Creencias de los Pensadores
عقائد المفكرين
Géneros
كلمة تقديم
ما هي العقيدة الدينية؟
سمة العصر
مركز الكون
قوانين المادة
مذهب التطور
المقارنة بين الأديان
مشكلة الشر
محصل وتمهيد
عقائد العلماء
Página desconocida
عقائد الأدباء
عقائد الفلاسفة
الفلاسفة الوجوديون
العقيدة الأخلاقية
بعد مليون سنة
تعقيب
كلمة على الغلاف
كلمة تقديم
ما هي العقيدة الدينية؟
سمة العصر
Página desconocida
مركز الكون
قوانين المادة
مذهب التطور
المقارنة بين الأديان
مشكلة الشر
محصل وتمهيد
عقائد العلماء
عقائد الأدباء
عقائد الفلاسفة
الفلاسفة الوجوديون
Página desconocida
العقيدة الأخلاقية
بعد مليون سنة
تعقيب
كلمة على الغلاف
عقائد المفكرين
عقائد المفكرين
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة تقديم
تجدد البحث في الحضارة الأوروبية الحديثة في مسألة العقيدة الدينية، وشعر كثير من المفكرين أبناء القرن العشرين بخواء النفس من جراء مبادئ الإنكار والتعطيل التي شاعت خلال القرن التاسع عشر، واجتهد بعضهم في التوفيق بين أصول العلم وأصول الإيمان، وحاول آخرون أن يتخذوا لهم ديانة خاصة يطمئنون إليها بعقولهم وضمائرهم ويجدون عندها راحة القلب والبصيرة، وأسفرت هذه البحوث عن اتجاه جديد لا يزال في مفتتح الطريق، فما هو هذا الاتجاه الجديد؟ وإلى أين تنتهي هذه الطريق؟
Página desconocida
هل لها مرحلة أخرى ينتظرها الباحثون والمفكرون؟ وهل تستقيم الخطى بعد هذه الخطوة المترددة على منهاج واضح المعالم والغايات؟
في الصفحات التالية جواب هذا السؤال. ونرجو أن يكون جوابا شاملا لوجهات النظر المختلفة، بما يستطاع من الإيجاز في هذا الحيز المحدود.
وظاهر مما تقدم، ومن عنوان الكتاب، أننا نقصر القول على القرن العشرين، فلا نعرض لآراء المفكرين التي سلفت قبل شيوع المباحث الأخيرة في العلوم ومذاهب الأخلاق، ولا نتحدث عن العقائد الموروثة التي يتساوى فيها حكم القرن العشرين وما تقدمه من القرون، فليس للتفكير الخاص بالقرن العشرين علاقة بهذا الموضوع.
كذلك لا نتعرض لأقوال المنكرين الذين جزموا بالإنكار وأوهموا أنفسهم أنه هو الحل الأخير لمسألة الدين ومسألة الحياة والوجود على العموم، فإن الاعتقاد هو الذي نعنيه وهو الذي تجددت له أسباب في القرن العشرين لم تكن ظاهرة في القرون القريبة التي سبقته ... أما الإنكار فلا جديد عليه من علوم القرن العشرين أو من حوادثه وكشوفه أو من تقديراته وفروضه، فمن كان منكرا قبل هذا القرن فأسباب الإنكار فيما مضى هي أسباب الإنكار فيما حضر، وليس عليها من طارئ جديد يتعلل به المنكرون.
إن الإنكار نفي، والنفي لا يزداد ولا ينتظر الزيادة، وإنما تكون الزيادة في جانب الإثبات والتقرير، فما كان محاولة غامضة في زمن من الأزمان يصبح محاولة واضحة في زمن آخر، ثم يصبح محاولة ناجحة أو متفائلة بالنجاح في زمن يليه، ثم ينتقل من المحاولة الضعيفة إلى محاولة قوية، ومن المحاولة المتفرقة إلى المحاولة المجتمعة، ومن المحاولة جملة إلى الثبوت والقرار على وجه من الوجوه.
فقد انتهى إنكار المنكرين عند النفي الحاسم ووقف عنده فلا مزيد عليه.
أما العقيدة فهي التي تحاول وتجتهد، وهي التي تفتح الأبواب الجديدة بابا بعد باب، وهي التي تلتمس الطريق ولا تقف عند الغاية التي لا طريق بعدها، كما فعل المنكرون.
ومما لا شك فيه أن الحضارة الغربية ألجأت مفكريها إلى محاولات جديدة في مسألة العقيدة الدينية، ولا تزال تدفعهم في هذا الطريق وتستحدث لهم في كل فترة من الزمن وجهة يتابعونها ويترقبون ما وراءها. وقد تختلف الوجهات غاية الاختلاف بين فترة وفترة أو بين مفكر ومفكر، ولكنه اختلاف كاختلاف الإبرة المغناطيسية في السفن التي تعبر المحيط المجهول: هذه إلى اليمين وهذه إلى الشمال، وهذه مترددة وهذه عائدة بعد التردد، وكل إبرة في كل سفينة لها حركاتها ولها رجعاتها، ولكنها لا تختلف إلا لأنها تحاول جميعا أن تصل إلى قطب واحد: هو قطب الشمال، وإن تباعدت مواقع السفن وانعزل بعضها عن بعض في آفاق البحار.
مثل المفكرين الذين تختلف وجهاتهم في مسألة العقيدة الدينية، هو مثل الإبر المغناطيسية التي تختلف حركاتها في السفن السابحة لأنها تسبح في المشرق والمغرب وفي الشمال والجنوب وتتحول من جانب على الكرة الأرضية إلى جانب يقابله أو يوازيه، والمهم في هذه الحركات جميعا أن كل سفينة من السفن تحمل إبرتها وأن كل إبرة منها تنجذب إلى قطبها ، ولو لم تكن هنالك إبرة ولم يكن هنالك قطب لما اختلفت الوجهة ولا اختلفت الدلالة على الطريق.
والفرق بين السفن التي تحمل الإبرة والسفن التي لا تحملها، هو كالفرق بين الضمير الذي يطلب الإيمان والضمير الذي تعطل وانتهى إلى التعطيل، فليست السفن التي خلت من الإبرة أهدى من السفن التي تتردد فيها الإبرة ذات اليمين وذات الشمال، وليس الدليل الذي يتردد وهو يتجه إلى القطب أضل من الدليل الذي لا يتردد ولا يشعر للقطب بوجود. بل الواقع أن عكس ذلك هو الصحيح.
Página desconocida
كذلك طلاب العقيدة حين يحومون في بحر الظلمات حول قطب واحد: تختلف الوجهات لأنها على وفاق نحو الغاية القصوى، ولو لم تختلف لما كانت هناك حركة ولا كان هنالك اتجاه.
ذلك هو أقرب الأمثلة إلى تصوير الوجهات المختلفة في طلب العقيدة الدينية، ولعلنا نتابع هذه الوجهات على بصيرة من أمرها حين نعرف معنى العقيدة الدينية كما يطلبها أولئك المفكرون، فإننا إذا عرفنا معنى هذه العقيدة عندهم عرفنا ما يطلبونه وعرفنا من أين يطلبونه، وقد نعرف من ثمة ما هي العقبات التي وقفت لهم في الطريق فلم يجدوا كل ما طلبوه.
