وإذا أردنا أن نجمع حجج التصوريين في سبيل تأييدهم لمذهبهم وجدنا من بينها حجة أساسية والبقية تفريعات عليها. أما الحجة الأساسية، فهي أن المعرفة ظاهرة نفسية، أي فعل باطن يصدر عن العارف ويستقر فيه، بخلاف الفعل المتعدي إلى خارج المؤثر في شيء آخر والمحدث معلولا خارجا عنه. ومتى كانت هذه طبيعة المعرفة، فهي لا تقع إلا على موضوع باطن، فلا يسع العارف أن يعرف غير ذاته، لا يسعه أن يهرب إلى خارج لكي يعرف موضوعا خارجيا، فإن من التناقض أن تكون المعرفة فعلا باطنا وتدرك شيئا خارجيا. وأما التفريعات فأهمها: أن الإحساس لا يوجد إلا في الحاس، فمن التناقض وضع الإحساس في شيء غير حاس هو المادة. ثم كيف يمكن أن تجيء الأشياء إلى الذهن؟ وكيف يمكن أن تؤثر في النفس مع ما بينهما من تغاير؟ وإذا كانت الأشياء موجودة فهي واقعة فيما وراء الفكر بحيث يمتنع عليه التحقق من المطابقة بينه وبينها، على حد التعريف السائر للحقيقة؛ فإن المضاهاة بين الفكر العارف والموضوع المعروف تستلزم إمكان إدراك الموضوع عن غير طريق الفكر؛ إذ إن الموضوع إن أدرك بالفكر فقد صار فكرا ولم يعد الموضوع في ذاته. فعلى أي الوجوه قلبنا المسألة لم نجد إلا أن الفكر يظهرنا على انفعاله لا على الأشياء، وأن الحقيقة في المعرفة مطابقة المعرفة لنفسها، أي الاتساق بين التصورات في الفكر الخالص.
أول ما نأخذه على هذا المذهب معارضته الصارخة لشهادة الوجدان حتى لنقول إن لا واحد من التصوريين يعتقد به في قرارة نفسه ويعمل به في حياته. إن التصديق بموضوعات التصور فطري قاهر مشترك بين الناس جميعا، فحين نتصور الثلج مثلا وبرودته وبياضه نقصد الشيء المسمى ثلجا، وأن هذا الشيء بارد أبيض، ولا نقصد معاني الثلج والبرودة والبياض في فكرنا؛ وحين نتصور الشمس حارة مسخنة مضيئة نقصد الشيء المسمى شمسا، وأن هذا الشيء حار مسخن مضيء، ولا نقصد معاني الشمس والحرارة والتسخين والإضاءة في فكرنا؛ وحين نتصور المثلث وخصائصه نقصد ذات المثلث، وأن هذه الذات زواياها الثلاثة مساوية لقائمتين، ولا نقصد أن تصورنا للمثلث هو الذي له هذه الخاصية. وهذا يقال في سائر الموضوعات، محسوسة ومعقولة، وفي علاقاتها بعضها ببعض، مثلما إذا قلنا إن الماء يصدئ الحديد، فلسنا نعتقد أننا بهذا القول نعبر عن نسبة بين معنيين من معانينا، وإنما نعتقد أننا نعبر عن قانون موضوعي ونسبة حقيقية بين الماء والحديد. وليس يقتصر التصوريون على التصديق بالأشياء في الحياة العادية، ولكنهم في تفكيرهم ودروسهم وكتبهم لا ينفكون عن ملاحظة الأشياء ومحاولة التوفيق بين التصديق بها وبين مذهبهم، وعن تلمس العلة في توزع التصورات إلى ذاتية خاضعة لتأليفات الظروف والإرادة، وإلى موضوعية نصدق بها ونعمل بمقتضاها فيفلح العلم. إنهم يعتقدون بكثرة العقول، ويعلمون أن هذه الكثرة شرط تكون العلم وتقدمه، ويخاطبون عقولا ويناقشون عقولا، حتى ليجعلون من اتفاق العقول علامة على الحقيقة تضاف إلى اتساق التصورات فيما بينها. ما هذا المذهب المخالف للواقع المشهود إلى هذا الحد، فلا يكاد يثبت حتى ينفى، أو لا يكاد ينفى حتى يثبت، ويضطر أشياعه إلى التناقض المتوالي؟! وأي خير يرجى من الفلسفة إذا لم تبدأ من الواقع ولم تنته إليه، أي إذا لم تكن تفسيرا للواقع؟ إنها حينئذ أضغاث أحلام، لا تستحق لعاب الألسن أو مداد الأقلام.
