفسية على أفشاها وأخطرها.
وقد حدثت في أيامنا حربان قتل فيها نحو 30 مليون إنسان، وظهرت فيها آلاف الأمراض النفسية التي لا ترجع إلى أسباب جنسية، ثم ظهرت أيضا ونمت وزكت هذه الأمة الروسية التي جحدت مبدأ المباراة في العيش، واعتمدت على مبدأ التعاون، وكان من أعظم ما التفت إليه السيكلوجيون في هذا المجتمع الجديد خلوه تقريبا من الأمراض النفسية، والنظام القائم في روسيا يحول دون السيطرة والتسلط أو البروز أو التفوق، وإذن أين أدلر الذي يقول: إن غريزة التسلط هي أقوى غرائزنا، وإنها بؤرة النشاط التي يتشعع منها سائر دوافعنا الحيوية؟
الحق أن كلا من فرويد وأدلر كان ضحية العصر الذي عاش فيه، هذا العصر الذي حفل بالمباراة القاتلة التي كانت تبعث كل إنسان على توخي الطمأنينة بالتفوق والتسلط كما كان حافلا بالقحط الجنسي الذي حرم كثيرا من الفتيات والشبان من الزواج.
وحسبنا أن نرجع في تفسير البؤرة الأصلية للنشاط البشري إلى الطفل في أيامه وشهوره الأولى، فإننا نجد فيه غريزة لم يتعلمها؛ هي خوفه من السقوط؛ أي: رغبته في الاطمئنان على مهده، فلم لا تكون هذه الغريزة الأصلية لجميع ألوان نشاطنا مهما اختلفت هذه الألوان، بل إن الاعتماد على هذا التفسير يوضح لنا في بيان ناصع موقف فرويد وموقف أدلر.
فحيث يكون القلق والاضطراب والخوف والتوجس من المستقبل يكون البعد عن الطمأنينة، فيحس أحدنا كما لو كان طفلا على وشك السقوط، وقد يتخذ هذا القلق صورا مختلفة تتلون بألوان المجتمع الذي يعيش فيه كل منا.
ففي مجتمع تتأخر فيه سن الزواج وتكثر العوانس ويبدو المستقبل قاتما للكثير من الفتيات يعم الخوف كيانهن، ويعود هذا الخوف كأنه كل شيء في حياتهن، وتبدو العاطفة الجنسية كأنها بؤرة النشاط النفسي، وتجب أن تكون كذلك في مثل هذا الوسط، وهنا تفسير السيكلوجية الفرويدية.
وفي مجتمع تعم فيه المباراة في الكسب كما يعم الفقر، ويحدث التعطل وما يجلبه من تعاسة وحرمان وفاقة يتجه النشاط نحو التفوق والتسلط، والخوف من السقوط في هذه المباراة يكون هما لا ينقطع، وهنا تفسير السيكلوجية الأدلرية.
فبؤرة النشاط البشري كله هي الخوف، خوف الطفل من السقوط من المهد، ثم خوف كل إنسان بعد ذلك من الفقر والحرمان في المجتمع، وخوف الفتاة من أن تعيش عانسا، وخوف الجندي من القتل أو الطيار من السقوط، وخوف التلميذ من الرسوب، وخوف الرجعي من الحرية التي تحرمه وسيلة العيش، وخوف ألمانيا من تألب الدول المحيطة بها عليها، وخوف المحافظين من الإنجليز من المبادئ الاشتراكية التي تحرمهم امتيازاتهم، وخوف الساسة الإنجليز من استقلال الهند التي يستغلونها.
فالخوف هو المحرك الأصلي، وهو الذي يبعث على الشجاعة والمخاطرة، بل والاقتصاد والتدبر والحكمة، ولكن إذا زاد هذا الخوف ولم نجد له علاجا مرضنا، ولو بالكابوس في النوم، أو بانحرافات أخرى بسيطة أو خطيرة، وحيث يقل الخوف وتعم الطمأنينة تصبح الأمراض النفسية معدومة أو كالمعدومة، وهذا هو ما حدث في روسيا؛ حيث ألغيت المباراة، وصار جميع السكان كالمتساوين في الكسب والكرامة، ولم يعد هناك كظم للخوف من الفقر أو المرض أو السقوط الاجتماعي أو البقاء في عزوبة دائمة، بل لم يعد هناك خوف من ضياع الثروة؛ إذ ليس لأحد ثروة مكنوزة، وليست هناك بورصة للأوراق المالية التي ترتفع وتنخفض فيرتفع في إثرها ضغط الدم وينخفض، وتحدث الوفيات من النقطة والسكتة، كما تؤدي الصدمات إلى البول السكري.
فالغريزة الأصلية التي تحركنا نحن وجميع الحيوانات إلى النشاط هي الخوف، وما زلنا - بالمجاز - حيوانات مثل أسلافنا نعيش على الأشجار ونتعلق بالغصون ونخشى السقوط، وما زلنا نخشى الغول والعفريت في الغابة.
Página desconocida