ما هي العقيدة الدينية؟
نعم، ما هي العقيدة الدينية التي يعنيها المفكرون الغربيون حين يطلبونها أو يحسبونها مطلبا صالحا للمحاولة والاتباع من طريق إلى طريق؟
إن مفكري القرن العشرين في الحضارة الغربية هم أحق الناس بالرجوع إليهم في جواب هذا السؤال؛ لأننا نعرف من الطالب نفسه ما يطلبه ولا نعرفه ممن طلبوه قبله، وإن ظهر أنهم متحدون في الغاية والاتجاه.
وقد بحث المشتغلون بالدراسات الدينية زمنا طويلا في أصول الأديان والمقابلة بين العقائد والعبادات منذ أقدم العصور إلى هذه الأيام، وفسروا معنى العقيدة الدينية كما وضحت لهم من هذه البحوث الطوال.
ولكننا لا نعني عقيدة البحث في هذه الدراسات.
إنما نعني بالعقيدة الدينية ما يشتمل عليه وجدان المفكر في العصر الحديث، ولا نعني بها ما تشتمل عليه أوراقه ومجلداته أو متاحفه ومحفوراته ...
إنما نعني بالعقيدة الدينية طريقة حياة لا طريقة فكر ولا طريقة دراسة.
إنما نعني بها حاجة النفس كما يحسها من أحاط بتلك الدراسات ومن فرغ من العلم والمراجعة ليترقب مكان العقيدة من قرارة ضميره.
Página desconocida
إنما نعني بها ما يملأ النفس لا ما يملأ الرءوس أو يملأ الصفحات.
وبهذا المعنى عرفت العقيدة الدينية أكثر من تعريف واحد في أقوال المفكرين العصريين، سواء منهم من وصل إلى اعتقاد واضح يطمئن إليه ومن لم يزل في الطريق، على أمل في الوصول أو على يقين بأن الطريق غير موصد في وجوه الساعين والمتطلعين. •••
بدأ القرن العشرون وعلماء النفس يستحسنون في تلخيص جوهر الديانة مذهب وليام جيمس الفيلسوف الأمريكي المخضرم بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وفحوى مذهبه أن جوهر الديانة هو الإيمان بالبقاء، وأن هذا البقاء مرهون بوجود قوة صديقة للإنسان وراء الظواهر الكونية أو المادة العمياء.
ومما هو جدير بالنظر أن هذا التلخيص من رأي فيلسوف متخصص للدراسات النفسية، وليس من رأي العلماء المتخصصين للبحث في تواريخ الأديان.
ويستحسن اليوم رأي جوليان هكسلي - عالم الأحياء المشهور - في كلامه عن الوحدة بين العقائد الدينية المترقية أو الهابطة على اختلاف طبقاتها، وقد أجمله في تقديمه لمجموعة الآراء التي أذاعتها طائفة من علماء العصر ونشروها باسم «العلم والدين» ... فقال بعد تمهيد موجز عن أثر العلم في العقيدة:
لكن هل هناك في الحق روح دينية واحدة؟ هل هناك في الحق عناصر مشتركة توجد مثلا في نحلة الصحابيين
1 (Quakerism)
ووثنية أبناء الكنغو، أو توجد في زهادة البوذية ونزعاتها الصوفية وفي شناعات الدين المكسيكي القديم؟ هنا أيضا يساعدنا النظر في الديانات المقارنة، فنعلم أن الروح الدينية لا تكون واحدة على اختلاف العصور واختلاف طبقات الثقافة، ولكنها على الدوام تحتوي بعض العناصر المشتركة، فلا يزال الشعور «بالقداسة» كامنا في قرارة كل عقيدة دينية، ولا يزال كامنا فيها كذلك شعور بالتسليم والاتكال؛ لأن الإنسان محوط بقوى لا يستطيع فهمها ولا يستطيع السيطرة عليها، ويدخل أخيرا في كل ديانة نزوع إلى التوضيح والتفسير والإدراك، إذ يعلم الإنسان أنه محوط بالخفايا ويطلب منها على الدوام أن تكون ذات معنى.
إلا أن شعور القداسة هو أعمق الأسس في عناصر كل ديانة، وهو لباب كل حاسة جديرة أن توصف بالصفة الدينية، ولولاها لما كانت للإنسان ديانة على الإطلاق ...
وقد اعتمد جوليان هكسلي في الواقع على الشعور النفساني في رأيه هذا أكثر من اعتماده على تواريخ الأديان، فإنه شعر بقداسة الدين قبل أن ينشدها ويتحقق وجودها في عقائد الأولين والآخرين. •••
Página desconocida
والأستاذ «جوردون آلبورت» أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد يتكلم في كتابه «الفرد وديانته»
2
عن طبيعة الاعتقاد فيقول:
إنه ينطوي على ثلاثة أطوار الأول فترة التصديق الساذج وهو أوضح ما يرى في الطفل الذي يصدق حواسه وخياله وما يسمعه بغير تمييز، فعقائده الدينية الأولى مستمدة على الأكثر مما يسمع، أي من الواقعية الكلامية، فإن الكلمات عنده والوقائع بمثابة واحدة، وبقاء هذا التصديق الساذج معه مدى الحياة أمر ظاهر ولكنه في الغالب ملازم للعقول التي توقف بها النمو دون التمام أو مقصور على المسائل التي يحيط بها الجهل المطبق أو تتسلط فيها قدوة قوية الأثر، وبعض العقائد الدينية بين الكبار مؤلف من هذا الخليط: أي من التصديق الصبياني والقدوة وما لم يمحصه التفكير.
ومن المعتاد على كل حال أن تأتي بعد هذه المرحلة مرحلة تزعزع قرارها، فإن الشكوك تطرق عقل الإنسان من جميع الأبواب المتقدمة، وهي جزء متصل من كل تفكير مفهوم، وليس في وسع الإنسان أن ينشئ له عقيدة مستقلة قائمة على الملاحظة والتفكير المفيد ما لم يواجه النقائض التي يشتمل عليها كل عرف مسموع.
والمرحلة الثالثة هي مرحلة الاعتقاد الناضج، وهي تتطور - مع المشقة - من تراوح الشكوك والتوكيدات التي يتسم بها كل تفكير مفيد ...
ثم يسأل الأستاذ: هل الإيمان والاعتقاد شيء واحد؟ فيقول: إن الكلمتين تستخدمان أحيانا بمعنى واحد، وهما في بعض المواطن تعبران عن معنيين مختلفين؛ لأن التسليم غالب على الإيمان. أما الاعتقاد فيقترن أحيانا بمعرفة بعض الأسباب، ولو من قبيل التقدير والترجيح.
قال: «ويبدو أن الإيمان أحر شعورا من الاعتقاد، فهو يجازف على علم بالمجازفة؛ لأنه يشعر بأن الثقة أقوى ونتيجة الرهان أنفس وأغلى.»
ثم استطرد إلى التفرقة بين الشعور الديني الخالص وبين الشعور الذي يمتزج بالخوالج النفسية الأخرى، فقال: إن أبسط وسيلة نبتدئ بها هي الرجوع إلى تعبيرات المتدينين. وضرب مثلا لذلك عبارتين من كلام القديس توماس كمبس (Kempis)
حيث يقول عقب الدعاء: «إن أشواقي كلها تتنهد إليك»، وحيث يقول من عظة قصيرة: «لو كان الله هو صفوة المقاصد التي نتشوق إليها لما خامرنا القلق بهذه السهولة.»
