العقيدة الواسطية
تصنيف
شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني المتوفى سنة ٧٢٨ هـ بدمشق رحمه الله تعالى
كتبها سنة ٦٩٨ هـ إجابة لطلب أحد قضاة واسط
تقريظ الأديب على زين العابدين خريج الكلية الحربية بمصر:
تلك (العقيدة) ما أجل سناها ... قبس يشع على القلوب هداها
فيها من القرآن كل فضيلة ... تهدي الضليل إلى الهدي بضياها
فيها الفلاح لمن أراد سعادة ... في الدين والدنيا إذا يغشاها
زفت لنا (الإيمان) أجلى صورة ... وروت (صفات الله) في معناها
جلت عن التعطيل والتكييف والتشبية والتمثيل ما أسماها
فتمسكن بعرى العقيدة إنها ... وثقت وصيغ من الهدى مبناها
وزهت بتصحيح (ابن مانع) الذي ... زاد العقيدة قوة وجلاها
فإذا بها شمس يشع ضياؤها ... في كل قلب ضمها ووعاها
علق حواشيها وأشرف على تصحيحها فضيلة العلامة الشيخ: محمد بن عبد العزيز بن مانع مدير المعارف العام - أجزل الله له الثواب وأدامه ذخرًا للعلم وطلابه.
1 / 1
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم (١)
الحمد لله الذي (٢) أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه (٣) وعلى آله وسلم تسليمًا مزيدا.
أما بعد: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنة والجماعة، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره.
الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل (٤)
بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
_________
(١) قوله بسم الله، الجار والمجرور متعلقان بمحذوف والمختار كونه فعلًا خاصًا متأخرًا والتقدير أؤلف حال كوني مستعينًا بذكر الله متبركًا به ولفظ الجلالة دال على الصفة القائمة به تعالى وهي الإلهية قال ابن عباس: الله ذو الإلهية والعبودية على خلقه أجمعين، قوله الرحمن الرحيم صفتان لله فالرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم يظهر ذلك بتأمل قوله تعالى (وكان بالمؤمنين رحيما).
(٢) قوله الحمد لله نقيض الذم وهو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون باللسان والجنان والأركان كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجّبا
(٣) قوله: ﷺ أصح ما قيل في صلاة الله على عبده هو ما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة.
(٤) قوله: من غير تحريف ولا تعطيل، قال الراغب تحريف الشيء إمالته =
1 / 2
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته (١) ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه (٢) لأنه سبحانه لا سميّ (٣) له، ولا كُفُوَ له، ولا نِدَّ له (٤) ولا يقاس
_________
= كتحريف القلم. وتحريف الكلام: أن نجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال الله ﷿ (يحرفون الكلم عن مواضعه) وصفات الله داله على معان قائمة بذات الرب ﷻ لا تحتمل غير ذلك فيجب الإيمان والتصديق بها وإثباتها لله إثباتًا بلا تمثيل لأنه ليس كمثله شيء وتنزيهًا له تعالى عن مشابهة خلقه بلا تعطيل، والتعطيل جحد الصفات الإلهية وإنكار قيامها بذاته تعالى كما هو قول المعتزلة والجهمية، وكذلك لا تكيف صفاته كما لا تكيف ذاته ولا تمثل ولا تشبه بصفات المخلوقين لأنه ليس له كفء ولا مثيل، ولا نظير، ويرحم الله ابن القيم حيث قال:
لسنا نشبه وصفَه بصفاتنا ... إن المشبِّه عابدُ الأوثان
كلاّ ولا نُخليه من أوصافنا ... إن المعطِّل عابدُ البهتان
من شبَّه الله العظيم بخلقه ... فهو الشبيه لمشْركٍ نصراني
أو عطَّل الرحمن من أوصافه ... فهو الكفور وليس ذا الإيمان
(١) الإلحاد إما يكون بجحدها وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات، وإما بجعلها اسمًا لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الإلحاد.