الواقع أن المعرفة حصول الكائن العارف على شبه المعروف، أي صورته؛ هذا تعريف عام يتفق عليه الجميع، ثم ينجم الخلاف عند تفسيره. وأبسط التفسيرات وأكثرها سذاجة وبعدا عن الحق تفسير الماديين، قدماء ومحدثين؛ فإنهم يتوهمون أن الإحساس «حركة في ذرات الجسم الحاس مسببة عن حركة في الجسم المحسوس تنتقل من أعضاء الحواس إلى الدماغ بواسطة الأعصاب». وهذا يعني أن الحاس يحصل على صورة مادية للمحسوس، كانطباع صورة الشيء المرئي على الشبكية. لكنا نقول: إن هذا الانطباع شرط للرؤية، وليس هو الرؤية نفسها، وإنما الرؤية أو المعرفة على العموم تشبه القوة العارفة بالشيء المعروف تشبها معنويا. إن القبول المادي يدع القابل والمقبول كلا في كيانه، بينما المعرفة عبارة عن قول العارف لنفسه في نفسه أنه يعرف كذا. وليس الحاس العضو وحسب، ولكنه بنوع خاص قوة متحدة بالعضو، فالعضو يقبل التأثير الفيزيقي الكيميائي والقوة تقبل «معنى هذا التأثير»، فقد يقع التأثير المادي على العضو دون أن يحدث معرفة بالفعل، كما لو انطبعت صورة على عين ميت، أو رن صوت وقوة السمع معطلة بالنوم أو بالمرض أو مشغولة بشيء آخر. فالتصوريون على حق إذ يعتبرون المعرفة فعلا لا ماديا. فكون الشيء معروفا معناه أنه مقبول على نحو معنوي ومن ثمة لا مادي، وكون العارف عارفا معناه أنه حاصل على معنى المعروف وأنه من ثمة مشارك في اللامادية كي يتسنى له قبول المعروف على هذا النحو.
والتصوريون على حق حين يقولون: ليست تحدث المعرفة في الشيء المعروف؛ إذ كيف يمكن للعارف أن يخرج عن كيانه، وكيف يمكن أن يتوجه صوب الشيء وهو لم يعرفه؟ وهم على حق حين يقولون: إن المعرفة تتم في العارف، ولكنهم يخطئون إذ يعتقدون أن هذه القضية تقضي باستبعاد الشيء الخارجي. إن باطنية المعرفة لا تنافي التأثر بالشيء، فلئن كانت المعرفة باطنة من حيث هي فعل نفسي، فإنها تستلزم الشيء. يسألون: كيف يجيء الشيء إلى الذهن؟ والجواب: أنه وإن كان ماديا، وكان من هذا الوجه مغايرا للذهن، إلا أنه «فكر» هو أيضا بصورته، أي بمعناه وماهيته. فتأثيره في العارف حركة مادية تحمل صورة أو معنى. إن شهادة الوجدان صريحة قاطعة بأننا أول الأمر ندرك الشيء ذاته، ثم ندرك هذا الإدراك بانعكاسنا على نفسنا، فنعلم أنه الفعل الذي به أدركنا، لا أنه ما أدركنا. ولا حاجة لإقامة «جسر» من الذهن إلى الشيء كما يقولون، وخاصية الذهن أنه نسبي إلى الشيء لا يحدث فيه تصور إلا بوجود الشيء. وماذا يفيد التصوريون من تمييزهم بين فكر خالص وفكر شخصي؟ هل يعتقدون أنهم ينقذون به العلم حقا؟ إن العلم علم بموجودات، ولو صحت التصورية لما دارت العلوم على موجودات، بل على معان متصورة فقط. (2) وجود العالم الخارجي