Página desconocida
قال الأستاذ في التعقيب على العبارة الأولى ما فحواه: إن الشمول الواضح في قول القديس «أشواقي كلها» هو آية الاعتماد الديني في طبيعته، وإن النفس لا تقبل التجزؤ والتفرق وهي تتجه بأشواقها إلى معبودها، ثم قال في التعقيب على العبارة التالية: «أتراني على خطأ حين ألمح في هذه العبارة دليلا على طبيعة الاستطلاع أو الاستقراء في العقيدة الدينية؟ أليس معناها أن العقيدة إذا كانت قويمة سديدة وجد المؤمن مشكلاته محلولة مفسرة ووجد قلاقله ومخاوفه مهدأة مستقرة؟ ... إنه لخليق إذن أن يهتدي إلى كشوف من المعرفة والفضيلة ...»
يريد الأستاذ أن الإنسان يطلب المعرفة من وراء العقيدة والإيمان، وأنه ينظر إلى الإيمان كأنه برهان على أنه قد وثق بالله فاستحق أن يهديه في طريق المعرفة، ويتجلى عليه بما هو أكبر من قدرته لو اعتمد على عقله وفهمه.
فموقف المؤمن من الله كموقف التلميذ الذي يطمئن إلى علم أستاذه فلا يمتحنه ولا يتردد في قبول دروسه ومعارفه، فيكون هذا الاطمئنان برهانا على أنه تلميذ صالح للتعلم مستحق للمكافأة وحسن الجزاء. •••
ولا يظهر في هذه السنوات معهد مشتغل بالبحث في قضايا العصر الحاضر إلا كان البحث في مسألة العقيدة من أوائل بحوثه الهامة التي ينشر فيها الرسائل ويذيع فيها المحاضرات والأحاديث، ومن ذلك مكتب المسائل الجارية بلندن (The Bureau of Current Affairs)
فإنه عهد إلى الأستاذ جيسوب (Jessops)
أستاذ الفلسفة وعلم النفس بجامعة هل (Hull)
أن يكتب رسالة في موضوع الحاجة إلى الدين، فكتبها بعنوان «لم الدين؟» وعرض في الفصل الثاني منها لمقومات العقيدة الدينية فقال: «إن الفكرة الأساسية فيها تقوم على حقيقة فوق الطبيعة تخضع لها كل حقائق الطبيعة، ولا بد أن تكون أفضل من الطبيعة وأن يكون الإنسان قادرا على أن يتصل بها صلة شخصية. وواضح أن هذه الفكرة هي فكرة الإله.
ولا بد أن نلاحظ أنها تشتمل على عناصر ثلاثة، وأن غياب عنصر منها يخرج بها في نظر العقل العصري من عداد العقائد الدينية فلا ينطبق عليها وصف الربانية، فإذا كان هناك قوة فوق الطبيعة لا سلطان لها على الطبيعة فقد يروقنا أن نراقبها وأن نعقد الجلسات لمناجاتها والتحدث عنها وننظم الأناشيد في وصفها وأن نجعلها موضوعا من موضوعات الاستطلاع والفن لا من موضوعات الديانة، إذ هي لا تعيننا على الحياة ونحن مركبون بحياتنا في وسط الطبيعة ... وإن كان هناك من الجهة الأخرى قوة فوق الطبيعة ليس فيها إلا أنها قوة فقد نرهبها ونفزع منها، ولكننا لا نعظمها ولا نتعبد لها ولا نكون دينيين في اتصالنا بها، وإنما قصاراها أنها العصا الكونية الكبرى أو العلة الأولى، ونحن نأبى أن نصف شيئا بوصف الربانية ما لم يكن أسمى وأقدر من كل شيء نعرفه في نطاق المكان والزمان. وإذا بحثنا فيه انتهى بنا البحث إلى أننا نقصد به روحا كاملا أو عقلا كاملا، فلا ننحني ساجدين لشيء دون ذلك.
وجملة القول أن الديانة تلتمس كائنا نستطيع أن نتجاوب معه تجاوب الفهم، فلا يتحقق هذا الشرط في غير كائن عاقل. ومن ثم تفيد كلمة الله في العقل العصري معنى الروح الأعلى الأكمل الذي يستجيب لقربان الإنسان، فالسمو والكمال والاستجابة هي العناصر الثلاثة التي يتم بها قوام الفكرة الدينية، والكائن الذي تجتمع له هذه الصفات أهل منا للعبادة وله أن يفرض علينا أرفع الفضائل وأن يعيننا على بلوغها، وصلاتنا له ذات معنى ...»
ثم قال بعد الكلام عن استجابة المطالب الإنسانية: إن للدين في العقل الإنساني جذرين آخرين، هما الحزن والفرح. إذ هناك حالات من العذاب النفسي نحار فيها ونعجز عن احتمالها، فتدفعنا النوازع التي لا سلطان للتعليم عليها إلى ملجأ وراء الجماعة الإنسانية، بل وراء الأكوان الطبيعية، نبغي فيه نورا يضيء لنا ظلمات الحيرة وعزاء أو قوة على احتمال آلامنا ... نبغي ذلك في ملاذ فوق هذا الكون كله قد يكون هنالك أو لا يكون، وربما كانت طبيعتنا عابثة بنا في هذه الحالة عبثا قاسيا، ولكننا هكذا نحن في طبيعتنا، وهكذا يكمن فينا باعث آخر من بواعث التدين والعبادة.
Página desconocida
أما الفرح فمن أنواعه ودرجاته أيضا ما يرتفع بنا صعدا ولا يقف بنا عند المتعة به وحسب، بل يرتفع العقل كله علوا إلى طباق أعلى بكثير من موضوع الفرح نفسه، وباعث هذا أن الفرح العظيم يولد في نفوسنا عرفان الجميل، فنود أن نشكر أحدا ولا نرى إنسانا جديرا بمثل هذا الشكر، فنرتفع بالشكر إلى النجم البعيد!
ذلك شعور طبيعي هو كما لا يخفى أحد الأجنحة التي تعلو بالعقل إلى ما فوق الطبيعة، فإن كان وهما فإنه لوهم سعيد.
ولن تستطيع التعليلات النفسانية أن تقيم الديانة على أساس مطالبنا وحاجاتنا دون غيرها، فإننا لا نستطيع أن نفسر ظواهر الكون ولا أن نستخرج طبيعة التدين من مجرد التنقيب عن المطالب والحاجات في نفوسنا، إذ لا ريب أن الديانة تأتي إلينا من الخارج كما تنجم في نفوسنا من داخلها. ونحن نستجيب كما نطلب الجواب، وعندنا إلى جانب التجارب التي تعتلج في باطن النفس تجارب أخرى تنتزع منا وتفرض علينا من خارجنا، منها الروعة التي لا منجاة منها لأحد منا في طوال أيامه، ولا حيلة لإنسان في تلك المواقف التي تروعه وتتعاظمه حيث يواجه أطوار الطبيعة وأزمات البشرية فردية كانت أو جماعية، وتلك العوارض التي نسميها تارة بالخفية وتارة بالغيبية. كذلك تطل علينا الروعة حين نفكر في الكمال أو نحسه في نفاذ وقوة، وليست الروعة هي الخوف وإن كانت لا تخلو منه، إذ هنالك فرق بين مجرد الخوف من جلالة الطبيعة أو سر الموت وبين الشعور أمامها بالروعة. وكأنها خوف محلول في مزيج آخر من العناصر والأخلاط، ففيها خوف ودهشة وإعجاب وإحساس بضآلة وجودنا، فإن يكن ثمة شعور له سمة خاصة من سمات التدين فهو هذا الشعور لا مراء، وقد ساور الإنسان من قديم ويساوره اليوم، ولن يزال للإنسان دين على نحو من الأنحاء ما دام له شعور من هذا القبيل، فما كان غاية الأمر في هذا الشعور أنه جواب من طبائعنا للعالم المجهول، فقد يوجد هذا الجواب الشعوري في نفس الفلكي كما يوجد في سائر النفوس، ولكنما هو محور العبادة في الصميم.
