وماذا نقول أكثر من قولة النبي
صلى الله عليه وسلم
منذ أربعة عشر قرنا: «اطلبوا العلم ولو في الصين.» وأي وصية أبلغ من هذه الوصية، في الانفتاح على كافة علوم العصر وفنونه، بكل الثقة في النفس، ثقة يعرفها من يشعر أنه ممسك بالأصل المتين والجوهر الثمين، ولا يعرفها المتعلق بالقشور الغريبة ، وبالفروع الطارئة.
انتهت رسالة الأستاذ أحمد بهاء الدين، وإني لأشكر له هذا الاهتمام وهذه السرعة التي رد بها ، فذلك وحده دليل على حدة وعيه وشدة يقظته للأحداث الثقافية في حياتنا، مما جعله منارة هادية، وأما دوري في هذا الموضوع؛ فأحسبه قد انتهى بما كتبته في مقالتي التي علقت بها على ما كنت قرأته للأستاذ أنيس منصور فيما رواه عن لقائه مع الزملاء للشاعر الروسي بأسوان في أواسط الستينيات، إلا أنني أود أن أذكر نقطتين وردتا في ذهني، في أثناء قراءتي لرسالة الأستاذ أحمد بهاء الدين، أما أولاهما فهي أنه أدار تعليقه على عبارة «الواقعية الاشتراكية»، مع أن العبارة كما وردت في مقالة الأستاذ أنيس منصور، وهو يذكر لقارئه ما كانوا قد أجابوا به على سؤال إيفنتوشينكو هي «الاشتراكية الواقعية»، فهذه العبارة تجعل الحديث منصبا على الاشتراكية، في حين جاءت عبارة الأستاذ أحمد بهاء الدين معكوسة، فجعلت موضوع الحديث هو «الواقعية»، وكان من نتائج هذا الاختلاف أن ربط الأستاذ بهاء الدين إجابة الزملاء ب «الأدب» لا ب «الفكر» بمعناه الشامل، قائلا إنه يتذكر بأن تلك الفترة (أواسط الستينيات) قد شهدت في دنيا الأدب اتجاها نحو «الواقعية».
وأما النقطة الثانية مما ورد إلى ذهني في أثناء قراءتي لرسالة الأستاذ أحمد بهاء الدين؛ فهي التفرقة بين ما هو «أدب»، وما هو «فكر»، ولا شك في أن بينهما فرقا، إلا أنه - فيما أعتقد - مغلف بكثير من الغموض عند أدبائنا ونقادنا معا، مما أدى بهم في أغلب الحالات إلى الظن بأنه لا أدب إلا في الشعر والرواية والمسرحية، وجمعوا هذه الفروع تحت كلمة «إبداع»، مما يوهم بأنه لا إبداع في دنيا الأدب، إلا إذا وقع الكلام تحت فرع من تلك الفروع، وهو ظن بالغ الخطورة؛ لأننا إذا أخذنا به أسقطنا من الأدب كل ما كتبه الأقدمون مما نسميه بالنثر الفني، فلا الجاحظ ولا التوحيدي ولا المعري (في نثره) ولا أضرابهم يكون لهم الحق في دخول عالمهم الذي هو وحده عندهم عالم الأدب، فاعتزمت - وأنا أقرأ رسالة الأستاذ بهاء الدين - أن أخصص ما يبقى لي من فراغ في هذه المقالة لعرض محاولة سريعة قد تساعد على إقامة شيء من التحديد الذي يضبط الفواصل بين ما هو أدب، وما هو فكر، وما هو علم. •••
لنترك الآن ما قد يطلق عليه اسم «الفكر» وعلى صاحبه اسم «المفكر»، ولنحصر انتباهنا بادئ ذي بدء، في «الأدب» من جهة، و«العلم» من جهة أخرى، فهما متضادان كامل التضاد في الخصائص الجوهرية لكل منهما، فما هو أدب لا يكون علما، وما هو علم لا يكون أدبا، ولعل أوسع اختلاف بينهما هو في أن العلم ينظر إلى موضوع بحثه وكأنه ليس في الوجود «إنسان»، في حين أن الأدب ينظر إلى موضوع بحثه وكأنه ليس في الوجود إلا الإنسان، إن العلم حتى وهو يبحث في جانب من جوانب الإنسان يتجاهل أنه إنسان، وينظر إلى الجانب الذي يبحثه وكأنه مجرد ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فلا فرق في تشريح أعضاء الجسم بين أن يكون ذلك التشريح منصبا على جسم إنسان أو على جسم حيوان، ولا فرق في معامل علم النفس بين دراسة ردود الفعل - وأعني ما يسمونه في علم النفس بالأفعال المنعكسة - التي قد تكون، من إحدى وجهات النظر العلمية، هي الأساس الذي تبنى عليه عملية التعلم كلها، أقول: إنه لا فرق في معامل علم النفس بين أن تكون الكائنات موضوع الدراسة التجريبية آدميين أو من الفئران، وهكذا نرى أنه بينما العلم «يطبعن» الإنسان إذا كان هذا الإنسان موضوعا لبحثه (إذا صح لنا استخدام هذه الكلمة، بمعنى أن العلم يحول الظاهرة الإنسانية التي يجعلها موضوع تجاربه العلمية وأبحاثه، يحولها إلى مجرد ظاهرة طبيعية.) وأما الأدب فهو على عكس ذلك تماما، «يؤنسن» الطبيعة، مرة أخرى نقول (إذا صح لنا استخدام هذه الكلمة، لتعني أنه يحول الظاهرة الطبيعية في خياله إلى إنسان.) فكلنا يعلم كيف يتعامل الأديب مع أجزاء الطبيعة التي يختارها ليربط الصلة بينه وبينها، فترى الشاعر - مثلا - ينفخ من حياته هو حياة في الجبل أو النهر أو الزهرة أو القمر أو ما شاءت له نوازعه الشاعرة أن تختار من كائنات طبيعية ليعايشها، فهو في كل حالة من تلك الحالات لا يتصور إلا أنه إنما يخاطب كائنا حيا، يبادله شئونه وشجونه وخواطره ونشواته، وإنه لمن أجمل ما قرأته في كل ما قرأت من شعر عربي وغير عربي، عن طبيعة الشعر نفسه، وكيف أنه هو الذي يبث الحياة في الوجود بكل كائناته، ثم هو اللسان الذي تتحدث به الحياة إلى الحياة، بغض النظر عن اختلاف الكائنات الحية، وجميع الكائنات في قلب الشاعر وخياله إنما هي من الأحياء، أقول: إن من أجمل ما قرأته لشاعر في هذا المعنى هو ما ورد في قصيدة طويلة للعقاد، بعنوان «الحب الأول»، ومما يقوله في ذلك، هذه الأبيات الثلاثة:
والشعر ألسنة تفضي الحياة بها
إلى الحياة بما يطويه كتمان
لولا القريض لكانت - وهي فاتنة -
خرساء ليس لها بالقول تبيان
Página desconocida