(٢) لأن الصفة تابعة للموصوف فكما أن الموصوف سبحانه لا تعلم كيفية ذاته فكذلك لا تعلم كيفية صفاته مع أنها ثابتة في نفس الأمر.
(٣) أي مثيلًا ونظيرًا يستحق اسمه وموصوفًا يستحق صفته على التحقيق، وليس المعنى ما نجد من يتسمى باسمه إذ أن كثيرًا من أسمائه قد يطلق على غيره لكن ليس معناه إذا استعمل فيه كان معناه كما إذا استعمل في غيره.
(٤) الأنداد: الأمثال والنظراء، فكل من صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله رغبة فيه أو رهبة منه فقد اتخذه ندًا لله لأنه أشرك مع الله فيما لا يستحقه غيره وذلك كحال عباد الأموات الذين يستعينون بهم وينذرون لهم ويحلفون بأسمائهم.
1 / 3
بخلقه ﷾ فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه. ثم رسله صادقون مصدوقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال (سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين) فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمىَّ به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون. فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن حيث يقول: (قل هو الله أحد الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد) وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسِيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما - أي لا يَكْرِثه ولا يُثْقِلُه (١) - وهو العلي العظيم) ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح. وقوله سبحانه: (هو الأول والآخِر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) وقوله سبحانه: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) وقوله (وهو العليم الحكيم)، (وهو الحكيم الخبير)، (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها) - (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر
_________
(١) قال في القاموس وشرحه: كرثة الأمر والغم يكرثه بالكسر ويكرثه بالضم اشتد عليه وبلغ منه المشقة، قال وكل ما أثقلك فقد كرثك، قال الأصمعي لا يقال كرثة وإنما يقال أكرثه.
1 / 4
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وقوله: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) وقوله: (لتعلموا أنَّ الله على كل شيء قدير وأنَّ الله قد أحاط بكل شيء علمًا) وقوله: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) وقوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وقوله: (إن الله نِعِمَّا يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا) وقوله: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) - (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) وقوله: (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يُتلى عليكم غير محلىِّ الصيدِ وأنتم حُرُم.
إن الله يحكم ما يريد)، وقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء) وقوله: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) - (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) - (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) - (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) وقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وقوله: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) وقوله: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص) وقوله: (وهو الغفور الودود) وقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) - (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) - (وكان بالمؤمنين رحيما) - (ورحمتي وسعت كل شيء) - (كتب ربكم على نفسه الرحمة) - (وهو الغفور الرحيم) - (فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين) وقوله: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) وقوله: (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه) وقوله: (ذلك بأنهم اتَّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه)، وقوله: (فلما آسفونا انتقمنا منهم) وقوله: (ولكن كرهَ الله انبعاثهم فثبطهم) وقوله: (كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وقوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر)، وقوله: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم
1 / 5
الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك) - (كلا إذا دُكَّت الأرض دكًا دكا وجاء ربك والملك صفًا صفا) - (ويوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) وقوله: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) - (كل شيء هالك إلا وجهه) وقوله: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) - (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) وقوله: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) - (وحملناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر) - (وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني) وقوله: (قد سمع
الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) وقوله: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) - (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، بلى ورسلنا لديهم يكتبون) وقوله: (إنني معكما أسمع (١) وأرى) وقوله: (ألم يعلم بأن الله يرى) - (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم) - (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وقوله: (وهو شديد المحال) (٢)
وقوله: (ومكروا ومكر الله (٣) والله خير الماكرين)،
_________
(١) قوله إنني معكما أسمع وأرى، قال شيخ الإسلام بعد كلام سبق، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه لو قال في قوله إنني معكما أسمع وأرى كيف يسمع وكيف يرى، لقلنا السمع والرؤية معلوم والكيف مجهول، ولو قال كيف كلم موسى تكليمًا لقلنا التكليم معلوم والكيف غير معلوم اهـ
(٢) وهو شديد المحال أي الأخذ بالعقوبة.