إن الدنيا فيها من العظم الكفاية بغير ما فوق الطبيعة، فإذا أضيف إليها فوق الطبيعة بدا الإنسان أصغر وأصغر، وإن الزمان لمن الطول بحيث يرينا التاريخ كله مسافة جد قصيرة، فما هي حياة الإنسان إذن حين تقاس بمقياس الأبدية؟ وإن الإنسان إذا قيس بروائع الطبيعة لا يتراءى صغيرا وحسب بل حقيرا مع صغره. فما أخس ما يبدو لنفسه إذن حين يعقد المقارنة بينه وبين الكمال المطلق! إن إضافة الآفاق الربانية إلى وجودنا تهبط بالإنسان إلى منزلة مزرية، ولهذا كان اتضاع النفس وتهوين شأنها حالة من الحالات الدينية المأثورة، فلا مناص مع الإيمان بالله من القضاء على الكبرياء.
بيد أن الديانة لم تكن قط مقصورة على التمرغ والاستكانة، بل هي - مع هذا التهوين من شأن النفس - قد نفخت روح الكرامة حتى في النفوس التي لا يخولها أبناء نوعها حظا من الكرامة. إذ كان المخلوق الذي يقدر على معرفة الخالق قمينا أن يتصل به ويفقه مشيئته ويظفر بقبس من كماله ويصبح محلا لعنايته، ولا جرم يتعالى مخلوق كهذا أن يكون هملا في نظام الطبيعة، فإنه لروح على أوفى وأرفع حظ من الصلات الروحانية، ولن يكون من أجل هذا خاضعا كل الخضوع لطغيان الطبيعة، ولا تموت روحه مع الجسد حين ينقضي أمده، بل تنطلق في حياة لا عائق لها، أو كما قال أفلاطون: إن العقل الذي يسمو إلى معرفة الحقائق الأبدية لا يفنى حيث يتداعى الجسد، وفي معظم الديانات - ولا سيما المترقي منها - إيمان بخلود الإنسان ... •••
ومن علماء النفس الذين وضحوا الشعور بالعقيدة الدينية من الوجهة السيكولوجية أستاذ في جامعة «كلارك» مارس العلاج بالوسائل النفسية ومنها وسائل الإيمان، وهو الأستاذ رايموند كاتل (Cattell)
صاحب كتاب «علم النفس ومسألة الدين»
3
وفيه يقول عند الكلام على التحليل النفساني والخواطر الدينية: «إن الصلاة تتراجع - بازدياد - إلى الاكتفاء بتحسين الشخصية والمحافظة على الروح المعنوي في الفرد أو الجماعة، وبهذه المثابة لا يستطيع علم النفس أن ينكر جدواها على اعتبارها من الإيحاء الذاتي، ولكنها على هذا قد تنتحل لنفسها مزية لا ضرر فيها: وهي مزية الإرشاد إلى مزاولات عملية تزيد من قابلية النفس للاستيحاء والاستجماع. ومما تقدم القول فيه عن خلود النفس نلخص أصولها النفسانية - أي أصول الصلاة - في هذه المراجع الثلاثة: العودة إلى عادة الاسترسال مع التفكير الذي يسر ويرضي، والاستمرار في تجارب الإنسان البدائي في الأحلام والخيالات، وضرورة الاحتفاظ بالوازع الأخلاقي لمجازاة الذين عجز العدل الإنساني عن جزائهم في هذه الحياة ...»
ثم يقول في تعليل النزوع الديني المفاجئ في بعض أطوار النفس الإنسانية: «يبدو على العموم أن هذا النزوع يعلل بأن الفورات الجنسية في طور المراهقة يقابلها في هذا السن زواجر كابحة من الآداب التي تربط بالأهواء الجنسية كثيرا من إحساس الجريمة أو الخطيئة، وكلما اشتد التدافع بين التعبيرات الجنسية والأهواء الكامنة وبين الزواجر الأدبية أحاط بالنفس القلق والندم وتخلصت منهما فحلت المشكلة بالإعراض عن الشهوات والاعتزاز بالذات تساميا إلى حب بني الإنسان جميعا بديلا من الحب الجنسي، وإلى مقاربة العزة الإلهية بديلا من الاعتزاز بالذات ...»
Página desconocida
ويقول الأستاذ كاتل بعد ذلك: إن الدراسات النفسية لم تستلزم وجود حاسة دينية خاصة، فإن هذه الحاسة الدينية مجتمعة من خوالج الخوف وأهواء الجنس وروح الجماعة وتوكيد الذات والتطلع والتسليم.
ومن جملة آراء الأستاذ في هذا الكتاب يظهر جليا أنه يقفو آثار العالم النمسوي المشهور «فرويد» أشد علماء العصر إغراقا في تكبير شأن الغرائز الجنسية وإدخالها في تفسير كل قوة نفسية تحتاج إلى تفسير. وخلاصة فلسفة فرويد هذه أن هواجس العصبيين هي بالنسبة إليهم ديانة فردية خاصة، وأن الديانات العامة هي الهواجس العصبية بالنسبة إلى نوع الإنسان، وأن الضمير هو مناط الأنانية النوعية في طوية كل فرد، كأنه الذات العليا فوق ذوات الآحاد.
على أن صاحب هذا الكتاب يقرر في أول الفصل الثالث من كتابه أن العلماء والأتقياء معا يعلمون بعد بحث يسير أن وجود دواعي الوهم مركبة في طبائع البشر لا يستلزم القول بأن وجود الإله وهم من هذه الأوهام. •••
ومن الفلاسفة وعلماء النفس من يؤمن «بالعقيدة الروحية» ويفهم من «الروح» أنها قوام حياة الإنسان الأدبية والوجدانية، ولا يرجع بها إلى مصدر وراء الطبيعة.
من هؤلاء الفيلسوف الألماني ماكس أوتو الذي عاش في الولايات المتحدة وكان رئيسا لمجمع الفلاسفة في الأقاليم الغربية، ومن كلامه الذي يلخص مذهبه ومذاهب أمثاله في الرأي فصل عن «الأشياء والأمثلة العليا» يقول فيه:
ليكن في قرارة قلوبنا أن الروح ليست اسما لشيء ولكنها اسم لحياة، وأن خلاص الروح ليس بالسلعة أو المنحة التي تشترى أو تستعطى، ولكنه تطور نبلغه ونترقى إليه، وأن تخليص روح الإنسان ليس بالعمل الموقوت الذي يتم في ساعته ولكنه سعي طويل يستغرق مدى العمر كله، وليس هو إنقاذا لكيان مبهم لا تعريف له في سبيل التأهب لحياة مقبلة، ولكنه خلق لنموذج من الشخصية من طريق الاعتراف بالقيم البينة التي تدور عليها تجارب كل يوم. إنه نضج باطني ويقظة لمعاني الحق والجمال وكرامة الحياة ... •••
وتكلم ماكس شوين (Schoen)
أحد مؤلفي المكتبة الفلسفية
4
عن العلاقة بين العقيدة الدينية والعقل في كتابه «تفكير في الدين» فقال من فصل عن الحاجة إلى التفكير في الدين:
Página desconocida
إن الإيمان لا يعرف الهوادة ولا يقبل الاستثناء، ولكن الاعتقاد (Belief)
هوادة وتسوية عملية يتطلع صاحبها إلى ما يغنمه الداعي إليها والمستجيب لها. إنه وسيلة في الديانات للاشتراك بين الناس في معيشة واحدة وشغل واحد باسم الله. وهذا الاعتقاد الديني يتبع الخلاف بينه وبين العقل لأن العقل لا يساوم ولا يذعن، ومن دأبه أن يتغلغل في بواطن كل شيء يعرض عليه باسم الحقيقة، وإن الذين يضعون الاعتقاد موضع المناقضة للعقل ليفعلون ذلك عن خطأ منهم في فهم الاعتقاد والديانة، والعقل يبطل الخطأ.