ننتقل من هذه الاعتبارات العامة إلى اعتبارات خاصة بوجود العالم الخارجي وقيمة إدراكنا له، فنرى ضروبا من التناقض عجيبة، ومحاولات كثيرة هي أشبه بمحاولة تربيع الدائرة، من حيث إن التصوريين يدعون تعليل الظاهر بالباطن، وتعليل الامتداد، ويتحدثون عن «التجربة» وهم يقصدون ما يبدو في الذهن من تصورات تلوح آتية من خارج، ولا يقصدون تأثرنا بأشياء مغايرة لنا. العجب كل العجب من أساطين التصورية، ليبنتز ومالبرانش وباركلي، نسبة تصوراتنا إلى إلهام من لدن الله: كيف لم يفطنوا إلى أنهم يعزون لله عبثا وتلبيسا منافيين لحكمته وصدقه كل المنافاة؟ هل يعقل أن يريد الله أو أن يسمح أن نحيا في وهم قاهر متصل، فنصدق بوجود أشياء، ونصدر عليها أحكاما وهي غير موجودة؟! ولم خلق الله لنا الحواس (أو ما يبدو كذلك) بأجهزة تدل على أنها مرتبة لإدراك أشياء مادية، ثم فوت عليها غايتها هذه طبعا ودائما وحل هو محلها؟ ولم كان الفاقد حاسة فاقدا المدركات التي تكتسب (أو يبدو أنها تكتسب) بتلك الحاسة، فلا يحصل الأكمه مثلا على معرفة بالألوان مهما أسهبنا له في الشرح، ولا الأصم الأخرس منذ ميلاده على معرفة بالأصوات؟ وقد ذهب مالبرانش إلى حد القول إننا نرى الأشياء في الله، وهذا يستلزم أننا نعرف وجود الله وصفاته معرفة بديهية يقينية. والواقع أننا لا نحصل على هذه المعرفة إلا بالبرهان، بل إن كثيرين لا يحصلون عليها.
ومن بينهم فلاسفة مشاهير، أمثال هيوم ومل وكنط، يستعظمونها على مقدرة العقل، فلا يلجئون إلى الله لتعليل اعتقادنا بوجود الأشياء، ولكنهم لا يوفقون إلى تعليل معقول: فكل ما اهتدى إليه هيوم ومل هو أنه اعتقاد بإمكان حصولنا على عين الإحساسات كلما شئنا ذلك. وكيف يمكن أن نحل على عين الإحساسات إذا لم يكن هناك شيء؟ ومن أين يجيء الدوام للإمكان؟ إن لفظ «الإمكان الدائم» معادل للفظ «الضرورة»، وإلا لم يكن له معنى على الإطلاق، فالواجب الاعتراف بضرورة أساس واقعي للإمكانيات الدائمة للإحساسات. فالواجب الاعتراف بأن مجرد التساؤل عن موضوعية الإدراك الظاهر أو وجود العالم الخارجي يؤذن بأن المسألة قد جلت ضد التصورية من حيث إنه لا يمكن التحدث عن الوجود إلا وقد عرفناه. إننا لا نشعر بوقت أول تكون فيه التصورات باطنة، ووقت تال «نقذف» فيه بها إلى خارج فتنقلب ظاهرة، كما يقولون.
وقد تضافروا على جحد الامتداد بحجة أن الإحساس فعل نفسي بسيط، فلا يكون موضوعه ممتدا. وأدلى كل بدليل، وحاول كل تعليل حصولنا على هذه الفكرة. قال باركلي: إن المسافة خط أفقي بالنسبة إلى العين، وإنها من ثمة تلقي بنقطة واحدة على قاع العين، سواء أطالت المسافة أم قصرت، فليس الامتداد مدركا بالبصر. هذا القول كان ينهض لو كنا نرى نقطة واحدة فقط، وكنا نراها بعين واحدة جامدة ساكنة. والواقع أن العين تبصر دائما سطحا مهما يكن صغيرا، وأنها تطوف بحدود السطح المرئي، وتتابع اقترابه أو ابتعاده، وذلك بتحريك عضلاتها وتعديل انحناء عدستها، فندرك المسافة.