وقال ابن عباس شديد الحول، وقال مجاهد شديد القوة.
(٣) قوله، والله خير الماكرين: قال بعض السلف في تفسير المكر يستدرجهم بالنعم إذا عصوه ويملي لهم، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. قال الحسن من وسَّع الله عليه فلم يَرَ أنه يمكر به فلا رأي له، وقد جاء في الحديث إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج والله جل وعلا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بهما لكن ليس المكر كالمكر ولا الكيد كالكيد، ولله المثل الأعلى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
1 / 6
وقوله: (ومكروا مكرًا ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون)، وقوله: (إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا) وقوله: (إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوًا قديرا) - (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم)، وقوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، وقوله عن إبليس: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين)، وقوله: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام)، وقوله: (فاعبده واصطبر لعبادته، هل تعلم له سميا (١» - (ولم يكن له
كفوًا أحد)، (فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون) - (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله) - (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) - (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) - (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرًا) - (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون، عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) - (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) - (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله
_________
(١) قال شيخ الإسلام قال أهل اللغة هل تعلم له سميًا أي نظيرًا استحق مثل اسمه ويقال مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس هل تعلم له سميا مثيلًا أو شبيهًا اهـ. وقد سبق ذكر حاشيته بهذا المعنى مفيدة فلتراجع.
1 / 7
ما لا تعلمون) وقوله: (الرحمن (١) على العرش استوى) (٢) في سبعة مواضع: في سورة الأعراف قوله: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)، وقال في سورة يونس ﵇: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)، وقال في سورة الرعد (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها
_________
(١) قوله الرحمن على العرش استوى: الاستواء هو العلو والارتفاع
فهو سبحانه كما أخبر عن نفسه فوق مخلوقاته مستو على عرشه وقد عبر أهل السنة عن ذلك بأربع عبارات ومعناها واحد وقد ذكرها ابن القيم في النونية حيث قال:
فلهم عبارات عليها أربع ... قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار ... تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع ... وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ... أدرى من الجهمي بالقرآن
والأشعري يقول تفسير استوى ... بحقيقة استولى من البهتان
(تنبيه) وقع في بعض الكتب التي زعم مؤلفوها أنها على مذهب السلف عبارة باطلة وهي كما في رسالة نجاة الخلف في اعتقاد السلف قال: فالله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو على ما عليه كان قبل خلق المكان اهـ
وهذا إنما يقوله من لم يؤمن باستواء الرب على عرشه من المعطلة، والحق أن يقال: إن الله تعالى كان وليس معه غيره ثم خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء ثم استوى على العرش، وثم هنا للترتيب لا لمجرد العطف. قال ابن القيم في النونية:
والله كان وليس شيء غيره ويرى البرية وهي ذو حدثان
وقال غيره:
قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه ... ومن علمه لم يخل في الأرض موضع
(٢) قوله: في سبعة مواضع: وقد بينها ابن عدوان في نظمه لهذه العقيدة فقال:
وذكر استواء الله في كلماته ... على العرش في سبع مواضع فاعدد
ففي سورة الأعراف ثمت يونس ... وفي الرعد مع طه فللعد أكد
وفي سورة الفرقان ثمت سجدة ... كذا في الحديد افهمه فهم مؤيد
1 / 8
ثم استوى على العرش) وقال في سورة طه: (الرحمن على العرش استوى) وقال في سورة الفرقان: (ثم استوى على العرش الرحمن) وقال في سورة ألم السجدة: (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) وقال في سورة الحديد: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) وقوله: (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) - (بل رفعه الله إليه) - (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) - (يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا) - (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا فستعلمون كيف نذير) وقوله: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم إينما كنتم والله بما تعملون بصير) - (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم) وقوله: (لا تحزن إن الله معنا) - (إنني معكما أسمع وأرى) - (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) - (واصبروا إن الله
مع الصابرين) - (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) وقوله: (وَمَنْ أصدق من الله حديثًا) - (ومن أصدق من الله قيلا) - (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم) - (وتمت كلمت ربك صدقًا وعدلا) - (وكلم الله موسى تكليما) - (منهم من كلم الله) - (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلَّمه ربه) - (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا) - (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين) - (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) - (ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم المرسلين) - (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) -
1 / 9
(وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) - (يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) - (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته) - (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) - (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) - (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله) - (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) - (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين، ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) وقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) - (على الأرائك ينظرون) - (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) (١)
- (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) وهذا الباب في كتاب الله كثير، من تدبر القرآن طالبًا للهدى منه تبين له طريق الحق.