إن منطقهم يجري على هذا القياس: ما نريد تصديقه مخالف للعقل، ولكن الأمر الذي نصدقه لا يجوز أن يكون باطلا، ولهذا ينبغي أن يصبح اعتقادا ولا يتقيد بموافقة العقل.
وعلى هذا النحو يصبح الاعتقاد مسوغا لكل هاجسة أو استحالة تحيك في نفس المعتقد.
أما الذين يرون أن الأصول الدينية تجري مع العقل ولكنها أرفع منه وأسمى، فهؤلاء يتكلمون عن الصواب أو التصويب (Rationalization)
ولا يتكلمون عن العقل. فإن الفكر إنما يعمل ليكون شيئا من شيئين، فإما أن يعمل للامتحان والنقد وإما أن يعمل للتسويغ والقبول، فإذا عمل للامتحان فهو العقل، وإذا عمل للتسويغ فهو الصواب أو الحكمة ...
ثم ينتهي المؤلف من بحثه في هذا الفصل إلى أن العقائد الشائعة كثيرا ما تخل بمعنى الدين، أو أن الديانات التي تناقض العقل هي تطبيق غير صحيح للدين الصحيح، فهناك دين واحد في الجوهر ولكنه يصبح ديانات شتى في حيز التطبيق. •••
وقد نشر الكاتب الإنجليزي أرنست مارتن (Martin)
مجموعة من الآراء لأساطين المفكرين سماها البحث عن عقيدة
5
Página desconocida
قال في تقديمها عن معنى العقيدة العصرية:
ليس من الخير أن نقول - كما يقول كثير من الشكوكيين الأذكياء - إن الديانة نبعت من الخوف، أو إن الإيمان بما فوق الطبيعة إنما هو مجرد تعويض لما في دنيا الواقع من الجهامة والعبوس، فإذا كان هذا ولا ريب صحيحا في حالات الديانة الهمجية فليس هو بصحيح في موقف الإنسان المتحضر من المسيحية، وقد كان الهمجي يعبد أربابه وأرواحه لأنه يشعر بالرعب من الحياة والموت، ولكن المخاوف الصبيانية والخرافات المضللة قد زالت اليوم مع اتساع نصيب الإنسان من الفهم، وبقيت العقيدة ولم يكن للجماعات البدائية غنى عن السحر حيثما دعتها الحاجة إلى تنظيم مراسم العبادة، وليست كذلك جماعات الإنسان في الحضارة العصرية، فإن الإنسان العصري لا حاجة به إلى السحر وفي وسعه أن يتأمل الخير ويسعد بالسعي فيه وهو يعلم أنه ينبوع السعادة ... إن العقيدة لهي اسم آخر للشجاعة. وقد قيل بحق إن الديانة الصحيحة هي خطار - أو رهان - على الحياة كلها معلق على وجود الله ... •••
وقد تكلم اثنان من رجال العمل والسياسة عن العقيدة من حيث القيمة العملية في حياة الآحاد والجماعات.
فالمؤرخ المشهور هربرت فيشر الذي تولى وزارة التعليم زمنا في الحكومة الإنجليزية يكتب عن السيدة التي أسست جماعة العلم المسيحي التي تعالج أمراض الروح والجسم بقوة الإيمان، فيقول في كتابه (ديانتنا الجديدة):
دلت التجربة على أن الدقة في تصوير ما فوق الطبيعة قليلة الأثر في اجتذاب الناس إلى الديانة، وأن شيوع ديانة من الديانات يرجع على الأرجح إلى مبلغ ما تلبيه من مطالب النفس البشرية قبل رجوعه إلى مطابقتها لوقائع الحياة، وما كانت أسخف السخافات لتصد أناسا عن قبول دعوة تملأ في قلوبهم فراغا من حاجاتهم الروحانية، فهم يأخذون ما يطلبون وينبذون ما لا يدركون، وثمة قيمة محققة للدعوات الجريئة. وقد قال رينان إن الإنسان يولد وسطا ولا طاقة له بعمل ذي بال حتى يتعلق بحلم من الأحلام.
هذا واحد من المفكرين الذين اشتغلوا بالسياسة والإدارة ونظروا إلى الديانة من ناحية القيمة العلمية. أما الآخر فهو الشاعر الناقد اللورد فانسترت (Vansittart)
الذي قام بمهام السياسة الخارجية زمنا طويلا في الوزارة البريطانية، وقد سئل أن يقدم المجموعة التي كتبها طائفة من المفكرين عن مستقبل العقيدة فقال: إن فقدان الثقة بما فوق الطبيعة على صلة بفقدان الثقة بأنفسنا، وكلاهما لم يسعد أحدا، بل أعقب بعده خللا في ميزان الحياة، لم تصلحه مذاهب الشك واللذة.
ثم أشار إلى فقدان العقيدة في فرنسا فقال إنه ساقها إلى المسالمة والاستسلام قبل الأوان، وإلى فقدان العقيدة في ألمانيا فقال إنه ساقها إلى بديل لها من العصبية والنازية، ولولا البحر حول الجزر البريطانية لساقها فقدان العقيدة إلى مصير كهذا أو ذاك، وختم مقدمته قائلا: «لقد آن الأوان «أولا» لتعديل التشبث ببعض الأفكار والمراسم التي لا توافق المطالب العصرية، و«ثانيا» للعلم بأن العقيدة قد عرضت نفسها بعمل يديها لعوائق شتى، و«ثالثا» إن السلطان الروحاني تزداد صعوبات التوفيق بينه وبين المساوئ السياسية، مما قد بينت في غير هذا الموضع وسائل اجتنابه، و«رابعا» إن الأمل في التجديد والبقاء ينمو كلما فصلناه من الأدعياء، وقد يحسن أن نحلم ونحن مفتوحو الأعين فإنما نحن وأعمالنا مصنوعون من مادة الأحلام، ولكن لا شيء يمكن أن يقام على أساس من الهواء، و«خامسا» إن فصائلنا لا ينبغي أن تضر بوطننا، ومن ثم لا غنى لنا عن مزيد من الحيطة ومزيد من المعرفة، و«سادسا» إنه في الخيار بين الحيطة والمعرفة ستظل العقيدة قوام ما نرجوه وإن لم تكن على الدوام برهانا على ما نجهله ...» •••
تلك نماذج متفرقة من أطراف متعددة، نحسبها كافية للتعريف بمعنى العقيدة كما يفهمها مفكرو هذا العصر في الحضارة الأوروبية، وقد لاحظنا في جمعها التعويل على التجارب النفسية أو التجارب المنقولة من الحياة، ولم نعول كثيرا على روايات التاريخ ودراسات المقارنين بين الديانات كما تحفظها السجلات والمأثورات؛ لأننا في هذه العجالة إنما ننظر إلى العقيدة الحية كما يعيش بها الأحياء المثقفون في العصر الحاضر.
