وماذا تقول في فئة من خيرة أعلامنا وهم يشغلون أنفسهم في وسائل الإعلام على اختلافها، بمسائل كهذه: من الذي يشفي المريض أهو الله سبحانه وتعالى أم الطبيب ودواؤه؟ من الذي انتصر في حرب 1973م، أهي قواتنا المسلحة وحدها، أم ساعدتهم على هذا النصر كائنات من الغيب المجهول؟ ما الذي أدى بالطالب المتفوق أن يتفوق، أهو جهده فقط أم كان هناك فوق جهده ما ليس يدريه؟ قل لي: بأي انطباع يخرج القارئ أو السامع لهذه الأمثلة والمناقشات التي تدور حولها؟ أليس من المحتمل أن يؤثر ذلك فيمن هو ضيق الأفق بطبعه، ضعيف الإرادة بطبعه، إلى أن يترك حياته كالسائمة السائبة في الفلاة لا تعرف اتجاها لسيرها، ولا هدفا تسعى إلى بلوغه، وأحب هنا أن أكون واضحا، حتى لا يسيء الفهم من يسيء عن عمد أو عن غفلة، فاعتراضي ليس منصبا على مشيئة الله سبحانه وتعالى، ولا على العوامل التي تعمل على أن نوفق أو لا نوفق في حياتنا، ولكن اعتراضي منصب على أن نجعل هذه الأمور موضوعا للسؤال والحيرة، فالمطلوب من الإنسان أن يحيا بكل جهده وبكل قدراته. وفوق ذلك يكون من مشيئة الله سبحانه وتعالى ما يشاؤه نتقبله مؤمنين. وإلا فليقل لي من يبلبلون أذهان شبابنا بأمثال هذه المسائل: على أي صورة يتغير سلوك المريض، إذا أقمت أمامه السؤال الأول فيما ذكرناه؟ أيذهب إلى الطبيب ويترشد بتوجيهه أم ينصرف عنه؟ فإذا كان الجواب هو أنه يجب أن يعرض حالته على الطبيب؛ فماذا إذن يغير منه أن تثار أمامه مشكلة كالتي ذكرناه؟ وأمثال ذلك كثير في وسائلنا الإعلامية، وعلى ألسنة أعلام من أعلامنا وبأقلامهم ، فانظر إلى هذا الجهد الذي يبذلونه وهم لا يريدون لأحد أن يغير من سلوكه شيئا على ضوء ما يسمعه أو يقرؤه.
وهكذا انسابت خواطري، فعدت إلى قلمي الذي تركته غاضبا، حين قد ثقل بين أصابعي، فأجريته ليخط على الورق هذا الذي أثاره عندي ما سمعته في المذياع الصغير عن كوريا ونهضتها، مما لم أكن أعلم منه إلا أقل من القليل.
الفصل الرابع
شرح وتشريح
عن حرية التفكير الجريحة أتحدث
إنني أوثر ألا أصل إلى بغيتي بأقصر الطرق؛ لأنني لو فعلت ذلك لأضعت على نفسي وعلى القارئ معالم هامة أريد لها أن تكون موضع السمع والبصر؛ ولذلك سأصحب القارئ في خط دائري يدور حول موضوع الحديث، قبل أن نمسه مسا مباشرا. وأما هذا الخط الدائري الذي أعنيه فهو لمحات من المنهج العلمي؛ لأني أرى في تلك اللمحات معينا قويا على مواجهة الموضوع الذي هو هدف الحديث.
أما اللمحة المنهجية الأولى فهي أن نتبين أوضح ما يكون التبين وأقواه، بأن أي لفظ من ألفاظ اللغة التي تستخدمها فيما تقول وما تكتب، ليس هو «الشيء» الذي جاء ذلك اللفظ ليعنيه، أي ليشير إليه، أو لينوب عنه؟ فلفظة «كرسي» ليست هي الكرسي الشيء الذي تجلس عليه، وكلمة «لحم» ليس فيها شيء من البروتين الحيواني الذي يتغذى به الجسم؟ وكلمة «أسد» لا تزأر ولا تفترس، إن أية كلمة منطوقة إنما هي موجات الهواء تلفظها الشفتان عند مرسلها، وتتلقاها الأذن عند سامعها.
وأية كلمة مكتوبة إن هي إلا قطرة من مداد جفت على الورق، ذلك إذا كان كاتبها قد استخدم لها قلم الحبر والورق.