_________
(١) قال ابن رجب في شرح حديث جبريل وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ، تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى في الجنة قال: وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته فكان جزاؤه ذلك النظر إلى وجه الله عيانًا في الآخرة اهـ ..
1 / 10
الإيمان بما وصف الرسول ﷺ به ربه
ثم في سنة رسول الله ﷺ
فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه (١) وما وصف الرسول به ربه ﷿ من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها (٢).
فمن ذلك مثل قوله ﷺ: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) متفق عليه. وقوله ﷺ: (لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته) الحديث متفق عليه. وقوله ﷺ: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة) متفق عليه. وقوله (٣):
(عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره (٤)، ينظر إليكم أزلين (٥) قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرَجكم قريب)
_________
(١) قال ابن عدوان:
وسنة خير المرسلين محمد ... تفسر آيات الكتاب الممجد
تبينه للطالبي سبل الهدى ... تدل عليه بالدليل المؤكد
(٢) وما أحسن قول ابن عدوان ناظم هذه العقيدة:
ودع عنك تزويقات قوم فإنها ... بحلتها التعطيل يا صاح ترشد
(٣) قال ابن عدوان:
ويعجب ربي من قنوط عباده ... فألق لما بينت سمعك واهتد
وفي رقية المرضى مقال نبينا ... ألا ارق به رضاك يا ذا التسدد
رواه أبو داود يا ذا وغيره ألا احفظ هداك الله سنة أحمد
(٤) اسم من قولك غيرت الشيء فتغير قال أبو السعادات وفي حديث الاستسقاء من يكفر بالله يلق الغير: أي تغير الحال وانتقالها من الصلاح إلى الفساد.
(٥) الأزل الشدة والضيق: وقد أزل الرجل يأزل أزلا، أي صار في ضيق وحدب كأنه أراد من يأسكم وقنوطكم.
1 / 11
حديث حسن. وقوله ﷺ: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله - وفي رواية عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط) متفق عليه. وقوله: (يقول تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار) متفق عليه. وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان). وقوله في رقية المريض: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره. وقوله: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) حديث صحيح. وقوله: (والعرش فوق الماء والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) حديث حسن رواة أبو داود وغيره. وقوله للجارية: (أين الله (١)؟)
قالت: (في السماء) قال: (من أنا؟) قالت: (أنت رسول الله) قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) رواة مسلم. (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت) حديث حسن. وقوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه فإن الله قبل وجهه. ولكن عن يساره أو تحت قدمه) (٢) متفق عليه. وقوله صلى الله
_________
(١) قوله: أين الله. هذا فيه رد على أهل البدع المنكرين لعلو الله على خلقه فنزهوه بجهلهم عما رضي به رسوله فقالوا منزه عن الأين؟ وذلك جهل وضلال والحق ما جاءت به السنة.
قال ابن عدوان:
وقد جاء لفظ الأين من قول صادق ... رسول إله العالمين محمد
كما قد رواه مسلم في صحيحه ... كذلك أبو داود والنسائي قد
(٢) قال شيخ الإسلام في العقيدة الحموية، وكذلك قوله ﷺ: إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه. الحديث حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوق، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر، لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضًا قبل وجهه اهـ.