ويتبين من جملة الآراء المتقدمة أن العقيدة التي يصح أن توصف بالدينية هي العقيدة التي تعتمد على سند فوق الطبيعة، وأن العقيدة على أية حال قوة مطلوبة لا يستغني عنها من وجدها ولا يطيق الفراغ منها من فقدها، ولا يرفضها من اعتصم منها بمعتصم واستقر فيها على قرار.
Página desconocida
سمة العصر
في مفتتح القرن التاسع عشر وجه نابليون بونابرت سؤالا إلى علامة الفلك في زمانه «لابلاس» عن عمل القدرة الإلهية في تنظيم الأفلاك السماوية، وكان لتوجيه هذا السؤال إلى «لابلاس» سبب خاص: وهو ظهور كتابه عن علم الحركة العلوية «أو الميكانيكا السماوية»، وفيه يشرح حركة الفلك ويعللها بالقوانين الآلية كما يدل اسم الكتاب، فقال علامة الفلك مجيبا سائله الكبير الذي كان يقول في الدين بمثل قوله: إنني لم أجد في نظام السماء ضرورة للقول بتدبير إله!
ومضى القرن التاسع عشر إلى نهايته والرأي الغالب فيه بين المشتغلين بالعلم والمؤمنين به هو هذا الرأي الذي تحدث به لابلاس إلى نابليون: إن العلم كاف كل الكفاية لتفسير جميع الأسرار!
كتب السير جيمس فتز جيمس ستيفن في سنة 1884 فصلا يعتبر يومئذ مثالا للآراء العلمية في تلك الفترة، فقال: إذا كانت الحياة الإنسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ما هي فائدته وما هي الحاجة إليه؟ إننا نستطيع أن نسلك سبيلنا بغيره، وإن تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لنا لا تعطينا ما نعبده فهي كفيلة أن تعطينا كثيرا مما نستمتع به ونتملاه.
إن بعضهم يظن - أو يقول إنه يظن - إن الحياة كما يصورها العلم لا تستحق أن نحياها، وهو في رأيي ظن باطل، فنحن في هذه الحالة خلقاء أن نحيا على أصول غير التي تعودوا أن يعتقدوها، ومن حقق النظر إلى موقفه الصحيح وكان على حظ وسط من موارد العيش فالحياة ستظل عنده جد رضية، وإن الدنيا في نظري لموطن مستطاب جدا لو أنه يدوم، وفيها ملؤها من الناس الظرفاء والأشياء العجيبة، بحيث يسع الأكثرين - على ما أحسب - أن يغضوا أبصارهم عن إدمان النظر إلى طبيعتها الزائلة، وسيبقى الحب والإخاء والطموح والمعرفة والأدب والفن وأمور السياسة والتجارة والصناعات والحرف وألوف غيرها سارية في مسراها كما كانت من قبل دون حاجة إلى إله أو حياة مقبلة، ومن كان من الناس عاجزا عن تصريف كل لحظة من لحظات يقظته في شاغل من هذه الشواغل، فهو لا محالة على حظ سيء بالغ السوء في تكوينه أو مرافق عيشه، أو هو لا محالة مخلوق جد هزيل.
ولا ننكر أن قضايا اللاهوت الكبرى نبيلة فخمة، وأننا إذ نتخيل أن الدنيا من صنع خالق على الغاية من الحكمة والغاية من القوة، وأنه على نحو خفي لا نحيط به هو كذلك على الغاية من الطيبة، وأن الأخلاق إنما هي شريعة صادرة إلى الناس من قبل هذا الخالق العظيم، وأن هذه العوالم الظاهرة إن هي إلا جزء يسير من هذه الشريعة التي يوصف بها خالقها - كل أولئك إذ نتخيله شيء عظيم.
نعم، وإن الذين يقدرون مخلصين أن ينظروا إلى الدنيا هذه النظرة لتسمو بهم عقيدتهم وترفعهم فوق صغائر الحياة، ويحق لهم أن يسوغوا هذه العقيدة أمام غيرهم حيث يرجع تسويغ العقيدة إلى جمالها وجدواها ولا يرجع إلى صحتها ودلائل ثبوتها.
أما إذا وجب أن نطرح هذه العقيدة جانبا فلا أخال أن الحياة تخسر قيمتها وأن الأخلاق على الخصوص تنقطع وتزول، وسوف تموت الديانة مع اللاهوت. ولكننا كما أسلفت قادرون على أن نعيش عيشة حسنة بغير الديانة، وإن أقمناها على أصول غير هذه الأصول قلما تخالف في لبابها أصول العيش التي يدين بها نفسه كل ذي خلاق. •••
انقضى القرن التاسع عشر وهذا هو الرأي الغالب على أصحاب الرأي فيه ممن يؤمنون بالعلم الحديث ويتوقعون له القدرة على الإحاطة في المستقبل بمجهولات الغيب التي لم يحط بها في ذلك الحين.
ونقول الرأي الغالب ولا نقول الرأي الجميع الشامل؛ لأننا لا نعلم أن عصرا من العصور قد اتفق فيه أصحاب الرأي على وجهة واحدة في مسائل العقيدة الدينية، ولكن العصور مع ذلك تختلف وتتباعد في التفكير، ويحمل كل منها طابعه وسماته في شئون العقيدة الدينية، وفي غيرها من الشئون العامة التي تتسع فيها مطارح الآراء والأهواء.
Página desconocida
فلم يكن عصر من العصور مؤمنا كله ولا منكرا كله، ولا بد في كل عصر من مؤمنين ومنكرين، ولكنهم مع هذا يختلفون بين عصر وعصر في معنى الإيمان والإنكار وفي أسباب هذا وذاك، وفي الموضوع الذي يتناوله المؤمنون والمنكرون.
فليس القرن السابع عشر مثلا كالقرن العشرين، وليس القرن الثامن عشر كالقرن التاسع عشر، وليست القرون الحديثة كالقرون الوسطى أو القرون الأولى، وإن كان في كل منها إيمان وإنكار وشك ونفاق.
فإذا حسبنا لهذه المشابهات، أو هذه المفارقات، حسابها على جملتها، جاز أن يقال إن الحضارة الغربية تحولت منذ القرن السابع عشر من الشك في الدين، إلى الشك في العقل، إلى الشك في العلم الحديث، وإنها الآن تدخل في أبواب جديدة من الشكوك.
وربما كان الأصح أن يقال إن الحضارة الغربية بدأت بالشك في السلطة الدينية لا في الدين نفسه، وإن الدين الذي شكت فيه أو أنكرته كان هو الدين كما تشبث به الجامدون المتحجرون على التقاليد أو على العرف المقرر في عهود الجهل والطغيان.
وقد تزعزعت سلطة رجال الدين يوم تزعزعت كل سلطة، فشك الناس وأنكروا وثاروا على التقاليد وعلى العرف المحفوظ، ثم أذنوا لعقولهم أن تفكر وتقدر، واعتمدوا على العقل وحده في فهم جميع الأمور، وبخاصة ما كان فهمه مقصورا على دعوى ذوي السلطان من أصحاب الدنيا والدين.
انتقل ذوو الرأي من الإيمان بالدين إلى الإيمان بالعقل حتى انتهى بهم العقل عند حدوده، فتحولوا من الإيمان بالعقل إلى الإيمان بالعلم الحديث.
