إن نعيمي بعقيدتي صادر من كونها عقيدة مكنتني من الشعور بإنسانيتي إلى آخر المدى الذي استطاعته جبلتي، ولو كانت الطبيعة التي جبلت عليها أرحب وأعمق وأقوى، لاشتد ذلك الشعور بإنسانيتي أغوارا وأبعادا ، ولكن حسبي من عقيدتي أن كانت حافزا لكل ذرة من قدرة ولدت بها أو اكتسبتها من عرك الحياة والتمرس بخبراتها، وقد كان من الممكن لعقيدة أخرى - لو كان الله قد أراد لي عقيدة أخرى - أن تضع في طريق ملكاتي البشرية قيودا وعثرات تعرقل انطلاقها ونماءها بكثرة حرامها وقلة حلالها، ولست بمستطيع في بضع صفحات أن أتقصى كل الجوانب التي تجمعت لي من أصول عقيدتي وتآزرت لتفسح أمامي مجال الشعور بإنسانيتي إلى آخر ذرة في طاقتي، ولكن جانبا واحدا هنا يكفيني، وهو أن أتخلق بصفات ربي، فأكون واحدا أحدا، كما أنه سبحانه وتعالى واحد أحد، مع الفارق اللامتناهي في حدوده بين الإنسان وربه، فتلك الصفات بالنسبة إلى الخالق جل وعلا لا نهاية لحدودها، ولكنها في البشر تكون محدودة بقصور الطبيعة البشرية وحدودها، هكذا قال لنا فقهاء الدين وعلماؤه، وما كنت لأقوله من عندي؛ لأنني لست من الفقهاء، ولا من العلماء في مجال الدين، ولكنني مسلم أشعر - مستلهما عقيدتي - بما قد يجيء الفقهاء والعلماء بعد ذلك فيتناولونه بالتحليل والتأصيل.
وأما الواحدية؛ فهي ما نعبر عنه بلغتنا الدارجة بقولنا «فردية»، فأنا بين سائر البشر فرد لا يشاركني في خصائصي بكل تفصيلاتها فرد آخر؛ وهكذا شاء رب العالمين للناس أن يكونوا أفرادا، لكل فرديته التي تميزه وحده، فحتى لو تشابه مع نوعه في ألف ألف صفة، فهو يتوحد بفرديته ببضع خصائص، وأما «الأحدية» فهي التي قد نقول عنها بلغتنا الدارجة حين نصف إنسانا سليما سويا إنه لا ينقسم على نفسه، بمعنى أن قواه الفطرية لا يتنازع بعضها مع بعض، بل هي متعاونة متآزرة على السير في طريق واحد، نحو غايات واضحة ونبيلة، إذ كثيرا جدا ما يقع الإنسان فريسة حرب داخلية بين مختلف نوازعه: العقل يملي عليه بشيء، والعاطفة تدفعه إلى شيء آخر، وبين العقل والعاطفة تأخذه الحيرة والاضطراب.
وإنها لنعمة كبرى أن يكون للفرد من الناس ما يحقق له فرديته تلك، ثم أن يجد ذلك الفرد في طوية نفسه مصالحة مطمئنة بين مختلف الدوافع والقوى، وفرق بعيد بعيد بين أن يكون الإنسان معتنقا لعقيدة تؤيده فيما يبتغيه بفطرته، وبين أن تشده عقيدته في ناحية وتشده الفطرة في ناحية أخرى، ولست أقول بذلك إنني قد بلغت من تلك النعمة أقصى مداها، كلا، فلم يشأ لي ربي أن يكون في جبلتي ذلك السواء كله، وتلك الطمأنينة كلها، فالناس في هذه النعمة يتفاوتون، وإني لأحمد الله على نصيبي منها، وحسبي أن أكون على وعي بها، فذلك الوعي بالنعمة هو في ذاته نعيم على نعيم.