1 / 12
عليه وسلم: (اللهم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء خالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر) رواة مسلم. وقوله لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه. وقوله: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) متفق عليه. إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله ﷺ عن ربه بما يخبر به فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك (١)
كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرقة الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم فهم وسط في باب صفات الله ﷾: بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة (٢):
_________
(١) قال ابن عدوان النجدي المتوفى سنة ١١٧٩:
وسلم لأخبار الصحيحين يا فتى ... ولكن عن التمثيل وفقت أبعد
ودع عنك تزويقات قوم فإنها ... بحلتها التعطيل يا صاح ترشد
(٢) قوله: بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة: التعطيل هو نفي الصفات الإلهية، عن القيام بالذات العلية وتأويلها بلا دليل صحيح، ولا عقل صريح كقولهم رحمة الله إرادته الإحسان والإنعام، ويده قدرته، واستواؤه على العرش، استيلاؤه عليه كل هذا وأمثاله من التعطيل، وما حملهم على ذلك إلا الظن الفاسد، والرأي الكاسد، ولقد أحسن القائل حيث يقول:
وقصارى أمر من أو ... ل أن ظنوا ظنونا
فيقولون على الر ... حمن ما لا يعلمونا
والجهمية المعطلة، هم أتباع الجهم بن صفوان الترمذي. رأس الفتنة والضلال، وهم في هذا الباب طائفتان، نفاه ومثبتة، فالنفاه قالوا: لا ندري أين الله، فلا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، فلم يؤمنوا بقول الله، وهو القاهر فوق عباده وقول النبي للجارية: أين الله، وغير ذلك من أدلة الكتاب والسنة، وأما المثبتة من فرقتي الضلال، فهم الذين يقولون: إن الله في كل مكان تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، فإنه سبحانه فوق مخلوقاته، مستو على عرشه بائن من خلقه، وأما أهل التمثيل المشبهة، فهم الذين شبهوا الله بخلقه ومثلوه بعباده، وقد رد الله على الطائفتين بقوله (ليس كمثله شيء) فهذا يرد على المشبهة وقوله: (وهو السميع البصير) يرد على المعطلة، وأما أهل الحق، فهم الذين يثبتون الصفات لله تعالى، إثباتًا بلا تمثيل، وينزهونه عن مشابهة المخلوقات تنزيهًا بلا تعطيل.
1 / 13
وهم وسط (١)
في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب (٢)
_________
(١) قوله: وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية، اعلم أن الناس اختلفوا في أفعال العباد، هل هي مقدوره للرب أم لا، فقال جهم وأتباعه وهم الجبرية: إن ذلك الفعل مقدور للرب لا للعبد، وكذلك قال الأشعري وأتباعه: إن المؤثر في المقدور قدرة الرب لا قدرة العبد، وقال جمهور المعتزلة: وهم القدرية أي نفاه المقدر: إن الرب لا يقدر على عين مقدور العبد، واختلفوا هل يقدر على مثل مقدوره فأثبته البصريون كأبي علي وأبي هاشم، ونفاه الكعبي وأتباعه البغداديون، وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاه، وهي مخلوقة لله تعالى والحق سبحانه منفرد بخلق المخلوقات، لا خالق لها سواه، فالجبرية غلوا في إثبات القدر، فنفوا فعل العبد أصلًا، والمعتزلة نفاه القدر، جعلوا العباد خالقين مع الله، ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة. وهدى الله المؤمنين أهل السنة، لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فقالوا: العباد فاعلون، والله خالقهم وخالق أفعالهم، كما قال تعالى (والله خلقكم وما تعملون) وهذه المسألة من أكبر المسائل التي تضاربت فيها آراء النظار، وقد ألفت فيها كتب خاصة كشفاء العليل في القضاء والقدر، والحكمة والتعليل لشمس الدين ابن القيم، ولم يهتد إلى الصواب فيها إلا من اعتصم بالكتاب والسنة:
مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد
(٢) وقوله: وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم قال في التعريفات المرجئة: قوم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وقال القسطلاني في شرح البخاري: المرجئة نسبة إلى الإرجاء أي التأخير لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق، هم فرقتان كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في الفرقان الأولى الذين قالوا إن الأعمال ليست من الإيمان ومع كونهم مبتدعة في المقول الباطل، فقد وافقوا أهل السنة، على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة كما جاءت به الأحاديث الصحيحة وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم به بلسانه، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة، وتاركها مستحق للذم والعقاب، وقد أُضيف هذا القول إلى بعض الأئمة من أهل الكوفة، وأما الفرقة الثانية فهم الذين قالوا إن الإيمان مجرد التصديق بالقلب، وإن لم يتكلم به، فلا شك أنهم من أكفر عباد الله، فإن الإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، فإذا اختل واحد من هذه الأركان لم يكن الرجل مؤمنًا.