وليس الإيمان بالعقل والإيمان بالعلم شيئا واحدا كما يلوح من النظرة العاجلة؛ لأن الناس آمنوا بالعقل وحسبوا أنهم يفهمون به كل شيء من طريق المنطق والقياس، ومن طريق القضايا والبراهين ... فلما اختلطت عليهم الأمور وقصر بهم العقل دون العلم بالمحسوسات فضلا عن المغيبات - تحولوا إلى التجربة الحسية ووقفوا عليها جهود العلم الحديث، فلا علم بغير سند من الحس والتجريب.
فاليوم - في القرن العشرين - أين تسير الحضارة الغربية بين هذه الشكوك التي بدأت بالشك في الدين، ثم مضت أشواطا بعد أشواط تارة مع العقل وتارة مع العلم الحديث؟
ما هو الشك الذي يغلب على ذوي الرأي في القرن العشرين؟
نحسب أننا نجمل سمة القرن العشرين أصدق إجمال حين نقول إنها هي سمة الشك في الإنكار.
Página desconocida
إن الأسباب التي كانت كافية للإنكار قبل ثلاثة قرون أصبحت لا تكفي للإنكار بتلك القوة الواثقة المتهجمة، بل أصبحت لا تكفي لإنكار ما كائنا ما كان سبب الإنكار من العلم المعترف به بين العلماء.
تواضعت دعوى العقل في أوائل القرن التاسع عشر، وتواضعت دعوى العلم في أوائل القرن العشرين، وكاد العلماء أن يتفقوا على أن التفسير والتعليل فوق طاقة العلم ولا سيما تفسير الغايات والأصول، وحسبه من الدعوى أنه يصف ويجمع ويقابل ويعادل، ثم يترك العلل الأولى بعد ذلك لمن يستطيعها، أو يقول إنها حتى اليوم غاية لا تستطاع.
كان من العلماء من يخال أنه قادر على الإثبات، فليس من العلماء اليوم من يزعم أنه قادر على الإنكار بسند من العلم الصحيح.
ومن قال منهم إنه ينكر على سبيل الظن والترجيح، فحكمه في ذلك حكم القائل إنه يؤمن على سبيل الظن والترجيح: كلاهما على مسافة واحدة من دعوى العلم بالتجربة، أو دعوى التعلل بالبرهان.
وبديه أن الشك في الإنكار غير الجزم بالإيمان، فليس من صحة الحكم ولا من صدق النظر أن يقال إن سمة الإيمان غالبة على القرن العشرين أو بينة الأثر فيه، ولكنه صحيح ولا ريب أن يقال إن المنكر في القرن العشرين لا يستطيع أن يستند إلى أسباب من العلم يسلم بها المفكرون، كما كانوا يسلمون بأسباب الإنكار في القرن السابع عشر، أو القرن الذي يليه إلى أوائل هذا القرن الذي نحن فيه. •••
ونحن متتبعون أكبر الأسباب التي اقترنت بمسألة العقيدة منذ القرن السادس عشر، وكان لها شأن قوي في إضعاف العقائد الموروثة على تقدير الباحثين بالإجماع، وقد نرى من تتبعها كيف قويت على إضعاف العقائد التقليدية ثم نرى كيف آل الأمر بها أخيرا حتى فقدت قوتها الأولى على زعزعة الإيمان وإثارة الشكوك، ونرى من أين طرأ عليها الضعف حتى انتقل بعضها من ترجيح التعطيل والإلحاد إلى ترجيح الاعتقاد وإعادة النظر في الموضوع.
هذه الأسباب على الإجمال خمسة ليس في أسباب التعطيل ما هو أقوى منها وأعظم فعلا في عقول المفكرين الأوروبيين، وفي عقول غيرهم ممن نظروا إلى دلالتها مثل نظرتهم، وحكموا بها على الأديان مثل حكمهم. وهم غير قليلين بين المفكرين في مختلف الأقوام.
وهذه الأسباب الخمسة هي:
أولا:
كشف كوبرنيكس لمركز الأرض من المنظومة الشمسية ومن الأجرام السماوية على العموم.
Página desconocida
وثانيا:
ظهور القوانين الطبيعية التي سميت بالقوانين المادية أو الآلية.
وثالثا:
مذهب النشوء والارتقاء.
ورابعا:
علم المقارنة بين الأديان والعبادات.
وخامسا:
مشكلة الشر، وهي ليست من مشكلات القرن العشرين خاصة، ولكنها تخصص بالقرن العشرين لما تفاقم فيه من الحروب العالمية الجائحة، وبما نشأ فيه من الآراء عن السلطان المحدود في الحكومات، وإمكان المشابهة بينه وبين السلطان المحدود أو المطلق في حكومة الكون على أوسع نطاق.
فقد كان كشف كوبرنيكس لمركز الأرض من المنظومة الشمسية صدمة عنيفة للذين اعتقدوا أن الأرض هي مركز الكون، وأن السماوات العليا وما فيها من الكواكب والشموس تبع للأرض - مركز الكون كله ومقر الإنسان، فلما عرفوا أن الأرض لا تعدو أن تكون نجما صغيرا تابعا للشمس بين ألوف من الشموس التي تحوم في أجواز السماء فزعوا من هوان الأرض كلها وهوان الإنسان كله، وخامرهم الشك في حكمة القصد والاختيار ورجحت عندهم ظنون المصادفة والإتقان.
ثم جاء العلماء الطبيعيون فكشفوا ما سموه قوانين المادة وزعموا أنهم يفسرون بها كل شيء حتى الحياة، فكل ما في الطبيعة آلات خاضعة لتلك القوانين، تجري في حركاتها على السنن المطردة في حركات الآلات.
Página desconocida
ثم جاء مذهب النشوء والارتقاء فألحق الإنسان بسائر الحيوان في نشأته وتطوره، وفهم بعض النشوئيين أن تطوره من المادة الحية الأولى يبطل القول بالخلق وتمييز الإنسان بين عامة المخلوقات.
أما علم المقارنة بين الأديان والعبادات فقد جمع المشابهات بين العبادات البدائية والعبادات المقررة في الديانات العليا، فاتخذ أصحاب المذاهب المادية من ذلك دليلا على تسلسل العبادات من أطوارها الأولى بين البدائيين، بغير حاجة إلى الوحي والتنزيل.
وقد أسلفنا أن المشكلة العظمى - وهي مشكلة الشر - لم تكن من مشكلات القرن العشرين خاصة لأنها أقدم المشكلات التي ساورت عقول المفكرين وعقائد المتدينين، ولكنها قويت جدا في القرن العشرين لتفاقم الشرور من الحروب والفتن وتنبه الناس إلى المحاسبة وتقرير التبعات، فحق لمن يشاء أن يحسبها إحدى المشكلات الخاصة بهذا الزمن الأخير.
وسنرى فيما يلي عند عرض هذه الأسباب، كل منها على حدة، كيف تبدل النظر إليها حديثا حتى ابتعدت الشقة بينها وبين دواعي التعطيل والإنكار واقتربت على الأقل من دواعي الشك في الإنكار، إن لم نقل من دواعي الإيمان والبحث عن مسوغات التدين والاعتقاد.
مركز الكون
نشر كوبرنيكس كتابه قبل وفاته بسنة (1542م) وتردد طويلا قبل نشره كأنه قدر بحق أنه سيغضب عليه الملأ جميعا ويعرضه للسخط والنقمة.