ولقد أجمع أهل الفكر في عصرنا على أن من أبشع آفات هذا العصر آفة جاءت نتيجة طبيعية مباشرة لأروع ما يتميز به من حسنات، وأعني بها نزوعه إلى «العلم» بأسرار الكون، نزوعا لم يعهده الإنسان قبل ذلك في أي عصر من عصور التاريخ، وهو علم تولدت عنه صناعة من طراز فريد، لم يكن يعرفه ولا يحلم به الإنسان فيما مضى من حضارات، ثم تولد عن العلم وذيوله الصناعية ضرب من الحياة أفقد «الفرد» الإنساني كثيرا جدا من فرديته، وكثيرا جدا من طمأنينته بنفسه التي هي ناتج الأحدية (أعني اتساق القوى الباطنية فيه) فاستبد بالإنسان في هذا العصر قلق وضجر وسأم ويأس، بدرجة فاقت - هي الأخرى - ما كان قد أصاب الإنسان منها في أي مرحلة سابقة من مراحل التاريخ، وإنني كلما رأيت مفكرا منهم يحلل تلك الآفة العصرية، باحثا لها عن علاج، سمعت في صدري صوتا يقول إن علاج ذلك هو في شعور المسلم بواحديته وأحديته لا بدافع من فطرته وكفى، بل كذلك بحض من عقيدته.
وعلى هذا النحو أنعم بعقيدتي، وإنما اكتفيت هنا بذكر مصدر واحد من مصادر تلك العقيدة، وكان يمكن أن تضاف إليه عشرات، وكان لا بد لي في مقابل تلك النعمة النفسية أن أشعر بقوة الدفع نحو واجب أؤديه لتلك العقيدة التي أفيء إلى ظلها ولم يكن الواجب الذي تصورته سيفا أحمله، ولا حتى مالا أنفقه، ولا ضيقا في صدري نحو من لا يرون رؤيتي ويعتنقون عقيدتي، بل كان «كلمة» أرددها وألح في ترديدها وأكتبها ولا أمل من كتابتها، وهي الدعوة إلى القوة التي تلائم هذا العصر، وهي قوة أولها «العلم» وأوسطها «العلم» وآخرها «العلم».
هي قوة أولها التزود بعلوم العصر، وأوسطها مزيد من ذلك العلم، وآخرها مزيد من المزيد.
ويا لشقائنا من كلمات نملأ بها أفواهنا دون أن نحدد لها معانيها التي نريدها لها، فأنت إذا دعوت إلى علم وإلى مزيد من علم جاءتك أصوات غاضبة من كل ناحية: أي علم تريد يا مولانا والعلماء عندنا يعدون بعشرات الآلاف، «الدكاترة» بل الدكاترة وحدهم من هؤلاء العلماء يبلغون عشرات الآلاف! إذن فكلمة «العلم» في هذا السياق تريد التوضيح والتحديد، العلم بماذا؟ ولهذا السؤال ما يبرره؛ إذ إن كلمة «العلم» هذه قد أطلقت على أشياء مختلفة في العصور المختلفة، بل إنها في العصر الواحد لتطلق على ميادين يختلف بعضها عن بعض اختلاف الأبيض عن الأسود، فقد كان العلم في العصر اليوناني القديم، ثم على العصور التي توالت بعد ذلك حتى عصر النهضة في أوروبا إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أقول إن العلم خلال ذلك الدهر المديد يعني عند أصحابه - في معظم الحالات - أن يكون بين يدي العالم قول ما، فيستخرج هو منه ما قد كان مضمرا فيه ليجعله ظاهرا، وليس هذا بالأمر الهين؛ لأن المسألة في ذلك تحتاج إلى قدرة على التحليل تنصب على القول المعين المبدوء به لتستولده معانيه الكامنة فيه، فما أيسر على الإنسان العادي - مثلا - أن يقول عن البحر أو عن الجبل أو ما شاء إنه «جميل»، أما الذي هو مضمر في فكرة «الجمال» من عناصر وصفات فهيهات على الإنسان العادي أو من هو فوقه بقليل أن يستطيع استخراجها من جوف الموقف المشار إليه بصفة الجمال، وقل شيئا كهذا عن صفة «الفضيلة»، فالكلمة جارية على كل لسان، ولكن ماذا تضمر تلك الكلمة في ثناياها من معان؟ ذلك هو ما يحتاج إلى تحليل لا يقوى عليه إلا «العلماء» بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بين القدماء. وأحب أن أوجه الانتباه إلى جانب عظيم الأهمية هنا، وهو أن الفكر الرياضي كله إنما يقوم على مثل هذا الضرب من التحليل، فلا عجب أن يبلغ القدماء من اليونان إلى العرب من بعدهم ما بلغوه في علوم الرياضة، فلما جاءت النهضة الأوروبية كان موضع نهوضها الأساسي هو أنها أضافت (وأرجوك الالتفات إلى كلمة أضافت هذه)، أضافت إلى ذلك النوع من العلم الذي قوامه أن يستولد الرموز اللغوية والرياضية ما يمكن أن يتولد عنها نوع آخر كان موجودا قبل ذلك في أضيق الحدود، وهو أن ينصب جهد «العلم» على الطبيعة وظواهرها انصبابا مباشرا، فليس المطلوب هو فقط أن نضع بين أيدينا جملا لغوية أو تركيبات من رموز الرياضة لنرى ما الذي نستطيع استخراجه منها، بل مطلوب كذلك أن «نقرأه على الطبيعة»؛ لأنها بدورها بمثابة كتاب مفتوح يراد له أن تفك رموزه حتى ينكشف عن سره الغطاء، ومن هنا نشأ في النهضة الأوروبية منهج جديد «يضاف إلى المنهج السابق عليه ليستطيع العلماء الجدد أن يقرءوا كتاب الطبيعة كما استطاع السابقون عليهم أن يقرءوا بمنهجهم ما أرادوا قراءته من صحائفهم، وأعني بكلمة قراءة هنا - كما هو واضح - عمليات التحليل التي تستخرج من الشيء المعروض مضموناته الكامنة في أصلابه».
وكما كان أرسطو إماما للمرحلة الأولى كلها، وقد امتدت ما يقرب من عشرين قرنا، إماما بصياغاته لقواعد المنطق ومبادئه التي بها يتم استدلال صحيح من قول مقدم إلى قول ينتج عنه، كان نيوتن هو إمام المرحلة الثانية، وذلك من حيث رؤيته للكون رؤية تحيله إلى مادة وحركة، وهو يخضع في كل ذلك لحتمية صارمة، فالأشياء نفسها ذات قصور ذاتي رأى أنها لا تحرك نفسها بنفسها، بل لا بد للشيء إذا تحرك أن تجيء حركته بفعل عوامل خارجية عنه، وذلك وفق القوانين الحتمية الصارمة التي أشرنا إليها.
وامتدت ريادة نيوتن إلى أواخر القرن الماضي، حين أضيفت (ومرة أخرى أرجو الالتفات إلى كلمة أضيفت هذه) فكرة جديدة تستتبع رؤية أخرى تسد مواضع نقص كانت قد تبدت في نظرة نيوتن ، وذلك حين وجد أن قوانين الحركة عند نيوتن تنطبق على مجالات دون أخرى، فهي لا تشمل الذرة الصغيرة من حيث حركة كهاربها، كما أنها لا تشمل الأبعاد الفلكية فيما وراء المجموعة الشمسية، فظهر للمرحلة الثالثة - وهي المرحلة التي نجتازها نحن في عصرنا هذا - رائد جديد برؤية جديدة هو أينشتين وفكرة النسبية.
وبهذا العلم في صورته الجديدة كان ما كان من تطور سريع في الأجهزة العلمية التي هي وليد مباشر للعلم في صورته الراهنة، فهل نفتري على الحق كذبا إذا قلنا إن العالم الإسلامي قد احتفظ بمنزلته الريادية طالما كان العلم منصبا على أشياء لم تكن هي كتاب الطبيعة وبمنهج لم يكن هو منهج العلوم الطبيعية، أما بعد ذلك منذ رفع نيوتن لواء علم جديد، ثم تبعه في عصرنا أينشتين ليرفع لواء آخر لرؤية أخرى، فقد أصبحت القوة لغير العالم الإسلامي، بل أخذت أجزاء هذا العالم تهوي أمام القوة الجديدة جزءا بعد جزء حتى بات العالم الإسلامي كله في أيدي من غزوه من أصحاب العلم الجديد.
Página desconocida