لكن ألفاظ اللغة تلك ليست هي كل شيء، إنما هي «رموز» اصطلح عليها أصحابها، لتنوب كل منها عن الشيء الذي أريد لها أن تنوب عنه، وذلك لاستحالة أن نقدم - بعضنا إلى بعض - الأشياء نفسها عند التفاهم، فليس بوسعي أن أقدم لك فيلا كلما أردت أن أحدثك بشيء عن الفيل، فتواضعنا أنت وأنا على أن تنوب هذه اللفظة عنه، ليتم بيننا الحديث الذي أردناه. على أن من الألفاظ ما صنعناه لا ليدل على شيء بعينه، بل ليدل على «علاقة» قائمة بين أشياء، مثل كلمة «بين» التي ذكرتها لتوي! فإذا قلت لسامعي: إن مدينة المنيا تقع بين القاهرة وأسيوط؛ كان الموجود القائم على أرض الطبيعة ثلاث مدن، هي المذكورة في الجملة، وأما «بين» فليست تشير إلى «شيء» بل تشير إلى علاقة معينة تربط الأشياء على صورة محددة، وإذا أعدت النظر إلى الجملة المذكورة، وجدت كلمات أخرى لا تسمي أشياء، بل تشير إلى علاقات تصل الأشياء بعضها ببعض، أو تصل الأشياء بالمتكلم نفسه، وشرح ذلك يطول، ولكن يكفينا عن «حرية التفكير»، ولكي أقيم الحديث عن أرض في صلابة الحديد، صممت على أن أشرك القارئ معي في «منهج» التناول ومحور المنهج هنا هو أن تقف عند العبارة نفسها أولا، أعني العبارة التي جعلناها موضوعا لحديثنا؛ إذ ما جدوى أن نتحدث قبل أن نتفق، بادئ ذي بدء، على حقيقة ما أردنا أن ندير حوله الحديث، فالعبارة المشار إليها مؤلفة من لفظتين: «حرية» و«تفكير»، على أن اللفظتين لم نرد لهما أن تكونا مستقلتين إحداهما عن الأخرى، بل أضفنا إحداهما إلى الأخرى، والمضاف إليه هو «التفكير»، والمضاف هو الحرية، وإذن فالتفكير وطبيعته وحقيقته هو الأساس، ثم بعد ذلك تجيء الصفة المعينة التي قصدنا إليها وهي صفة أن يكون ذلك التفكير «حرا»، فماذا نعني بتلك الصفة حين تضاف إلى التفكير، وذلك لأنها قد تصف أشياء أخرى كثيرة، ليست هي جزءا من موضوع حديثنا هذا.
ونبدأ «بالتفكير» ماذا يعني؟ وأرجوك أن تستحضر في ذهنك ما قد أسلفناه، وهو أن «اللفظة» ليست هي «الشيء» الذي جاءت اللفظة لتشير إليه، فنحن الآن نسأل عن ذلك «الشيء» الذي تعنيه كلمة تفكير، وأول ما نجيب به هو أن الشيء المطلوب في هذه الحالة المعينة هو «عملية» مؤداها شديد الشبه بالعملية التي يؤديها من أراد أن يقوم برحلة، فرسم لرحلته المرتقبة خريطة تبين طريق السير ومراحله؛ فإذا كانت الخريطة قد رسمت بدقة، جاءت الرحلة على أرض الواقع مطابقة لها مرحلة فمرحلة فهدفا منشودا، «وعملية التفكير» هي من هذا القبيل نفسه، مع اختلاف الأهداف وتنويعها، ويكون التفكير سليما ودقيقا؛ بقدر ما نجد أنفسنا أثناء التنفيذ موفقين خطوة بعد خطوة حتى نبلغ ختام الرحلة، فإذا هو الهدف الذي ابتغيناه لأنفسنا منذ البداية، وعلى سبيل التوضيح أحكي لك ما يأتي: لقد أردت لرحلتي صيف هذا العام (1984م) أن أقضي أسبوعا في مكان ما، وكعادتي دائما، أردت أن أعد كل ما يمكنني إعداده من تفصيلات التنفيذ قبل أن أبدأ السير، وكان بين تلك التفصيلات أن لجأت لإحدى الشركات لتحجز لي غرفة في المكان المقصود، من يوم كذا إلى يوم كذا، وتم كل شيء في إعداد «الخريطة» أو قل إنني أتممت عملية «التفكير»، فلما وصلت إلى المكان المقصود، فوجئت بأن الغرفة قد حجزت لي في أيام أخرى غير الأيام التي أردتها، وكان ما كان من عناء، فها هنا ترى أن «التفكير» لا بد أن يكون قد حدث فيه «خطأ» ما، هو الذي ظهر على الصورة التي ظهر بها عند التطبيق.
Página desconocida