وارتأى كنط أن الامتداد صورة ذهنية يضيفها الذهن إلى المحسوس، بدليل أن التجربة جزئية حادثة. ونحن نتصور المكان كليا، أي لا متناهيا، ونتصوره ضروريا من وجهين: أحدهما أننا لا نستطيع تصور انعدامه مع استطاعتنا تصوره خلوا من كل شيء، والوجه الآخر أن القضايا الهندسية ضرورية، والهندسة علم المكان، فالمكان ضروري. والرد على كنط يسير، فأولا: ليس بصحيح أننا نتصور المكان لا متناهيا؛ فالعقل يحكم بتناهي المادة الموجودة بالفعل، والمخيلة هي التي تتخيل مكانا وراء مكان دون أن يتم لنا تخيل اللانهاية بالفعل. ثانيا: أن العجز عن تصور انعدام المكان يرجع كذلك إلى المخيلة؛ لأن وظيفتها إدراك الصور الخيالية، وأن من غير الممكن وجود صورة خيالية للعدم. ولكن العقل يحكم بعدم المكان حيث لا يوجد جسم، ويحكم بعدم المكان إطلاقا إذا افترضنا انعدام الطبيعة بما فيها من أجسام. ثالثا: أن ضرورة القضايا الهندسية لا تحتم صدورها عن العقل الخالص بحدودها ونسبها، كما يريد كنط، بل من السائغ جدا أن نقول - على مذهب أرسطو - إننا نكتسب بالحواس صور الأمكنة الجزئية الحادثة، ثم نجرد منها معنى المكان البحت بأقطاره الثلاثة، والمعنى المجرد كلي ضروري كما نعلم، والقضايا التي تضيف إليه محمولات ذاتية هي كذلك كلية ضرورية.
وظن هربرت سبنسر أنه يرفع التعارض الذي يبدو بين فكرة الامتداد وبساطة الإحساس، ويعلل فكرتي المكان البصري والمكان اللمسي فيقول عن تكوين فكرة المكان بالبصر: إن انفعالات الحواس تستمر وقتا قصيرا بعد حدوثها، فحين تنفعل خلايا الشبكية على التوالي وبسرعة كافية بحيث يبدأ انفعال الأخيرة منها قبل انتهاء انفعال الأولى، وتظل سلسلة الخلايا وقتا قصيرا في حال انفعال لاستمرار انفعال الواحدة في انفعال جارتها؛ تظهر هذه السلسلة من الانفعالات المتعاقبة السريعة كأنها سلسلة متقارنة، فنشعر بالمكان. ويقول عن تكون فكرة المكان باللمس: حين نمشي اليد على قطعة من الأثاث نشعر بسلسلة من الإحساسات اللمسية، وحين نمشي اليد في الاتجاه العكسي نشعر بمثل تلك الإحساسات فنشعر بالمكان؛ إذ إن هذا التشابه أو التعادل بين السلسلتين سببه تقارن آحادهما من جراء سرعة التعاقب. وبعبارة واحدة: إن الإحساس بالتجاور في المكان يفسر بالإحساس بالتقارن في الزمان، وهذا يفسر بدوره بمراجعة سريعة لسلسلة من الإحساسات (البصرية أو اللمسية) المدركة متعاقبة أول الأمر. وهذه تفسيرات واهية، فأولا: إن انفعالين مختلفين نشعر بهما في نفس الوقت، كالخوف على حياة شخص عزيز والأمل في شفائه، لا يحتلان نقطتين من المكان. وثانيا: إذا كنا نستطيع عكس السلسلة في لمس قطعة الأثاث فذلك؛ لأن هذه القطعة ممتدة باقية بجميع أجزائها وأن التقارن المكاني متحقق فيها. وثالثا: أن سبنسر يناقض نفسه مناقضة صارخة؛ إذ يتحدث عن أجزاء الشبكية وأجزاء الأثاث، أي عن المكان الذي يعتبره محض تصور، ويحاول أن يفسر وجوده في أذهاننا!
وهذا شأن جميع التصوريين: لا يستطيعون عرض مذهبهم إلا بافتراض وجود العالم الخارجي. والواقع أن هذا الوجود مفروض علينا في النظر وفي العلم، وأننا نميز في جسمنا وفي محيطنا بين يمين ويسار، وأعلى وأسفل، ونضع كل إحساس في الموضع المتأثر به، ولم نكن لنفعل ذلك لو لم يكن جسمنا ممتدا ذا أجزاء، وكانت الأشياء من حولنا ممتدة ومحسوسة كذلك؛ فإن العين لا ترى لونا إلا وهو منبسط على سطح مهما يكن صغيرا، ولا يحس اللمس شيئا إلا ويحس الامتداد، ولا نشم رائحة إلا ونحسها منتشرة في المنخرين، ولا نتذوق طعاما إلا ونحسه منتشرا على اللسان. فإذا كان الإحساس فعلا بسيطا، فليس موضوعه بسيطا أيضا.
Página desconocida