وأما الوعيدية فهم القائلون بالوعيد، وهو أصل من أُصول المعتزلة، وهو أن الله لا يغفر لمرتكب الكبائر إلا بالتوبة، ومذهبهم باطل يرده الكتاب والسنة، قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وقال ﵊: (من مات من أُمتي لا يشرك الله شيئًا دخل الجنة) قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وإن زنى وإن سرق). فمذهب أهل السنة حق بين باطلين، وهدى بين ضلالتين كما سمعت والله أعلم.
1 / 14
وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم وفي باب (١)
أسماء الإيمان
_________
(١) قوله: وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. الحرورية هم الخوارج واعلم أن الناس تنازعوا قديمًا في الأسماء والأحكام، أي أسماء الدين مثل: مؤمن ومسلم وكافر وفاسق، وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدنيا، فلم يستحلوا من دماء الفساق الموحدين وأموالهم ما استحلته الخوارج من الفاسق المِلليِّ مرتكب الكبائر لأن الخوارج يرون ذلك كفرًا، وإنما وافقوهم على حكمهم في الآخرة وهو الخلود في النار، وأما في الدنيا فخالفوهم في الاسم، فقالوا: مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر، فهو بمنزلة بين المنزلتين وهذا أصل من أُصول المعتزلة. وهو خاصة مذهبهم الباطل. وأما مذهب المرجئة فقد تقدم أنهم قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية ومذهب أهل الحق خلاف هذين المذهبين، فلا يقولون بقول الخوارج والمعتزلة ويخلدون عصاه الموحدين بالنار، ولا يقولون بقول المرجئة: إن المعصية لا تضرهم، بل العبد الموحد مأمور بالطاعات منهي عن المعاصي والمخالفات، فيثاب على طاعته ويعاقب على معصيته إن لم يعف الله عنه، والبحث طويل لا تتسع له مثل هذه الحواشي، وإنما قصدنا بذلك تنبيه الطالب إلى مآخذ هذه المسائل. أما عطف الجهمية على المرجئة كما في نسختنا فليس للمغايرة، فإن المرجئة جهمية أيضًا، فالجهم هو الذي ابتدع التعطيل والتجهم والإرجاء والجبر، قال في النونية:
جيم وجيم ثم جيم معهما ... مقرونة مع أحرف بوزان
فإذا رأيت النور فيه يقارن الـ ... جيمات بالتثليث شر قران
دلت على أن النحوس جميعها ... سم الذي قد فاز بالخذلان
جبر وإرجاء وجيم تجهم ... فتأمل المجموع في الميزان
فاحكم بطالعها لمن حصلت له ... بخلاصة من ربقة الإيمان
والجهم أصلها جميعًا فاغتدت ... مقسومة في الناس بالميزان
لكن نجا أهل الحديث المحض أتـ ... ـباع الرسول وتابعوا القرآن
عرفوا الذي قد قال مع علم بما ... قال الرسول فهم أُولو العرفان
1 / 15
والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية وفي أصحاب رسول الله ﷺ بين الرافضة والخوارج (١).
