وربما قيل إن أوروبا حين احتفظت بتراثها الفكري لتضمه إلى الحركة الكشفية العلمية أيام نهضتها، فإنما كانت تضم قديمها هي إلى حديثها هي، فلا تناقض، أما نحن إذا حاولنا مثل هذا الضم، فإنما نحاول به الجمع بين قديمنا نحن وجديدهم هم، وهنا التناقض فيما يظهر، لكن اعتراضا كهذا ليس صحيحا على إطلاقه، لأن الجانب الديني من مقومات الحضارة الأوروبية الجديدة، لم يكن يونانيا ولا غير يوناني من السلف الأوروبي، إنما هو عقيدة مسيحية - على الأغلب - هبطت وحيا على عيسى - عليه السلام - وهو على أرض فلسطين، ولبثت بضعة قرون فيما يسمى الآن بالشرق الأوسط، قبل أن تعبر البحر إلى روما فإلى سائر أنحاء أوروبا.
رافدان لا بد من جمعها معا في بنائنا الثقافي الجديد: موروثنا الحضاري الثقافي من جهة، وما أبدعه الغرب في العصر الحديث من جهة أخرى، ولئن كان الجانب الأول سيلزمنا بالدوران في نصوصه، حفظا واستدلالا، فإن الجانب الثاني لكونه يعالج «الأشياء» فسوف يدفعنا دفعا إلى ارتياد الكون المحيط بنا، فننعم عندئذ بضرب من الحرية لا أظننا قد ألفنا منه الشيء الكثير، وهي الحرية المغامرة في الهواء الطلق، غير منحبسة في نصوص نحفظها ونشرحها ونستدل منه نتائجها، كلا الجانبين ضروري ومطلوب لتولد أمة عربية ناهضة على جناحين، هما تاريخها وتراثها الحيوي من ناحية، وحاضرها بعلومه وفنونه وبعض نظمه من ناحية أخرى.
تعليق على مقال شرح وتشريح
حمدي غيث
قرأت في عدد الأهرام الصادر يوم الإثنين الماضي مقال الدكتور زكي نجيب محمود بعنوان «شرح وتشريح»، وأنا واحد من الذين يتابعون باستمرار كتابات ذلك المفكر العظيم الذي جعل همه الأول الدعوة إلى إعمال العقل وإعلاء الفكر العلمي ليحكم سلوكنا، وليكون منهجا لحركتنا الاجتماعية والسياسية، بل وسلوكنا الفردي، وهو بلا شك يكابد من جراء هذه الدعوة كثيرا من العنت ويتحمل كثيرا من العذاب، ولكنه لا يفصح عن هذا فيما يكتب، وإن كان المرء لا يفوته أن يدركه من خلال كلماته الصادقة العميقة المفعمة بالمعاناة من أجل الحقيقة.
تحدث الدكتور في مقاله عن «حرية التفكير»، وأخذ في تشريح وشرح ما تحتمله هذه العبارة من معان ومقاصد، وكان تعريفه لحرية التفكير بأنها «عملية ذهنية لرسم خطة عمل نحقق بها هدفا ما»، كان هذا التعريف جامعا مانعا كما يقول المناطقة، ولكن مع ذلك فليسمح لي أستاذي الدكتور أن أختلف معه في تشريحه بعد ذلك لمعنى «حرية التفكير» ومضمونها.
إن مقتضى تعريفه السالف يعني أن هناك حدين لحرية التفكير هما أولا «العملية الذهنية»، وثانيا «الخطة التي تحقق هدفا ما»، والدكتور ركز على أن ما يعتور حرية التفكير إنما يكون فيما يحدث من تداخلات وعوائق في رسم الخطة وتحديد الأهداف، وأخذ يضرب الأمثال على ذلك بمن يضع خطة للسفر، أو بمن يضع خطة للتعليم، وأنه يجب أن تكون هناك علاقة واحد بواحد، أي علاقة مشاكلة كاملة بين الفكرة ومشروعها، وأنه عندما يحدث خلل في هذه العلاقة لسبب ما كتدخل ذوي السلطان تنعدم الحرية عندئذ، وهذا كله حق، ولكن الدكتور قصر حديثه على «الخطة» ولم يتحدث عن «العملية الذهنية» نفسها، وقد يتوهم واهم أن «العملية الذهنية» - لأنها عملية حيوية - تتم داخل دماغ شخص ما لا يمكن أن تخضع لصاحب سلطان، أي لا يمكن أن يكون لأحد سلطان عليها بالمنع أو الخوف أو الإضافة، ولكن السلطان يفعل فعله عندما يبدأ الشخص (المفكر) في وضع «خطته»، فأنا يمكن أن أرسم خطة العمل بملء حريتي في ذهني، (خطة سياسية أو اجتماعية أو هندسية أو فنية) ولكن عندما أريد أن أخرج بها إلى مجال التنفيذ قد أصطدم بمن يريد أن يغيرها بالحذف والإضافة، إما لأن أهدافه تختلف عن أهدافي، وإما لأن فهمه وثقافته ومعطياته العقلية تختلف عما يخصني مما يترتب عليه اختلاف العملية الذهنية نفسها في الأساس.
وهنا إما أن أرضخ لهذا الشخص لأنه صاحب سلطان، فأغير وأبدل وأضيف وأحذف في «خطتي»، وأفقد حريتي، وإما أن أقاوم من أجل حريتي.
وعلى أية حال فإن هذا القهر الذي يقع على «الخطة» و«تنفيذها» هو أهون ألوان القهر؛ لأنه تدخل في المظهر الخارجي ل «التفكير»، هو محاولة لمنع التفكير من أن يحقق ذاته، ولكنه يدع «المفكر» قادرا على المقاومة، أما أسوأ ألوان القهر، وهو ما لم يتحدث عنه الدكتور، فهو ما يقع على «العملية الذهنية نفسها»، هو ما يكمن في عقل المفكر من عوامل الضغط والإرهاب، أو عوامل الزيف والغش والتدليس، وهي عوامل قد تكون قديمة، كالتقاليد والمسلمات الدينية، التي قد تكون أقوى وجودا من المسلمات الرياضية، وقد تكون آنية كالدعاية وعمليات غسل المخ الملحة التي تقع تحت تأثير أشد العقول ذكاء وفهما، فتفقد الوعي دون أن تعي ذلك.
ومن هنا فإنه لكي تتحقق «حرية التفكير» لا بد من أن يكون «المفكر» حرا من الضغط الخارجي المادي الذي يقع على «خطته» ومن الضغط الداخلي المعنوي الذي يقع على «عمليته الذهنية»، ولا بد من أن يكون المفكر قادرا على أن يقاوم كل المؤثرات التاريخية والآنية، مادية كانت أو معنوية، ليتحقق له إجراء «العملية الذهنية» ووضع «الخطة» دون أي تأثير ينحرف بهذه أو تلك عن الهدف المنشود، يجب أن يكون «المفكر» عاريا تماما إلا من إيمانه بالهدف الذي يريد أن يحققه.
Página desconocida