وثبتت آراؤه مع الزمن فآمن بها الفلكيون وأخذوا في تصحيح ما يحتاج منها إلى التصحيح، وهو كلامه عن دوائر الفلك ونظام الحركة في كل دائرة منها، ويومئذ بدأ العلماء والمفكرون ومعهم رجال الدين يتساءلون: ترى أي شيء في هذا الكشف الكوبرنيكي خالف قواعد الدين وخرج على سنن الإيمان؟ ولأي شيء صودر الكتاب وأجمعت شعاب الكنيسة من رومانية إلى لوثرية على تحريمه ومنع تعليمه؟
يصور الفيلسوف الأمريكي (جون ألوف بودين) دواعي هذه الثورة في كتابه ديانة المستقبل
1
فيقول:
Página desconocida
كانت الأرض مسرح درامة التاريخ والإنسان فيها ذروة الخليقة وغايتها، وجاءت الكوميدية الإلهية من نظم دانتي ختاما لعهد مدبر، كان نظام الكون فيه كأنه عملية إخراج مسرحي لقصة الإنسان. ففي ناحية من الأرض كهف مطبق على دوائر جهنم، وعلى جبل في ناحية أخرى ترتفع دوائر الأعراف، وفوق هذا الجبل على مسافة منه وردة الفردوس التي يستوي على ورقاتها القديسون والأبرار، وكان من اليسير في ذلك العهد أن يبني الخيال أساس رموزه غير منقوضة بحقائق الواقع المقرر، ولم يكن عليه شبهة من عنت التوفيق بين مدى الأيام الستة وآماد التطور الكوني على حسب المعلومات الأخيرة. وقد كافح الناس كفاح الأبطال لملاقاة مشكلة الشر ليصبروا عليها لا ليصرفوها ويفسروها التفسير الذي يمحوها، وأحسوا الظلمات من حولهم فالتمسوا العزاء فيها باعتمادهم على قدرة الله أن يبدل النواميس الطبيعية بنعمته ويحيلها روحانية علوية، ولم تزل قوى الطبيعة تلوح لهم طيعة خاضعة لعالم الروح جارية في خدمة الأقدار التي تتلقاها مما وراء الطبيعة. كانت دنيا مكنونة في حيز ملموم تطلع الشمس لتنيرها بالنهار ثم تطلع النجوم لتنيرها بالليل ...
ثم هبت ثورة كوبرنيكس وفتحت الأعين على نظرة علمية إلى الوجود كله، فليست الأرض مركز الكون بل ذرة لا يؤبه لها في إحدى المنظومات الصغيرة. وسأل السائلون: ما هو هذا الإنسان الذي تتولاه بعنايتك؟ وما هو ابن الإنسان الذي تخصه بزورتك؟ إن الأرض وعليها الإنسان ضائعة في آفاق ليس لها نهاية، وهذه الآفاق الكونية بما وسعت محكومة كلها بالقوانين الآلية. ولم يقل «لابلاس» غير المقال الذي يردده الجميع حين قال لنابليون إنه لم يجد ضرورة لفرض إله في نظام المكنة العلوية. وإذا كانت كشوف كوبرنيكس قد أبدت لنا هذا الإنسان ضائعا في المكان لقد جاءت آراء داروين فأبدته لنا ضائعا في الزمان، فتراءى كأنه حلقة في سلسلة الحياة، أولها وآخرها محتجبان في غياهب الخفاء بدلا من قيامه على أوج الخليقة الأولى.
في دنيا العلم هذه يرى أنه لا محل للديانة المشبهة ولا للإله المشبه، ويرى أن القلب الإنساني قد ضيع نفسه مستسلما للعقل كفاحه بين يدي الله ...
هذه صورة صادقة للعالم كما بدا في أعين الناس بعد أن جاء كوبرنيكس، فأخرج الأرض من مركز الكون وأطلقها مع الشمس في أجواز الفضاء!
لكنها في أساسها صورة كاذبة لا أصل لها على الإطلاق في المعتقدات الدينية، فليس في الأديان الكتابية عقيدة توجب على الإنسان أن يؤمن بجمود الأرض في مكانها ودوران الأفلاك من حولها، وليس في الأديان الكبرى قاطبة حكم من الأحكام يعلق مقاصد الخلق على وضع من أوضاع الفلك، وما كان لغير العادة المألوفة والفهم الخاطئ دخل في تصوير العالم على تلك الصورة.
لقد كانت صورة الأرض في وسط العالم من عمل أرسطو وبطليموس، ولم يتفقا على وضعها في ذلك الموضع ولا على تقدير الحركات الفلكية التي تحيط بموضعها، مما حير كوبرنيكس وأحزنه. فحكمت العادة أيضا حكمها عليه وخيل إليه أنه يقتحم على الفلك هيكله الأقدس، وهو يبحث فيه عن مستقر يوفق بين دورة أرسطو ودورة بطليموس ... وقال للبابا إنه طرق هذا الباب وهو جد حزين.
ولم يكن المتدينون يبحثون كبحث كوبرنيكس في هذا الموضوع ولم يكن كوبرنيكس نفسه - في وسط هاتيك الأضواء جميعا - على هدى من أمره كل الهدى فيما يدع وفيما يختار ... لقد كان أمامه مذهب فيثاغوراس الذي قال إن الأرض كرة تسبح في الفضاء، فتركه ناحية ووقف مع أرسطو وبطليموس حيث سكن به المطاف، وأدار على الأرض تلك الدوائر التي تشبه دوائر شاعرنا ابن الرومي: ... بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر!
غير أنهم جميعا ناموا على وساد الأرض كما هي في مركز الكون! فاضطربوا حين هبوا من رقدتهم تلك على غير وساد.
وإن موقف المتهجمين على الحقائق باسم الدين في ذلك الزمن لهو العبرة الخالدة لمن يعتبر، لو كان العلم عبرة صالحة لمن يجهله في زمن من الأزمان.
Página desconocida
لقد كانوا يحتمون على العلم أن يجزم بمقام الأرض في مركز الفلك، وكانوا يحتمون أن تجمد الأرض هنالك لتحق الحكمة من خلق الأحياء على التعميم، وخلق الإنسان على التخصيص.
فلو عادوا اليوم إلى الحياة لرأوا عجبا من فعل الزمن في التباعد بين الأفكار والآراء، بل بين الدعائم والآساس، حتى لتنقلب من النقيض إلى النقيض، وحتى ليقال اليوم عن حكمة الخلق ما كان كفرا بالخلق والخالق قبل بضعة قرون.
إن القائلين بحكمة الخلق في القرن العشرين لا يجدون لذلك دليلا علميا ولا فلسفيا أدل من مكان الأرض في ركنها الذي هي فيه من المنظومة الشمسية.
لم يكن لازما عندهم أن تقر الأرض في مركز الكون كله ولا في مركز المنظومة الشمسية كلها، بل اللازم عندهم أن تكون حيث هي سيارة من سيارات، يعدون منها الآن عشرا ويتركون المئات والألوف منها بغير عداد.
ويكاد الباحثون في هذا الموضوع أن يجعلوا الأرض نمطا فريدا بين كواكب الفضاء بموقعها هذا من المنظومة الشمسية، فلولاه لما كانت أصلح كوكب لظهور الحياة عليه.
ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكوكب على حجم ملائم وبعد معتدل، وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة.
لا بد من الحجم الملائم لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية.
ولا بد من البعد المعتدل لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتخلخل فيه تلك الأجسام .
ولا بد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة؛ لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء.
وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوفير هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة في الصورة التي نعرفها ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن. •••
Página desconocida