_________
(١) فالرافضة كفروهم والخوارج كفروا بعضهم، وأهل الحق عرفوا فضلهم كلهم، وأنهم أفضل هذه الأمة إسلامًا وإيمانًا وعلمًا وحكمة ﵃ أجمعين.
1 / 16
الإيمان بأنه فوق عرشه
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه على خلقه وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير). وليس معنى قوله وهو معكم أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله - من أنه فوق العرش وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف.
ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله (في السماء) أن السماء تقله أو تظله وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره.
الإيمان بأنه قريب مجيب
وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب كما جمع بين ذلك في قوله: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) الآية. وقوله ﷺ: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وما ذكر في الكتاب
1 / 17
والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو عليُّ في دنوه قريبٌ في علوه.
الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق
ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد ﷺ هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية (١) عن كلام الله أو عبارة (٢) بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة (٣) فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا، وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني (٤) ولا المعاني دون الحروف (٥).
الإيمان برؤية المؤمنين لربهم
وقد دخل أيضًا فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عيانًا بأبصارهم كما يرون الشمس صحوًا ليس بها سحاب وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون (٦)
في رؤيته يرونه سبحانه
_________
(١) كما هو قول الكلابية
(٢) كما هو قول الأشعرية
(٣) كما هو قول أهل السنة
(٤) هذا قول المعتزلة
(٥) هذا قول الأشاعرة
(٦) قوله: لا يضامون في رؤيته، وفي الحديث لا تضامون في رؤيته، قال في النهاية يروى بالتشديد والتخفيف: فالتشديد معناه لا ينضم بعضكم إلى بعض، وتزدحمون وقت النظر إليه، ويجوز ضم التاء وفتحها، ومعنى التخفيف لا ينالكم ضيم في رؤيته، فيراه بعضكم دون بعض، والضيم الظلم، وقد اتفق أهل الحق على أن المؤمنين يرونه يوم القيامة من فوقهم كما قال في الكافية الشافية:
ويرونه سبحانه من فوقهم ... نظر العيان كما يرى القمران
هذا تواتر عن رسول الله لم ... ينكره إلا فاسد الإيمان
1 / 18
وهم في عرصات (١) القيامة ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله تعالى.
الإيمان بما بعد الموت
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت. فيؤمن بفتنة القبر، وبعذاب القبر ونعيمه. فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم فيقال للرجل: ما ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: ربي الله والإسلام ديني ومحمد ﷺ نبيي. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته: فيضرب بمرزبة (٢) من حديد فيصيح صيحة سمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق - ثم بعد هذه الفتنة - إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا (٣) وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) وتنشر الدواوين - وهي صحائف الأعمال - فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء
_________
(١) العرصات: جمع عَرصَه، وهي كل موضوع واسع لا بناء فيه.
(٢) المرزبة بالتخفيف: المطرقة الكبيرة، ويقال لها إرزبة بالهمزة والتشديد.
(٣) الغرل جمع أغرل، وهو الأقلف، والغرلة: القلفة.
1 / 19
ظهره كما قال ﷾: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه (١) ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنه لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها وُيقَرَّون بها. وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي ﷺ ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، وطوله شهر وعرضه شهر من يشرب منه شربة لا يضمأ بعدها أبدا.
والصراط منصوب على متن جهنم وهو الجسر الذي بين الجنة والنار يمر الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يَعْدو عدْوًا ومنهم من يمشي مشيًا ومنهم من يزحف زحفًا ومنهم من يخطف خطفًا ويلقى في جهنم. فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة، فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هُذِّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.
وأول من يستفتح باب الجنة محمد ﷺ، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته وله ﷺ في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم من الشفاعة حتى تنتهي إليه. وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له، وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه
_________
(١) قال الراغب: أي عمله الذي طار عنه من خير وشر ..
1 / 20